الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قال المباركُ بنُ كاملٍ: سمعتُ عبدَ الوهابِ بنِ قاسم بنِ عليٍّ الشعرانيَّ.
قال: رأيتُ جعفرَ الدرزيجاني جاء إلى بغدادَ، فالتقى به أبو الحسين
الدرزيجانيُ، فقال له: كيف تركتَ الصبيانَ؟
فقال له: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
تقوى اللَّهِ لنا ولَهُم.
* * *
قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) .
قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
فهذا حكمُ اجتماع ذكورِهم وإناثِهم أنَّه يكونُ للذكرِ منهم مثلُ حط الأنثيينِ، ويدخلُ في ذلك الأولادُ، وأولادُ البنينَ باتِّفاقِ العلماءِ، فمتى اجتمعَ من
الأولادِ إخوةٌ وأخواتٌ، اقتسَمُوا الميراثَ على هذا الوجهِ عند الأكثرينَ، فلو كانَ هناكَ بنتٌ للصُّلبِ أو ابنتانِ، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقِي أثلاثا، لدخولِهم في هذا العمومِ.
هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، منهم عمرُ وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباسٍ، وذهبَ إليه عامَّة العلماءِ، والأئمةُ الأربعة.
وذهبَ ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمالِ بناتِ الصُّلبِ الثلثين، كلُّه
لابن الابنِ، ولا يُعصِّبُ أخته، وهو قولُ علقمةَ وأبي ثورٍ وأهلِ الظاهرِ، فلا
يُعصِّبُ عندَهُم الولدُ أختَه إلا أن يكونَ لها فريضةٌ لو انفردتْ عنه، فكذلك
قالُوا فيما إذا كان هناكَ بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكورٌ وإناث: إنَّ الباقي لجميع ولد
الابنِ، للذكرِ منهم مثلُ حظِّ الأنثيينِ.
وقال ابنُ مسعودٍ في بنتٍ وبناتِ ابنٍ وبني ابنٍ: للبنتِ النصفُ، والباقي
بين ولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأُنثيين إلا أن تزيدَ المقاسمةُ بناتَ الابنِ على
السدسِ، فيُفرضُ لهنَّ السدسُ، ويجعلُ الباقي لبني الابنِ، وهو قولُ أبي
ثَوْر.
وأمَّا الجمهورُ، فقالُوا: النصفُ الباقي لولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حط الأنثيين
عملاً بعمومِ الآيةِ، وعندهم أن الولدَ وإن نزَلَ يُعَصّبُ من في درجتِهِ بكلِّ
حالٍ، سواء كان للأنثى فرض بدونه أو لم يكن، ولا يُعَصِّبُ من أعلى منه
من الإناثِ إلا بشرطِ أن لا يكونَ لها فرضٌ بدونه، ولا يُعصِّبُ من أسفلَ منه
بكلِّ حالٍ.
ثم قالَ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِن كانَت واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فهذا حكمُ انفرادِ الإناثِ من الأولاد أن للواحدةِ
النصفَ، ولما فوقَ الاثنتينِ الثلثانِ، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلبِ وبناتُ
الابنِ عند عدمهِنَّ، فإنِ اجتمعنَ، فإن استكملَ بناتُ الصلبِ الثلثين، فلا
شيءَ لبناتِ الابنِ المنفرداتِ، وإن لم يستكملِ البناتُ الثُّلثين، بل كانَ ولدُ
الصلبِ بنتًا واحدةً، ومعها بناتُ ابنٍ، فللبنتِ النِّصفُ، ولبناتِ الابنِ السدسُ تكملةَ الثلثين، لئلا يزيدَ فرض البنات على الثلثين.
وبهذا قَضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي تقدَّمَ ذكرُهُ، وهو قولُ عامَّةِ العلماءِ، إلا ما رُوي عن أبي مسعودٍ وسلمانَ بنِ ربيعةَ أنه لا شيء لبنتِ الابنِ، وقد رجعَ أبو موسى إلى قولِ ابنِ مسعودٍ لما بلغَهُ قولُهُ في ذلك.
وإنما أُشكِلَ على العلماءِ حكمُ ميراثِ البنتينِ، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع
كما حكاه ابن المنذرِ وغيرُه، وما حُكيَ فيه عن ابن عباسٍ أنَّ لهما النِّصفَ.
