الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)
قول اللَّه عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) يدلُّ على أنّه إنما يباحُ
قتلُ النفسِ بشيئينِ: أحدهما: بالنفسِ، والثانِي: بالفسادِ في الأرض.
ويدخلُ في الفسادِ في الأرضِ: الحرابُ والرِّدَّةُ والزنى، فإنَّ ذلكَ كلَّه فسادٌ
في الأرضِ، وكذلكَ تكرر شربِ الخمرِ والإصرارِ عليه هو مظنةُ سفكِ الدماءِ
المحرمةِ.
وقد اجتمعَ الصحابة في عهدِ عمرَ على حدِّه ثمانينَ، وجعلُوا
السكرَ مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجبِ لجلد الثمانين.
ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيسِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونهاهُم عن الأشربةِ والانتباذِ في الظُّروفِ قال:
"إن أحدكم ليقومُ إلى ابنِ عمِّه - يعني: إذا شربَ - فيضربه بالسَّيْفِ ".
وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ من ذلك، فكانَ يخبؤها حياءً
من النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فهذا كلُّه يرجِعُ إلى إباحةِ الدَّمِ بالقتلِ إقامةً لمظان القتلِ مقامَ حقيقته، لكنْ
هلْ نُسِخَ ذلكَ أم حكْمُهُ باقٍ؟ هذا هو محلُ النزاع.
* * *
قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)
خرَّج البخاريُّ ومسلمٌ: من حديثِ: مالكٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن
عطاءِ بنِ يسارٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"أُرِيتُ النَّارَ، فرأيتُ أكثرَ أهلها النساءَ، بِكُفْرِهِنَّ "، قيل: أيكفرن؟
قال: "يكفرنَ العشيرَ، ويكفُرْنَ الإحسانَ، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر، ثم رأتْ منك شيثًا، قالتْ: ما رأيتُ منكَ خيرًا قطّ ".
وقال البخاريّ: كُفْر دونَ كُفْرٍ.
والكفرُ، قد يطلق ويرادُ به الكفرُ الذي لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ كفرانِ
العشيرِ ونحوِه.
وهذا عندَ إطلاقِ الكفر، فأمَّا إن وردَ الكفرُ مقيدًا بشيء، فلا إشكالَ في
ذلكَ، كقولِهِ تعالى:(فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) .
وإنَّما المرادُ هاهُنا: أنه قد يَرِدُ إطلاقُ الكفرِ، ثم يفسَّر بكفرٍ غير ناقلٍ عن
الملة.
وهذا كما قالَ ابنُ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافرُونَ) ، قال: ليسَ بالكفرِ الذي يذهبونَ إليه، إنه
ليس بكفرٍ ينقلُ عن الملةِ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) ، كفر دونَ كفرٍ.
خرَّجه الحاكم.
وقال: صحيحُ الإسنادِ.
وعنه في هذه الآيةِ، قال: هو به كُفْرٌ، وليس كَمَنْ كَفَرَ باللَّه وملائكتِهِ
وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ.
وكذا قال عطاءٌ وغيرُه: كفرٌ دونَ كفر.
وقال النخعيُّ: الكفر كفرانِ: كفرٌ باللهِ، وكفرٌ بالمُنْعِم.
واستدلَّ البخاريُّ لذلكَ بحديثِ ابنِ عباسٍ الذي خرَّجه هاهُنا، وهو قطعةٌ
من حديثٍ طويلٍ، خرَّجه في "أبواب الكسوفِ "، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أطلقَ على النِّساءِ الكفرَ، فسئلَ عنه، ففسَّرَه بكفرِ العشيرِ.
وحديثُ أبي سعيدٍ في هذا المعنى يشبه حديثَ ابنِ عباسٍ.
وقد خرَّج هذا المعنى من حديثِ ابنِ عمرَ، وأبي هريرةَ - أيضًا.
وفي المعنى - أيضًا -: حديثُ ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"سبابُ المسلم فسوق وقتالُهُ كفرٌ".
وقد خرَّجه البخاريُّ في موضعِ آخرَ.
وكذلكَ قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا ترجعُوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ ".
وقولُهُ: "من قالَ لأخيهِ: يا كافرُ، فقدْ باءَ بها أحدُهُما".
وللعلماء في هذه الأحاديثِ - وما أشبهها - مسالك متعددةٌ:
منهم: من حَمَلَها على من فعلَ ذلكَ مستحلاً لذلكَ.
وقد حملَ مالكٌ حديثَ: "من قال لأخيه: يا كافرُ" على الحَرُوريَّةِ، المعتقدينَ
لكفر المسلمينَ بالذنوبِ - نقلَهُ عنه أشهبُ.
وكذلك حملَ إسحاقُ بنُ راهويه حديثَ: "من أتى حائضًا - أو امرأةً - في
دُبُرها فقد كفر" على المستحل لذلكَ: نقله عنه حربٌ وإسحاقُ الكوسجُ.
ومنهم: من يحملُها على التغليظِ والكفر الذي لا ينقلُ عن الملةِ، كما
تقدَّمَ عن ابنِ عباس وعطاءٍ.
ونقلَ إسماعيلُ الشالنجي عن أحمدَ، وذُكِرَ له قولُ ابنِ عباسٍ المتقدمُ.
وسأله: ما هذا الكفرُ؟
قال أحمدُ: هو كفر لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ الإيمانِ
بعضُه دونَ بعضٍ، فكذلك الكفرُ، حتى يجيءَ من ذلكَ أمرٌ لا يختلفُ فيه.
