الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللَّهِ، ولكنْ يعودونَ على أنفسِهِم بالكَسْبِ.
ورَوَى الخَلَاّلُ بإسنادِه عن الفضيلِ بنِ عِياضٍ أنَّهُ قيلَ لهُ: لو أن رجلاً قعدَ
في بيتِهِ زعمَ أنَّه يثقُ باللًّهِ، فيأتيِه برزقهِ، قالَ: إذا وثقَ باللَّهِ حتى يعلمَ منه أنَّه
قدْ وثقَ به لم يمنعْهُ شيءٌ أرادَهُ، لكنْ لم يفعلْ هذا الأنبياءُ ولا غيرُهم، وقد
كانَ الأنبياءُ يؤجَرون أنفسَهم، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤجِّرُ نفْسَه وأبو بكرٍ وعمرُ، ولم يقولوا: نقعدُ حتَّى يرزقُنا اللَّهُ عز وجل.
وقالَ اللَّهُ عز وجل: (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) ، ولا بُدَّ من طلبِ المعيشةِ.
وقد رُوي عن بِشْرٍ ما يُشعرُ بخلافِ هذا، فرَوَى أبو نُعيمٍ في "الحلْيةِ" أنَّ
بشرًا سُئلَ عن التوكُلِ، فقالَ: اضطرابٌ بلا سكونٍ، وسكونٌ بلا اضطرابٍ، فقالَ له السائلُ: فسِّره لنا حتى نفقهَ، قالَ بشرٌ: اضطرابٌ بلا سكونٍ: رجلٌ يضطربُ بجوارحِهِ، وقلبُه ساكنٌ إلى اللَّهِ لا إلى عملِهِ، وسكونٌ بلا
اضطرابِ: فرجلٌ ساكنٌ إلى اللَّهِ بلا حركةٍ، وهذا عزيزٌ، وهوَ من صفاتِ
الأبدالِ.
* * *
قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
والاستغفارُ طلبُ المَغْفرةِ، والمغفرةُ هى وِقَايةُ شَرِّ الذنوبِ معَ سَترِهَا وقد
كثرُ في القرآنِ ذكرُ الاستغفارِ، فتارةً يؤمرُ به، كقولِهِ:(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقولِهِ:(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إِليه) .
وتارةً يمدحُ أهلَهُ، كقولِهِ:(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) .
وقوله:
(وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، وقوله:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) .
وتارةً يذكرُ أن اللَّهَ يغفرُ لمن استغفرهُ، كقولِهِ:(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) .
وكثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبةِ، فيكونُ الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن
طلبِ المغفرةِ باللسانِ، والتوبةُ عبارةٌ عن الإقلاع عن الذنوبِ بالقلوبِ
والجوارح.
وتارةً يفردُ الاستغفارُ، ويُرتَّبُ عليه المغفرةُ، كما ذكرَ في هذا الحديثِ وما
أشبههُ، فقد قيلَ: إنَه أريدَ به الاستغفارُ المقترنُ بالتوبةِ، وقيلَ: إنَّ نصوصَ
الاستغفارِ المفردةَ كلَّها مطلقةٌ تُقيَّدُ بما يذكر في آيةِ "آلِ عمرانَ " من عدمِ
الإصرارِ؛ فإنَّ اللَّه وعدَ فيها المغفرةَ لمن استغفرَهُ من ذنوبِهِ، ولم يُصِرَّ على
فعلِهِ، فتُحْمَلُ النُصوصُ المطلقةُ في الاستغفارِ كلها على هذا المقيد.
ومجرَّدُ قولِ القائل: اللَّهُمَّ اغفر لي، طلبٌ منه للمغفرةِ ودعاءٌ بها، فيكونُ
حكمُهُ حكمَ سائرِ الدعاءِ، فإنْ شاءَ اللَّهُ أجابه وغفرَ لصاحبِهِ، لا سيما إذا
خرجَ عن قلبِ منكسرٍ بالذنبِ أو صادفَ ساعةً من ساعاتِ الإجابةِ كالأسحارِ وأدبارِ الصلواتِ.
ويُروَى عن لُقمانَ عليه السلام أنّه قالَ لابنِه: يا بنيَّ عَوِّدْ لسانكَ اللَّهمَّ
اغفرْ لي، فإنَّ للَّهِ ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلاً.
وقال الحسنُ: أكثِروا من الاستغفارِ في بيوتِكم، وعلى موائِدكم، وفي
طُرقِكُم، وفي أسواقِكُم، وفي مجالسِكُم أينما كُنتُم، فإنَّكم ما تدرونَ متى
تنزلُ المغفرةُ.