فقد قيل: إن إسنادَهُ لا يصحُّ، والقرآنُ يدل على خلافِهِ، حيث قال تعالى:
(وَإِن كانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف) ، فكيف تُورث أكثرُ من واحدةٍ
النصفَ؛ وحديثُ ابن مسعودٍ في توريثِ البنتِ النصفَ وبنتِ الابنِ السدسَ
تكملة الثلثين يدلُّ على توريثِ البنتين الثلثين بطريقِ الأولى.
وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ من حديثِ جابرٍ: أنَّ النبيَّ
صلى الله عليه وسلم ورَّث ابنتيْ سعدِ بنِ الرَّبيع الثلثينِ.
ولكن أشكلَ فهمُ ذلكَ من القرآنِ لقولِهِ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوقَ اثْنَتَين) ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا، وقالَ كثيرٌ من الناسِ فيه أقوالَا
مستبعدة.
ومنهم من قالَ: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنَّه قال
تعالى: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهمَا الثلثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، واستفيد حكمُ
ميراثِ أكثر من الأختينِ من حكم ميراثِ ما فوقَ الاثنتينِ.
ومنهم من قال: البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآنِ، فلأن يكونَ لها
الثلثُ مع أختِهَا أولى، وسلكَ بعضُهم مسلكًا آخر، وهو أنَّ اللَّهَ تعالى ذكرَ
حُكمَ توريثِ اجتماع الذكورِ والإناثِ من الأولادِ، وذكر حُكْمَ توريثِ الإناثِ إذا انفردنَ عن الذكور، ولم ينصَّ على حكم انفرادِ الذكور منهم عن الإناثِ، وجعل حُكمَ الاجتماع أن الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين، فإن اجتمعَ مع الابنِ ابنتان فصاعدًا، فله مثلُ نصيبِ اثنتينِ منهنَّ، وإن لم يكنْ معهُ إلا ابنةٌ واحدةَ فله الثلثانِ ولها الثلثُ، وقد سمَّى اللَّه ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقًا، وليس الثلثان حظَّ الأنثيين في حالِ اجتماعِهِمَا مع الذكرِ، لأنَّ حظَّهما حينئذٍ النِّصفُ، فتعيَّن أن يكونَ الثُّلثان حظَّهما حال الانفرادِ.
وبقي ها هنا قسم ثالثٌ لم يصرِّح القرآنُ بذكر، وهو حكمُ انفرادِ الذكورِ
من الولدِ، وهذا مما يُمكن إدخالُهُ في حديثِ ابن عباسٍ: "فما بقي فلأوْلى
رجل ذَكَرٍ"، فإنَّ هذا القسمَ قد بقي ولم يصرَّح بحكمه في القرآن، فيكون
المالُ حينئذٍ لأقربِ الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا، فإنَّه لو اجتمعَ ابن
وابنُ ابنٍ، لكانَ المالُ كُلُّه للابنِ، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابني، لكانَ المالُ كُلُّه لابنِ الابنِ على مقتضى حديثِ ابنِ عباسٍ، واللَّه أعلم.
ثم ذكر تعالى حكمَ ميراثِ الأبوين، فقال:(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ، فهذا حكمُ ميراثِ الأبوين إذا كانَ للولدِ المتوفَّى ولدٌ، وسواءٌ في الولدِ الذكر والأنثى، وسواء فيه ولدُ الصلبِ وولدُ الابنِ، هذا كالإجماع من العلماءِ، وقد حكى بعضُهُم عن مجاهدٍ فيه خلافًا، فمتى كانَ للميتِ ولدٌ، أو ولدُ ابنٍ، وله أبوان، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السُّدسُ فرضًا، ثم إن كان الولدُ ذكرًا، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم:"ألحقوا الفرائض بأهلهِا، فما بقي فلأوْلى رَجُل ذَكَرٍ ".
وأقرب العصباتِ الابنُ، وإن كان الولدُ أنثى، فإن كانتَا اثنتينِ فصاعدًا.
فالثُّلثان لهنَّ، ولا يَفضُلُ منَ المالِ شيءٌ، وإن كانت بنتًا واحدةً، فلها النصف ويفضلُ من المال سدسٌ آخر، فيأخذُهُ الأبُ بالتَّعصيبِ، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:
"ألحقوا الفرائض بأهلِهَا، فما بقي فلأولى رجل ذكر".
فهو أولى رجلٍ ذكر عندَ فقدِ الابنِ، إذ هو أقربُ من الأخ وابنِه والعمِّ وابنِهِ.
ثم قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)
يعني: إذا لم يكن للميت ولدٌ، وله أبوانِ يرثانِه، فلأُمه الثلث، فيُفهم من
ذلك أنَّ الباقي بعد الثلثِ للأبِ، لأنه أثبتَ ميراثَه لأبويه، وخصَ الأمَّ من
الميراثِ بالثلثِ، فعلم أنَّ الباقي للأبِ، ولم يقُل: فللأبِ - مثلاً -: ما للأمِّ، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المال هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوةِ، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ.
وكان ابنُ عباسٍ يتمسَّكُ بهذهِ الآيةِ بقولِهِ في المسألتين الملقبتينِ بالعُمريتينِ
وهما زوجٌ وأبوان، وزوجةٌ وأبوان، فإن عمر قضى أن الزوجين يأخذان
فرضَهُما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثُه، والباقي
للأب، وتابعه على ذلك جمهور الأمَّة.
وقال ابن عباسٍ: بل للأم الثلثُ كاملاً، تمسُّكًا بقوله: (فَإِن لَمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَة أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) .
وقد قيلَ في جوابِ هذا: إنَّ اللَّهَ إنما جعل للأمِّ الثلثَ بشرطينِ: أحدُهما
أن لا يكونَ للولدِ المُتوفَّى ولدٌ، والثاني: أن يرثَه أبواه، أي: أن ينفرِدَ أبواه
بميراثه، فما لم ينفردْ أبواه بميراثِهِ، فلا تستحقُّ الأئمُ الثلثُ، وإن لم يكن
للمتوفَّى ولدٌ.
وقد يقال - وهو أحسنُ -: إن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) .
أي: مما ورثه الأبوانِ، ولم يقل: فلأمه الثلثُ مما ترك كما قال في السُّدسِ.
فالمعنى أنَّه إذا لم يكن له ولدٌ، وكان لأبويه من ماله ميراثٌ، فللأمَ ثُلُثُ ذلك
الميراثِ الذي يختصّ به الأبوان، ويبقى الباقي للأبِ.
ولهذا السرِّ - واللهُ أعلمُ - حيثُ ذكرَ اللَّه الفروضَ المقدَّرةَ لأهلها، قال
فيها: (مِمَّا تَرَكَ) ، أو ما يدلُّ على ذلك، كقوله:(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، ليبين أن ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزءُ المفروضُ المقدَّر له من جميع المالِ بعد الوصايا والديونِ، وحيثُ ذكر ميراثَ العصباتِ، أو ما يقتسمُه الذُّكورُ والإناثُ على وجهِ التَّعصيبِ، كالأولادِ والإخوةِ لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسَمَ بالتَّعصيبِ ليسَ هو المال كُلَّهُ، بل تارةً يكونُ جميعَ المالِ، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروضِ المفروضةِ المقدَّرةِ.
وهُنا لمَّا ذكرَ ميراثَ الأبوينِ من ولدِهِما الذي لا ولدَ لَهُ، ولم يكنْ
اقتسامُهُما للميراثِ بالفرضِ المحضِ، كما في ميراثِهِما مع الولد، ولا كان
بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى، ويأخذ مِثليَ ما تأخذُهُ
الأنثى، بل كانتِ الأمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرضِ، والأبُ يأخذُ ما يأخذُهُ
بالتَّعصيبِ، قال:(وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث)، يعني: أن القدرَ الذي
يستحقُّه الأبوانِ من ميراثِهِ تأخذُ الأمُّ ثلثُه فرضًا، والباقي يأخذه الأب
بالتَّعصيبِ، وهذا ممَّا فتح اللَّه به، ولا أعلم أحدًا سبقَ إليه، وللَّه الحمد
والمنَّة.
ثم قال تعالى: (فَإِن كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ
دَيْنٍ) ، يعني للأمِّ السدس مع الإخوةِ من جميع التركة الوروثةِ
التي يقتسمُها الورثةُ، ولم يذكرْ هُنَا ميراثَ الأبِ مع الأمِّ، ولا شكًّ أنَّه إذا
اجتمعَ أمٌّ وإخوةٌ وليس معهم أبٌ، فإنَّ للأمِّ السدسَ، والباقي للإخوةِ.
ويحجُبُها الأخوانِ فصاعدًا عندَ الجمهورِ.
وأما إن كانَ مع الأمِّ والإخوةِ أبٌ، فقال الأكثرونَ: يحجبُ الإخوةَ الأمُّ
ولا يرثون، ورُويَ عن ابنِ عباسٍ أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأمَّ
بالفرضِ، كما يَرِثُ ولدُ الأمِّ مع الأمِّ بالفرضِ.
وقد قيلَ: إنَّ هذا مشيّ على قولِهِ: "إنَّ الكلالة من لا ولدَ له خاصّة".
ولا يُشترط للكلالةِ فقْدُ الوالدِ، فيرثُ الإخوةُ مع الأبِ بالفرضِ.
ومن العلماءِ المتأخرين من قالَ: إذا كانَ الإخوةُ محجوبينَ بالأبِ، فلا
يَحجُبُون الأمَ عن شيءٍ، بل لها الثُّلثُ، ورجَّحَهُ الإمامُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ
رحمة اللَّهِ عليه، وقد يُؤخذُ من عمومِ قولِ عمرَ رضي الله عنه وغيره من السَّلف: من لا يرثُ لا يَحجبُ، وقد قالَ نحوَه أحمدُ والخِرَقي، لكن أكثرَ العلماءِ يحملونَ ذلكَ على أنَّ المرادَ منْ ليسَ له أهليّةُ الميراث بالكليَّة ِ كالكافرِ والرقيقِ، دونَ من لا يرثُ لانحجَابِهِ بمنْ هو أقربُ منه، واللًّهُ أعلم.
وقد يشهدُ للقولِ بأن الإخوةَ إذا كانُوا محجوبينَ لا يحجُبونَ الأمَّ أنَّ اللَّهَ
تعالى قال: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، ولم يدْكرِ الأبُ، فدلَّ
على أنَّ ذلك حكمُ انفرادِ الأم مع الإخوةِ، فيكون الباقي بعد السدسِ كلِّه
لهم، وهذا ضعيفٌ، فإن الإخوةَ قد يكونون من أمٍّ، فلا يكون لهم سوى
الثلث، واللَّهُ تعالى أعلمُ.
واعلم أن اللَّهَ تعالى ذكرَ حُكْمَ ميراثِ الأبوين، ولم يذكر الجَدَّ ولا الجَدةَ.
فأما الجدةُ، فقد قال أبو بكرٍ الصديقُ وعمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنهما: إنه ليسَ لهَا في كتابِ اللَّهِ شيء، وقد حكَى بعضُ العلماءِ الإجماعَ على ذلكَ، وأنَ فرضَهما إنما ثبتَ بالسُّنّة، وقيلَ: إنَّ السدسَ طُعْمةٌ أطعَمَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وليس بفرضِ، كذا رُوي عن ابنِ مسعودٍ وسعيدِ بنِ المُسيبِ.
وقد رُوي عنِ ابنِ عباسٍ من وجوهٍ فيها ضعف أنها بمنزلةِ الأمَ عند فقْدِ
الأمِّ ترثُ ميراثَ الأمِّ، فترثُ الثلثَ تارةً، والسدسَ أخرى، وهذا شذوذٌ، ولا يصحُّ إلحاقُ الجدّة بالجدِّ، لأن الجدَّ عصبة يُدْلى بعصبة، والجدّة ذاتُ فرضٍ تُدلي بذات فرض فضعفت، وقد قيل: إنَّه ليس لها فرضٌ بالكليةِ، وإنما السدسُ طعمةٌ أطعَمَها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالتْ طائفةٌ ممن يرى الردَّ على ذوي الفروضِ: إنه لا يرد على الجدةِ، لضعفِ فرضِها، وهو روايةٌ عن أحمدَ.
وأما الجد، فاتَّفقَ العلماءُ على أنَّه يقومُ مقامَ الأبِ في أحوالِهِ المذكورةِ من
قبلُ، فيرثُ مع الولدِ السُّدسَ بالفرضِ، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيبِ، وإن بقيَ شيء مع إناثِ الولدِ أخذهُ بالتعصيبِ - أيضًا - عملاً بقوله:"فما أبقت الفرائضُ، فلأولى رَجُلٍ ذكر ".
ولكن اختلفُوا إذا اجتمعَ أمٌّ وجد مع أحدِ الزوجينِ، فرُوي عن طائفةٍ من
الصَّحابةِ أن للأمِّ ثُلُثَ الباقي، كما لو كانَ معها الأبُ كما سبقَ، رُوي ذلك
عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ كذا نقلهُ بعضُهم، ومنهم من قال: إنما رُوي عن
عمرَ، وابنِ مسعودٍ في زوج وأم وجد: أن للأمِّ ثلثَ الباقي.
ورُوي عن ابنِ مسعود رواية أخرى: أنَّ النِّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأمِّ
نصفانِ، وأمَّا في زوجةٍ وأمًّ وجدٍّ، فرُوي عن ابنِ مسعودٍ رواية شاذّة: أنَّ
للأمِّ ثلثَ الباقي، والصَّحيحُ عنه، كقولِ الجمهورِ: أن لها الثُّلثَ كاملاً، وهذا يشبهُ تفريقَ ابنِ سيرينَ في الأمِّ مع الأبِ أنَه إن كانَ معهُما زوج، للأمِّ ثلثُ الباقي، وإن كان معهُمَا زوجةٌ، فللأمِّ الثُلث.
وجمهورُ العلماءِ على أنَّ الأمَّ لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقًا، وهو قولُ على
وزيدٍ، وابنِ عباسٍ، والفرقُ بين الأمِّ مع الأبِ ومعَ الجدِّ أنها مع الأبِ
يشملُها اسمٌ واحدٌ، وهما في القُربِ سواءٌ إلى الميتِ، فيأخذُ الذكر منهما
مثلَ حظِّ الأنثى مرتينِ كالأولادِ والإخوةِ، وأما الأمُّ مع الجدِّ، فليسَ يشملُها
اسمٌ واحدٌ، والجدُّ أبعدُ من الأبِ، فلا يلزمُ مُساواتُهُ به في ذلكَ.
وأمَّا إن اجتمع الجدُّ مع الإخوةِ، فإن كانُوا لأمٍّ سَقَطُوا به، لأنهم إنما
يرثون من الكلالةِ، والكلالةُ: منْ لا وَلَدَ له ولا والد، إلا رواية شذَّتْ عن
ابنِ عباسٍ.
وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثِهِم قديمًا
وحديثًا، فمنهم من أسقطَ الإخوةَ بالجدِّ مطلقًا، كما يسقطونَ بالأبِ، وهذا
قولُ الصديق، ومعاذ، وابنِ عباسٍ، وغيرهم، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في
كتابِ اللَّهِ عز وجل، فيدخلُ في مسمى الأبِ في المواريثِ، كما أنَّ ولدَ
الولدِ ولدٌ، ويدخل في مسمَّى الولد عندَ عدم الولدِ بالاتفاقِ، وبأن الإخوة
إنما يرثونَ مع الكلالةِ، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوةِ من الأم، وبأنَّ الجدَّ أقوى
من الإخوةِ، لاجتماع الفرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحده، فهو كالأبِ.
وحينئذ، فيدخلُ في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:
"فما بقي، فلأولى رجلٍ ذكر".
ومنهم من شرَّك بين الإخوةِ والجدِّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابةِ، وأكثر
الفقهاءِ بعدهم على اختلافٍ طويل بينهم في كيفية التشريكِ بينهم في
الميراثِ، وكان من السلفِ منْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيبُ فيهم بشيء.
لاشتباهِ أمرهم وإشكالِهِ، ولولا خشيةُ الإطالةِ لبسطنا القولَ في هذه المسألةِ.
ولكن ذلك يؤدِي إلى الإطالةِ جدًّا.
وأما حكمُ ميراثِ الإخوةِ للأبوينِ أو للأبِ، فقد ذكره اللَّه تعالى في آخر
سورة النساءِ في قولِهِ تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .
والكَلالةُ: مأخوذةٌ من تكلُّلِ النسبِ وإحاطتِهِ بالميثِ، وذلك يقتضِي انتفاءَ
الانتسابِ مطلقًا من العمودينِ الأعلى والأسفل، وتنصيصُه تعالى على انتفاءِ
الولدِ تنبيهٌ على انتفاءِ الوالدِ بطريقِ الأوْلى، لأن انتسابَ الولدِ إلى والدِهِ أظهرُ من انتسابِهِ إلى ولدِهِ، فكانَ ذكرُ عدمِ الولد تنبيهًا على عدمِ الوالدِ بطريقِ الأولى.
وقد قال أبو بكرٍ الصديقُ رضي الله عنه: الكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، وتابعَهُ جمهورُ الصحابةِ والعلماءِ بعدَهُم.
وقد رُوي ذلك مرفوعًا من مراسيلِ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرَّجه أبو داود في "المراسيل "، وخرَّجه الحاكم من روايةٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرةَ مرفوعًا، وصحَّحَه ووصْلُه بذكرِ أبي هريرةَ ضعيف.
فقوله: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أختٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، يعني إذا لم يكنْ للميتِ ولدٌ بالكليَّة ِ لا ذكرٌ ولا أنثى، فللأختِ - حينئذٍ - النِّصفُ مما تركَ فرضًا، ومفهومٌ هذا أنه إذا كان له ولد فليسَ للأختِ النِّصفُ فرضًا، ثم إنْ كان الولدُ ذكرًا، فهو أولى بالمالِ كلِّه لما سبقَ تقريرُه في ميراثِ الأولاد الذُّكور إذا انفردُوا، فإنهم أقربُ العصباتِ، وهم يُسقطُون الإخوةَ فكيف لا يُسقِطون
الأخوات؛ وأيضًا، فقد قال تعالى:(وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، وهذا يدخل فيه ما إذا كانَ هناك ذو فرضةٍ كالبناتِ وغيرِهنَّ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوةِ مع الأخواتِ، فإذا انفردُوا، فكذلك يستحقُّونه وأوْلى، وإن كانَ الولدُ أنثى، فليسَ للأختِ هنا النِّصفُ بالفرضِ، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهورِ العلماءِ، وقد سبقَ ذكرُ ذلك والاختلافُ فيه، فلو كانَ هناكَ ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ، مثلُ ابنٍ نِصْفُه حُر عندَ من يُورِّثه نصفَ الميراثَ، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ وغيرِه من
العلماءِ، فهل يقالُ: إن الابنَ هنا يسقط نصفَ فرضِ الأختِ، فترثَ معه
الرُّبعَ فرضًا؛ أم يقال: إنَه يصيرُ كالبنتِ فتصيرَ الأختُ معه عصبة كما تصيرُ
مع الأخت، لكنه يُسقط نصفَ تعصيبها، فتأخذُ معه النِّصفَ الباقي
بالتعصيب؛ هذا محتملٌ، وفي هذه المسألةِ لأصحابِنا وجهانِ.
وقوله تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكن لَّهَا وَلَدٌ) ، يعني أنَّ الأخَ يستقلُّ بميراثِ
أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى، فإن كان لها ولدٌ ذكرٌ، فهو أوْلى من
الأخ بغير إشكالٍ، فإنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ، وإن كان أنثى، فالباقي بعد فرضِها
يكونُ للأخ، لأنَّه أوْلى رجلٍ ذكر، ولكن لا يستقلُّ بميراثِها حينئذِ، كما إذا
لم يكن لها ولدٌ. وقوله: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) يعني: أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان، كما أنَّ فرضَ الواحدةِ النِّصفُ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوةِ والأخواتِ.
وأما حكمُ اجتماعِهِم، فقد قالَ تعالى:(وَإِن كانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، فيدخلُ في ذلكَ ما إذا كانوا مفردينِ، وأما إذا كان هناكَ
ذو فرضٍ منَ الأولادِ أو غيرِهم، كأحدِ الزوجينِ أو الأمّ أو الإخوةِ من الأم.
فيكونُ الفاضلُ عن فروضِهم للإخوةِ والأخواتِ بينهم للذَّكَر مثلُ حظِّ
الأنثيين.
فقد تبيَّن بما ذكرناهُ أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخواتِ منَ الأبوينِ
أو الأبِ، ولا يُسقط توريثهُن بالتَّعصيبِ مع أخواتِهِنَّ بالإجماع، ولا
تَعْصيبَهُنَّ بانفرادهِنَّ مع البناتِ عثدَ الجمهورِ، فالكلالةُ شرطٌ لثبوتِ فرضِ
الأخواتِ، لا لثبوتِ ميراثِهنَّ، كما أنَّه ليسَ بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالةِ أسقطت فروضَهم، وإذا أسقطت فروضَهم، سقطت مواريثُهُم، لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ لإدلائهم بأنثى، والأخوات للأبوين أو للأب يدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتِهِنَّ بالاتفاقِ، وبانفرادِهِنَّ مع البناتِ عند الجمهورِ.
وإذا كانَ الولدُ مسقطًا لفرضِ ولد الأبوينِ، أو الأبِ دونَ أصلِ توريثهم
بغيرِ الفرضِ، فقد يقال: إنَّ اللَّهَ تعالى إنَّما خصَّ انتفاءَ الولدِ في قوله:
(لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، ولم يذكر انتفاءَ الولدِ، أو الأبِ، لأنَّه كان يدخلُ
فيه الجدُّ، والجدُّ لا يُسقطُ ميراثَ الإخوةِ بالكليَّة، وإنَّما يشتركون معه في
الميراثِ، تارةً بالفرضِ، وتارةً بغيرهِ، وهذا على قول من يقول: إنَّ الجدَّ لا
يُسقطُ الإخوةَ - وهمُ الجمهورُ - ظاهرٌ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوينِ أو
الأبِ، فإن اجتمعُوا فإن العصباتِ منْ ولدِ الأبوينِ يُسقطونَ ولدَ الأبِ كلهم
بغير خلافٍ حتى في الأختِ منَ الأبوينِ مع البنتِ عند من يجعلُها عصبةً
يُسقط بها الأخ من الأبوينِ.
وفي "المسندِ" و"الترمذيِّ " و"ابن ماجةَ " عن علي قال: قَضَى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
أن أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العلَاّتِ، يرثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمّهِ
دونَ أخيه لأبيه.
وقال عمرُو بنُ شُعيبٍ: قضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن الأخَ للأبِ والأم أولى بالكلالةِ بالميراثِ، ثم الأخُ للأبِ، وهذا - أيضا - مما يدخلُ في قولِهِ عليه الصلاة والسلام:"فما بقي فلأوْلى رجُلٍ ذكرَ".
والتحقيقُ في ذلك: أن كلَّ ما دلَّ عليه القرآنُ، ولو بالتَّنبيه، فليسَ هو ممَّا
أبقته الفرائضَ، بل هوَ من إلحاقِ الفرائضِ المذكورةِ في القرآنِ بأهلِهَا.
كتوريثِ الأولادِ ذكورِهم وإناثِهم الفاضلَ عن الفروضِ، للذَّكرِ مثلُ حظِّ
الأنثيينِ، وتوريثِ الإخوةِ ذكورِهم وإناثِهم كذلك، ودلَّ ذلكَ بطريقِ التَّنبيه
على أنَّ الباقي يأخذه الذَّكرُ منهم عند الانفرادِ بطريق الأوْلى، ودلَّ - أيضًا - بالتَّنبيه على أنَّ الأختَ تأخذُ الباقي مع البنتِ كما كانتْ تأخذُهُ مع أخيهَا، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِهِ، فإنَّ أخاها إذا لم
يُسقِطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه؛ فهذا كلُّه من باب إلحاقِ الفرائضِ
بأهلها، ومن باب قسمة المالِ بين أهلِ الفرائضِ على كتابِ اللًّهِ.
وأمَّا منْ لم يُذكر باسمِهِ منَ العصباتِ في القرآنِ، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِه.
فإنَّما دخلَ في عموماتِ مثلِ قولِهِ تعالى: (وَأُولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولى بِبَعْضٍ فِي كتَابِ اللَّهِ)، وقوله:(وَلِكل جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ)
، فهذا يحتاجُ في توريثِهم إلى هذا الحديثِ: أعني حديثَ ابنِ
عباسٍ، فإذا لم يُوجَدْ للمالِ وارثٌ غيرُهم، انفردُوا به، ويقدَّم منهُمُ الأقربُ
فالأقربُ، لأنَه أولى رجلٍ ذكر، وإن وُجِدَتْ فروضٌ لا تستغرقُ المالَ، كأحدِ الزوجينِ أو الأمِ، أو ولد الأمِّ، أو بناب منفرداتٍ، أو أخواتٍ منفرداتٍ، فالباقي كلُّه لأوْلى ذكرٍ من هؤلاءِ.
ولهذا لو كانَ هؤلاء إخوةً رجالاً ونساءً، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائِهم، بخلافِ الأولادِ والإخوةِ فإنَّه يشتركُ في الباقي أو في المالِ كلِّه ذكورُهم وإناثُهِم، بنصِّ القرآنِ، والحديثُ إنَّما دلَّ على
توريثِ العصباتِ الذينَ يختصُّ ذكورُهم دونَ إناثِهم، وهم مَنْ عدا الأولادِ
والإخوةِ، فهذا حكمُ العصباتِ المذكورينَ في كتابِ اللَّهِ، وفي حديثِ ابنِ
عباسٍ.
وأما ذوو الفروضِ، فقد ذكرنَا حكمَ موارِيثِهم، ولم يبقَ منهم إلا الزوجانِ
والإخوةِ للأم.
فأما الزوجانِ، فيرثانِ بسببِ عقدِ النكاح، ولمَّا كان بين الزوجينِ من الألفةِ
والمودةِ والتَّناصُرِ والتعاضُدِ ما بينَ الأقاربِ، جُعِلَ ميراثُهما كميراثٍ الأقاربِ، وجُعل للذَّكرِ منهما مثْلا ما للأنثى، لامتيازِ الذكرِ على الأنثى بمزيدِ النَّفع
بالإنفاقِ والنصرةِ.
وأما ولدُ الأمِّ، فإنَهم ليسُوا من قبيلةِْ الرَّجُلِ، ولا عشيرِتِه، وإنما هم في
المعنى من ذوي رحمِهِ، ففرضَ اللَّهُ لواحدِهِم السُّدُسَ، ولجماعتِهِم الثُّلثَ
صِلَةً، وسوَّى فيه بين ذكورِهِم وإناثِهم، حيثُ لم يكنْ لذكرِهِم زيادةً على
أنثاهم في الحياةِ من المعاضدةِ والمناصرةِ، كما بين أهلِ القبيلةِ والعشيرةِ
الواحدةِ، فسوَّى بينَهُم في الصلةِ، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانبِ بزيادةٍ
على الثلثِ، بل كانَ الثُّلثُ كثيرًا في حقِّهم، لأنَهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ.
فينبغِي أن لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأمِ، بل ينقصونَ منه.
واستدلَّ بعضُهم بقولِهِ: "فما بقيَ فلأوْلى رجلٍ ذكر" على أنْ لا ميراثَ لذوي
الأرحامِ، لأنَّه لم يجعلْ حقَّ الميراثِ لمنْ لم يُذكر في القُرآنِ إلا لأقربِ
الذكورِ، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصباتِ دونَ ذوِي الأرحامِ، فإنَّ منْ ورَّث
ذوي الأرحامِ، ورَّث ذكورَهُم وإناثَهُم.
وأجابَ من يرى توريثَ ذوي الأرحامِ بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريثِ
العصباتِ، لا على نفي توريثِ غيرِهم، وتوريثُ ذوي الأرحامِ مأخوذٌ من
أدلةٍ أخرى، فيكونُ ذلكَ زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابنِ عباسٍ.
وأمَّا قوله: "لأوْلى رجلٍ ذكَرٍ" مع أنَّ الرجُلَ لا يكون إلا ذكرًا، فالجوابُ
الصحيحُ عنه أنه قد يُطْلَقُ الرجل ويرادُ به الشخصُ، كقولِهِ: "منْ وَجَدَ ماله
عندَ رجلٍ قد أفلس " ولا فرقَ بين أن يجده عند رجل أو امرأة، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمالَ، ويُخلصهُ للذكرِ دونَ الأنثي وهو المقصود، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللّبون في نُصُبِ الزكاة بالذكرِ.
وللسهيليِّ كلامٌ على هذا الحديثِ فيه تكلُّف وتعسُّفٌ شديد ولا طائلَ
تحتَه، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركنَاهُم، واللَّهُ أعلمُ.
* * *
قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍ)
وفي حديثِ أبي هريرةَ المرفوع: "إنَّ العبد ليعملُ بطاعةِ اللَّهِ ستِّينَ سنة، ثم
يَحضُره الموتُ، فيضارَّ في الوصيةِ، فيدخلُ النارَ"، ثم تلا:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ)، إلى قوله:(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَاا) .
وخرَّجه الترمذيُّ وغيرُه بمعناه.
وقال ابنُ عباسٍ: الإضرارُ في الوصيةِ من الكبائرِ، ثم تلا هذه الآية.
والإضرارُ في الوصيَّةِ تارةً يكونُ بأنْ يخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فَرْضَه
الذي فرَضَهُ اللَّهُ له فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثةِ بتخصِيصِه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنًّ اللَّهَ قدْ أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارث ".
وتارةً بأن يُوصِي لأجنبيًّ بزيادة على الثُّلثِ، فتنقصُ حقوقاُ الورثةِ، ولهذا
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلثُ كثيرٌ.
ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثلثِ لم ينفذْ ما وصىَّ به إلا
بإجازة الورثةِ، وسواء قصدَ المضارَّة أو لم يقصدْ، وأمَّا إنْ قصدَ المضارة
بالوصيًّةِ لأجنبيٍّ بالثلثِ فإنه يأثمُ بقصدِهِ المضارَّة، وهلْ تُرَدُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ
ذلكَ بإقراور أم لا؛ حكَى ابنُ عطيةَ روايةً عن مالكٌ أنها تُرَدُّ، وقيلَ: إنه
قياسُ مذهبِ أحمد.
* * *