قال محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ:
واختلفَ من قالَ من أهلِ الحديثِ: إن مرتكبَ الكبائرِ مسلم وليسَ بمؤمنٍ: هل يسمَّى كافرًا كفرًا لا ينقلَ عن الملةِ؟
كما قال عطاءٌ: كفر دون كفرٍ، وقالَ ابنُ عباس وطاووسُ: كفرٌ لا ينقلُ عن الملةِ؛ على قولينِ لهم.
قالَ: وهما مذهبانِ في الجملةِ محكيانِ عن أحمدَ بنِ حنبلِ، في موافقيه
من أهلِ الحديثِ.
قلتُ: قد أنكرَ أحمدُ - في روايةِ المرُّوذيِّ - ما رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو
أنَّ شاربَ الخمرِ يسمَّى كافرًا، ولم يُثْبِتْه عنه، مع أنَّه قد رُوي عنه من وجوهٍ
كثيرةٍ، وبعضُها إسنادُهُ حسن.
ورُوي عنه مرفوعًا.
وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جوازَ إطلاقِ كفرِ النعمةِ على أهلِ الكبائرِ.
ونصبَ الخلافَ في ذلك معَ الزيديةِ من الشيعةِ والإباضيةِ من الخوارج.
وروايةُ إسماعيلَ الشالنجيِّ عن أحمدَ قد توافقُ ذلك، فمن هنا حكى
محمدُ بنُ نصر عن أحمدَ في ذلك مذهبينِ.
والذي ذكرهُ القاضي أبو عبد اللَّهِ بنُ حامدٍ شيخُ القاضي أبي يعلى، عن
أحمدَ: جوازُ إطلاقِ الكفرِ والشركِ على بعضِ الذنوبِ التي لا تخرجُ عن
الملةِ، وقد حكاهُ عن أحمدَ.
وقد رُوي عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنه سئلَ: هل كنتُم تسمونَ شيئًا منَ
الذنوبِ الكفر أو الشركَ؟
قال: معاذَ اللَّهِ، ولكنَّا نقولُ: مؤمنينَ مذنبينَ.
خرَّجه محمدُ بنُ نصر وغيرُهُ.
وكان عمَّارٌ ينهى أن يقال لأهلِ الشامِ الذين قاتلوهم بصفِّينْ كفروا.
وقال: قولُوا: فسقُوا، قولُوا: ظلموا.
وهذا قولُ ابنِ المباركِ، وغيرِه من الأئمةِ.
وقد ذكرَ بعضُ الناسِ أن الإيمانَ قسمانِ:
أحدُهما: إيمانٌ باللَّهِ، وهو الإقرارُ والتصديقُ به.
والثاني: إيمانٌ للَّه، فنقيضُ الإيمانِ الأولِ الكفرُ، ونقيضُ الإيمانِ الثاني:
الفسقُ، وقد يسمَّى كفرًا، ولكن لا ينقلُ عن الملةِ.
وقد وردتْ نصوصٌ، اختلفَ العلماءُ في حملِهَا على الكفرِ الناقلِ عن
الملةِ، أو على غيره، مثلُ الأحاديثِ الواردةِ في كفرِ تاركِ الصلاةِ.
وتردَّدَ إسحاقُ بنُ راهويهِ فيما وردَ في إتيانِ المرأةِ في دُبُرها، أنه كفرٌ: هلْ
هو مُخرِجٌ عن الدِّينِ بالكليَّة ِ، أم لا؟
ومن العلماءِ: من يتوقَّى الكلامَ في هذه النصوصِ تورعًا، ويمرُّها كما
جاءتْ من غيرِ تفسيرٍ، مع اعتقادِهِم أنَّ المعاصي لا تخرجُ عن الملةِ.
وحكاه ابنُ حامدٍ روايةً عن أحمدَ.
ذكرَ صالحُ بنُ أحمدَ وأبو الحارثِ: أنَّ أحمدَ سُئل عن حديثِ أبي بكرٍ
الصديقِ: كفر باللَّه تبرِّي من نسبٍ وإنْ دق، وكفر باللَّهِ ادعاء إلى نسبٍ لا
يُعلَمُ.
قالَ أحدُهما: قالَ أحمدُ: قد رُوي هذا عن أبي بكرٍ، واللَّهُ أعلمُ، وقال
الآخرُ: قالَ: ما أعلمُ، قد كتبنَاها هكذَا.
قالَ أبو الحارثِ: قيل لأحمدَ: حديثُ أبي هريرةَ: "من أتى النساءَ في
أعجازِهِنَّ فقد كفر" فقال: قد رُوي هذا، ولم يزِدْ على هذا الكلامِ.
وكذا قالَ الزهريُّ، لمَّا سُئلَ عن قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"ليس منَّا من لطمَ الخدودَ"
وما أشبهه من الحديثِ - فقالَ: من اللَّه العلمُ، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التسليمُ.
ونقلَ عبدوسُ بنُ مالكٍ العطارُ، عن أحمدَ، أنه ذكر هذه الأحاديثَ التي
وردَ فيها لفظُ الكفرِ، فقال: نسلِّمُها، وإن لم نعرفْ تفسيرَها، ولا نتكلَّمُ
فيه، ولا نفسرُها إلا بما جاءتْ.
ومنهم: من فرَّقَ بين إطلاقِ لفظِ الكفرِ، فجوَّزه في جميع أنواع الكفرِ.
سواء كان ناقلاً عن الملةِ أو لم يكنْ، وبين إطلاقِ اسم الكافرِ، فمنعَهُ، إلا