وخرَّج ابن أبي الدنيا في كتاب " حسنِ الظنِّ " من حديثِ أبي هريرةَ
مرفوعًا: "بينما رجلٌ مستلقٍ إذْ نظرَ إلى السماءِ وإلى النجومِ، فقال: إني لأعلمُ أن لكِ ربًّا خالِقًا، اللَّهُمَّ اغفرْ لي، فغفرَ له ".
وعن مُوَرِّقٍ قالَ: كانَ رجلٌ يعملُ السيئاتِ، فخرجَ إلى البريةِ، فجمعَ
ترابًا، فاضطجَعَ عليه مستلقيًا، فقالَ: ربِّ اغفرْ لي ذنوبي، فقالَ: إنَّ هذا
ليعرفُ أنَّ له ربَّا يغفرُ ويعذِّب، فغفرَ له.
وعن مُغيثِ بنِ سُميٍّ، قالَ: بينما رجلٌ خبيثٌ، فتذكر يومًا، فقال: اللَّهمَّ
غُفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، ثم ماتَ فغُفِر له.
ويشهد لهذا ما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّ عبدًا أذنَبَ ذنبا، فقالَ: ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْ لي.
قالَ اللَّهُ عز وجل: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذُ به، غفرتُ لعبدِي، ثمَّ مكثَ ما شاء الله، ثم أذنبَ ذنبًا آخر فذكرَ مثل
الأولِ مرتينِ أُخريينِ "
وفي روايةٍ لمسلمٍ أنه قالَ في الثالثةِ: "قد غفرتُ لعبدِي، فليعملْ ماشاءَ".
والمعنى ما دامَ على هذه الحالِ كلَّما أذنبَ استغفرَ.
والظاهرُ أنَّ مرادَهُ الاستغفارُ المقرونُ بعدم الإصرارِ، ولهذا في حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أصرَّ من استغفرَ وإن عادَ في اليوم سبعين مرّة"
وخرَّجه أبو داودَ والترمذيُّ.
وأمَّا استغفارُ اللسانِ معَ إصرارِ القلبِ على الذنبِ، فهو دُعاءٌ مجرَّدٌ إنْ
شاء اللَّهُ أجابهُ، وإن شاءَ ردَّه.
وقد يكون الإصرارُ مانعًا من الإجابةِ، وفي "المسندِ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ
ابنِ عمرٍو مرفوعًا: "ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلُوا وهم يَعلَمون ".
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: "التائبُ من الذَّنبِ
كمن لا ذنبَ لهُ، والمستغفرُ من ذنبٍ وهو مُقيم عليه كالمستهزئِ بربِّهِ " ورَفعُه منكر، ولعلَّه موقوف.
قال الضحاكُ: ثلاثة لا يُستجاب لهم، فذكرَ منهُم: رجل مقيم على امرأةِ
زِنى كلَّما قَضِى منها شهوتَهُ، قالَ: ربِّ اغفرْ لي ما أصبتُ من فلانةٍ، فيقولُ
الربُّ: تحوَّلْ عنها، وأغفرُ لكَ، فأمَّا ما دمتَ مقيمًا عليها، فإنِّي لا أغفرُ
لكَ، ورجل عندَهُ مالُ قومٍ يَرى أهلَهُ، فيقول: ربِّ اغفرْ لي ما آكلُ من مالِ فلانٍ، فيقولُ تعالى: ردَّ إليهم مالَهُم، وأغفرُ لكَ، وأمَّا ما لم تردَّ إليهم، فلا أغفرُ لك.
وقولُ القائلِ: أستغفرُ اللهَ، معناه: أطلبُ مغفرتَهُ، فهو كقولِهِ اللَهُمَّ اغفرْ
لِي، فالاستغفارُ التامُ الموجبُ للمغفرةِ: هو ما قارنَ عدمَ الإصرارِ، كما مدحَ اللَّهُ أهلَهُ، ووعدَهُم المغفرةَ.
قال بعضُ العارفينَ: من لم يكنْ ثمرةَ استغفاره تصحيحَ توبتِهِ، فهوَ كاذب في استغفاره، وكان بعضُهم يقولُ: استغفارُنا هذا
يحتاجُ إلى استغفارٍ كثيرٍ، وفي ذلكَ يقولُ بعضُهم:
أستغفرُ اللَّهَ من أستغفرُ اللَّهَ. . . منْ لفْظَةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها