الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) .
قال بعضُ السلفِ: أيهم أزهدُ في الدنيا، وأرغبُ في الآخرةِ، وجعل ما
في الدنيا من البهجةِ والنُضرةِ محنةً لينظر من يقفُ منهم معه، ويرْكَنُ إليه.
ومن ليسَ كذلك، كما قال تعالى:(إِئا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، ثمَّ بيّن انقطاعَهُ ونفادَهُ، فقال:(وَإِنَّا لَجَاعِلونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا) ، فلمَّا فهِمُوا أنَّ هذا هو المقصودُ من الدنيا، جعلُوا
همَّهم التزودَ منها للآخرةِ التي هي دارُ القرارِ، واكتفُوا منَ الدنيا بما يكتفِي به
المسافرُ في سفر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كرَاكبٍ قالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وترَكها".
ووصَّى صلى الله عليه وسلم جماعةً من الصحابةِ أن يكونَ بلاغُ أحدِهم من الدنيا كزادِ الراكبِ، منهم: سلمانُ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجراح، وأبو ذرٍّ، وعائشةُ، ووصَّى ابنَ عمرَ أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وأن يعُدَ نفسَهُ من أهلِ القبورِ.
* * *
قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
قوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا:
"وأسألُك لذة النظرِ إلى وجهِكَ والشوقَ إلى لقاتِكَ من غيرِ
ضراءَ مضرة ولا فتنة مضلة".
فهذا يشتملُ على أعْلَى نعيم المؤمنِ في الدنيا والآخرةِ، وأطيبِ عيشٍ لهم
في الدارين.
فأمَّا لذَّةُ النظرِ إلى وجهِ اللَّهِ عز وجل: فإنَّه أعْلَى نعيم أهلِ الجنةِ، وأعظمُ
لذَّة لهم، كما في "صحيح مسلم " عن صُهيبٍ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادى المُنادي: يا أهلَ الجنةِ إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يُريد أن يُنجزَهُ، فيقولونَ: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهَنا ألمْ يثقلْ موازيننَا ألم يُدخِلنا الجنةَ ألم يُجِرْنَا من النارِ؟
قال: فيكشفُ الحجابَ فينظرونَ إليه، فوالله ما أعطاهُم شيئا هو أحبُّ إليهِم من النظرِ إليه، وهو الزيادةُ"، ثم تلا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هذه الآية:(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) .
وفي رواية لابن ماجة وغيرِه، في هذا الحديث: "فوالله ما أعطاهُم شيئًا هو
أحبُّ إليهِم ولا أقر لأعينِهِم من النظرِ إليهِ ".
وخرَّج عثمانُ الدارمي، من حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا:
"إنَّ أهلَ الجنةِ إذا بلغَ بهم النَّعيمُ كلَّ مبلغٍ فظنوا أنَّه لا نعيمَ أفضلَ منه، تجلَّى الربُّ تبارك وتعالى عليهم، فينظرونَ إلى وجهِ الرحمن، فنسُوا كلَّ نعيم عاينُوه حين نظرُوا إلى وجهِ الرحمن ".
وخرَّجه الدارقطنيُّ بنقصان منه وزيادة، وفيه: "فيقولُ:
"يا أهل الجنةِ هلِّلوني وكبِّرونِي وسبِّحُوني، كما كنتُم تُهلِّلُوني وتكبرونِي وتسبِّحُوني في دارِ الدنيا، فيتجاوبونَ بتهليلِ الرحمنِ، فيقولُ اللَهُ تبارك وتعالى لداودَ عليه السلام: يا داودُ مجّدْني فيقومُ داودُ فيمجدُ ربَّه عز وجل ".
وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن جابرٍ، مرفوعًا: "بينا أهلُ الجنةِ في نعيمِهِم إذْ سطَعَ
لهم نور فإذا الربُّ جل جلاله قدْ أشرفَ عليهم، فقالَ: السلامُ عليكُم يا أهلَ الجنةِ، وهو قولُهُ تعالى:(سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) .
فلا يلتفتونَ إلى شيءٍ مما هُم فيه من النعيم ما دامُوا ينظرونَ إليه ".
وخرَّج البيهقيُّ من حديثِ جابرٍ، مرفوعًا:
"إنَ أهلَ الجنةِ يزورونَ - ربَّهم تعالى على نجائبَ من ياقوت أحمرَ أزمَّتها منْ زُمُردٍ أخضرَ، فيأمرُ اللَّهُ بكُثبانٍ من مسكٍ أذفرَ أبيضَ فتُثيرُ عليها ريحًا يقال لها: المثيرةُ، حتى تنتهِي بهِم إلى جنةِ عدنٍ وهي قصبة الجنةِ، فتقولُ الملائكةُ: ربَّنا جاء القومُ، فيقولُ: مرحبًا بالصادقينَ مرحبًا بالطائعينَ، قال:
فيكشفُ لهم الحجابُ، فنيظرونَ إليه ويتمتَّعونَ بنورِهِ حتَى لا يُبصرُ بعضُهم بعضًا ثم يقولُ: ارجعُوا إلى القُصورِ بالتحفِ، فيرجعونَ وقد أبصرَ بعضُهم بعضًا، فذلكَ قولُهُ تعالى:(نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رحِيمٍ) ".
وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ حذيفةَ مرفُوعًا في حديثِ يومِ المزيدِ:
"أنَّ اللهَ يكشفُ تلكَ الحُجُبَ ويتجلَّى لهُم، فيغشَاهُم من نورِه ما لولا أنَ اللَّه تَعالى قضى أنْ لا يحترقوا لاحترقُوا، ومِمَّا غشيَهُم من نور، فيرجعونَ إلى منازِلِهم وقد خفوا على أزواجِهِم ما غشيَهُم من نورِهِ، فإذا صارُوا إلى منازِلهِم تراد النورُ وأمكن وتراد وأمكن، حتى يرجعوا إلى صُورِهِم التي كانُوا عليْهَا".
ويُروى من حديثِ أنسٍ، مرفوعًا:
"إنَّ اللَّهَ يقولُ لأهلِ الجنةِ إذا استزارهم وتجلَّى لهُم: سلامٌ عليكُم يا عبادِي، انظرُوا إليَّ فقدْ رضيتُ عنكُم، فيقولونَ: سبحانَك
سبحانَك، فتتصدعُ له مدائنُ الجنةِ وقصورُها ويتجاوبُ فصولُ شجرِها، وأنهارِها وجميع ما فيها: سبحانك سبحانك، فاحتقرُوا الجنَّةَ وجميعَ ما فيها، حين نظرُوا إلى وجهِ اللَّهِ تعالى".
ويُروى من حديثِ عليٍّ، مرفوعًا: "إنَّ اللَّهَ يتجلَّى لأهلِ الجنةِ عن وجهِهِ.
فكأنَّهُم لم يروا نعمةً قبلَ ذلك، وهو قولُه:(وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ".
ويُروى من حديثِ أبي جعفرٍ مُرسلاً: "إنَّ أهلَ الجنةِ إذا زارُوا ربَّهم تعالى
وكشفَ لهم عن وجهِهِ، قالُوا: ربَّنا أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ وبكَ حقُّ الجلالِ والإكرام، فيقولُ تعالى: مرحبًا بعبادِي الذين حفظوا وصيَّثتي ورَاعُوا عهدِي وخافُوني بالغيبِ، وكانُوا منِّي على كلِّ حال مُشفقينَ.
فقالُوا: وعزَّتِكَ، وعظمتِكَ وجلالِكَ ما قدرْنَاكَ حقَّ قدرِكَ، وما أدَّيْنا إليكَ كلَّ حقِّكَ، فأذنْ لنا بالسجودِ لك، فيقول لهُم عز وجل: إنِّي قد وضعتُ عنكُم مؤنةَ العبادةِ، وأرحتُ لكُم أبدانَكُم، فطالمَا أنصبتُم لي
الأبدانَ، وأعنيتم الوجوهَ، فالآنَ أفضيتُم إلى رَوحِي ورحمتِي وكرامتِي، فسلُونِي ما شئتُم وتمنَّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكُم، فإني لم أجزْكُمُ اليومَ بقدرِ أعمالِكُم، ولكن بقدرِ رحمتِي وكرامتِي، فما يزالونَ في الأمانيِّ والعطايا والمواهبِ، حتى إنَّ المقصّرَ منهم في أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا منذ خَلقَهَا اللَّهُ إلى أنْ أفناها، فيقولُ لهم الربُّ تبارك وتعالى:
لقد قصَّرتم في أمانيِّكُم ورضيتُم بدونِ ما يحقُّ لكُم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتُم وتمنيتُم، وألحقتُ بكم ذريتَكُم وزِدتُكُم ما قصرَتْ عنه أمانيُّكُم ".
قال عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى: إذا تجلَّى لهم ربُّهم لا يكونُ ما أعطوا عند
ذلك بشيءٍ.
قال الحسنُ: إذا تجلَّى لأهلِ الجنةِ نسوا كلَّ نعيم الجنَّةِ.
وكان يقولُ: لو علمَ العابدونَ أنَّهم لا يرونَ ربَّهم في الآخرةِ لماتَوا.
وقال: إنَّ أحباءَ اللَّهِ هم الذينَ ورِثُوا طيبَ الحياةِ وذاقُوا نعيمَها بما وصلُوا
إليه من مُناجاةِ حبيبِهِم، وبما وجدُوا من حلاوةِ حبّه في قلوبِهِم، لا سيما إذا
خطر على بالِهِم ذكرُ مشافهتِهِ، وكشفُ ستورِ الحُجُبِ عنه في المقامِ الأمينِ
والسرورِ، وأراهُم جلالَهُ وأسمعَهُم لذَّةَ كلامِهِ ورد جواب ما ناجوه به أيامَ
حياتِهِم:
أملِي أن أراك يومًا من الدهرِ. . . فأشكُو لكَ الهوى والغلِيلا
وأناجيكَ من قربٍ وأُبْدِي. . . هذا الجَوى وهذا النُّحُولا
قال وهبٌ: لو خُيِّرتُ بين الرؤيةِ والجنةِ لاخترتُ الرؤيةَ.
رؤي بِشرٌ في المنامِ، فسُئلَ عن حالِهِ وحالِ إخوانِهِ، فقالَ: تركتُ فلانًا
وفلانًا ما بين يدي اللَّه يأكلانِ ويشربانِ ويتنعَّمانِ، قيل له: فأنتَ.
قال: علِمَ قلَّةَ رغبتِي في الطعامِ وأباحَنِي النظرَ إليه.
يا حبيبَ القلوبِ ما لي سواكَ ارحم اليومَ مذنبًا قد أتاكَا
أنتَ سُؤْلِي ومنيتِي وسُرورِي. . . طالَ شوقِي متى يكونُ لقاكَا
ليس سُؤْلِي من الجنانِ نعيمٌ. . . غيرَ أني أريدُهَا لأراكَا
قال ذو النونِ: ما طابتِ الدنيا إلا بذكره، ولا طابتِ الآخرةُ إلا بعفوه.
ولا طابتِ الجنةُ إلا برؤيتِهِ، ولو أنَّ اللَّه احتجبَ عن أهلِ الجنةِ لاستغاث أهلُ
الجنةِ من الجنةِ كما يستغيثُ أهلُ النارِ من النارِ.
كان بعضُ الصالحينَ، يقولُ: ليت ربِّي جعلَ ثوابي من عمَلِي نظرةً إليه ثم
يقولُ: كُنْ تُرابًا.
كان عليٌّ بنُ الموفقِ، يقولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنتَ تعلمُ أنِّي أعبدُكَ خوفًا من نارِكَ
فعذِّبْني بها، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَي أعبدُكَ حبًّا لجنَّتِكَ فاحرمْنِيها، وإنْ كنتَ
تعلمُ أنَّما عبدتُك حبًّا مِنِّي لكَ وشوقًا إلى وجهِكِ الكريمِ فأبحنيهِ واصنعْ بي
ما شئتَ.
سمعَ بعضُهم قائلاً يقولُ:
كبُرت همة عبدٍ طمعتْ في أنْ تراكَا. . . أو ما حسبتَ أنْ ترى من رأكَا
ثم شهق شهقةً فماتَ.
لما غلبَ الشوقُ على قلوبِ المُحبِّينَ استروحُوا إلى مثل هذه الكلماتِ، وما
تُخفِي صدُورُهم أكبرُ.
تجاسرتُ فكاشفْتُكَ لمَّا غلبَ الصبرُ. . . فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهِكَ لي عذرُ
أبصارُ المُحبين قد غضَّت من الدنيا والآخرةِ، فلم تفتح إلا عند مشاهدةِ
محبوبِهِم يومَ المزيدِ.
أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي. . . بحبِّك أنْ يحل به سواكَا
فلو أنِّي استطعتُ غضضتُ طَرْفِي. . . فلم أنظرْ به حتَّى أراكَا
أحبُّكَ لاببعضِي بلْ بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّكَ لي حِرَاكَا
وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعِي معي اشترَاكَا
إذا اشتبكتْ دموعِي في خدودِي. . . تبيَّن من بكَى ممَّن تباكَا
فأمَّا من بكَى فيذوبَ وجْدًا. . . وينطقُ بالهوى من قد تشَاكَا
كان سُمنونُ المُحبُّ يُنشدُ:
وكان فؤادِي خاليًا قبل حُبكُمُ. . . وكان بذكرِ الخلقِ يلهُو ويمرحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابَهُ. . . فلستُ أراهُ عن فِنائِكَ يبرحُ
رُميت ببعدٍ عنكَ إنْ كنتُ كاذبًا. . . وإن كنتُ في الدنيا بغيرِك أفرحُ
وإنْ كان شيءٌ بالبلادِ بأسرِهَا. . . إذا غبتَ عن عينِي لعيني يملحُ
فإنْ شئَتَ واصِلْني وإنْ شئت لا تصِل. . . فلستُ أرى قلبِي لغيرِكَ يصلُح
* * *