الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَ
اطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ولما كانتْ هذه الشريعةُ خاتمةَ الشرائع وعليها تقومُ الساعةُ، ولم يكنْ بعدَها
شريعةٌ ولا رسالةٌ أخرى، تبيِّنُ ما تبدَّلَ منها وتجدِّدُ ما درسَ من آثارِهَا، كما
كانتِ الشرائعُ المتقدمةُ تجدِّدُ بعضُها آثارَ بعضٍ، وتبينُ بعضُها ما تبدَّلُ من
بعضٍ، تكفلَ اللَّهُ بحفظ هذه الشريعةِ ولم يجمعْ أهلَها على ضلالةٍ، وجعلَ
منهم طائفةً قائمةً بالحقًّ لا تزالُ ظاهرةً على من خالفَها حتى تقومَ الساعةُ.
وأقامَ لها من يحملُها ويذبُّ عنها بالسيفِ واللسانِ والحجةِ والبيانِ، فلهذا أقامَ
اللَّهُ تعالى لهذه الأمَّةِ من خلفاءِ الرسلِ وحملةِ الحجةِ في كلِّ زمانٍ من يعتني
بحفظِ ألفاظِ الشريعةِ وضبطِهَا وصيانتِهَا عن الزيادةِ والنقصانِ ومن يعتني
بحفظ معانيها، ومدلولاتِ ألفاظِهَا وصيانتِهَا عن التحريفِ والبهتانِ.
والأولونَ أهلُ الروايةِ، وهؤلاءِ أهلُ الدرايةِ والرعايةِ، وقد ضربِ النبيُّ
صلى الله عليه وسلم مثل الطائفتينِ. كما ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي موسى، قالَ: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ مثلَ ما بعثني اللَّهُ به من الهدى والعلم، كمثلِ غيث أصابَ
الأرضَ فكانتْ منها طائفة قبِلَتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أجادبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللَّهُ بها ناسًا فشربُوا ورعَوْا وسقَوْا وزرعُوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأ، فذلك مثل من فقهَ في دِين اللَّهِ ونفعَهُ اللَّه بما بعثَني به ونفعَ به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلكَ رأسًا، ولم يقبلْ هدى اللَّهِ الذي أُرسلتُ به ".
فمثَّلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم العلمَ والإيمانَ الذي جاء به بالغيثِ الذي يصيبُ الأرضَ، وهذا المثلُ كقوله تعالى:(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) .
فمثَّلَ تعالى ما أنزلَهُ من العلم والإيمانِ إلى القلوبِ بالماءِ الذيَ أنزلَهُ من
السماءِ إلى الأرضِ، وهو سبحانه وتعالى يمثلُ العلمَ والإيمانَ تارةً بالماءِ كما
في هذه الآيةِ، وكما في المثل الثاني المذكورِ في أولِ سورةِ البقرةِ، وتارةً يمثله
بالنورِ كما في المثلِ المذكورِ في سورةِ النورِ، والمثلُ الأولُ المذكورَ في سورةِ
البقرةِ وكذلك في هذه الآيةِ التي في سورةِ الرعدِ، وذكر مثلاً ثانيًا يتعلقُ
بالنارِ وهو قولُهُ: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) فإن الماءَ والنورَ مادةُ حياةِ الأبدانِ، ولا يعيشُ حيوانٌ إلا حيثُ هما
موجودانِ، كما أنَّ العلمَ والإيمانَ مادةُ حياةِ القلوبِ وهما للقلوبِ كالماءِ
والنورِ، فإذا فقدهُما القلبُ فقد ماتَ.
وقولُهُ تعالى: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) ، شبَّه القلوبَ الحاملةَ للعلم
والإيمانِ بالأوديةِ الحاملةِ للسيلِ، فقلبٌ كبير يسعُ علمًا عظيمًا، كوادٍ كبيرٍ
يسع ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٍ يسعُ علمًا قليلاً، كوادٍ صغيرٍ يسعُ ماءً قليلاً.
فحملتِ القلوبِ من هذا العلم بقدرِهَا، كما سالتِ الأوديةُ من الماءِ بقدرِهَا.
فهذا تقسيم للقلوبِ بحسبِ ما يحملُهُ من العلم والإيمانِ إلى متسعِ
وضيق.
والًذي ذكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي موسى تقسيمٌ لها بحسبِ ما يرِدُ
عليها من العلم والإيمانِ إلى قابل لإنباتٍ الكلأ والعشبِ، وغيرِ قابلٍ لذلكَ
وجعلها ثلاثةَ أقسامٍ:
القسم الأول: قسم قَبِلَ الماءَ، فأنبتَ الكلأ والعشبَ الكثيرَ، وهؤلاءِ همُ
الذين لهم قوةُ الحفظِ، والفهم والفقهِ في الدّينِ، والبصرِ بالتأويلِ، واستنباطِ
أنواع المعارفِ والعلومِ من النصوص.
وهؤلاءِ مثل: الخلفاءِ الأربعةِ، وأبيِّ بنِ كعبٍ، وأبي الدرداءِ، وابنِ
مسعودٍ، ومعاذِ ابنِ جبلٍ، وابنِ عباس. ثم كـ الحسنِ، وسعيدِ بنِ المسيبِ.
وعطاءٍ، ومجاهدٍ. ثم كـ مالكٍ، والليثِ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وابنِ
المباركِ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي عبيدٍ، وأبي ثورٍ، ومحمدِ بنِ
نصرٍ المروزيِّ. وأمثالِهِم من أهلِ العلم باللَّهِ وأحكامِهِ، وأوامرِهِ، ونواهيهِ.
وكذلك مثل: أوسٍ، ومالكِ بنِ دينارٍ، وإبراهيم بنِ أدهمَ، والفضيلِ ابنِ
عياضٍ، وأبي سليمانَ، وذي النُّونِ، ومعروف، والجنيدِ بنِ محمدٍ، وسهلِ
ابنِ عبدِ اللهِ والحرِّ بن أسدٍ. وأمثالهم من أهل العلم باللَّه وأسمائهِ وصفاتِهِ
وأيامِهِ وأفعالِهِ.
القسم الثاني: وقسم حفظَ الماءَ، وأمسكَهُ حتى وردَ الناسُ فأخذُوه فانتفعُوا به وهؤلاءِ هم الذين لهم قوةُ الحفظِ، والضبطِ، والإتقانِ، دون الاستنباطِ.
والاستخراج، وهؤلاءِ كسعيدِ بنِ أبي عروبةَ، والأعمشِ، ومحمدِ بنِ جعفرٍ
غندر، وعبدِ الرزاقِ، وعمرو الناقدِ، ومحمدِ بنِ بشارٍ بندارٍ، ونحوِهم.
القسم الثالث، وقسمٌ ثالث وهم شرُّ الخلقِ، ليس لهم قوةُ الحفظِ، ولا قوةُ
الفهمِ، لا درايةٌ، ولا روايةٌ، وهؤلاءِ الذين لم يتقبلُوا هُدى اللَّهِ ولم يرفعُوا
به رأسًا.
والمقصودُ هاهنا أن اللَّهَ تعالى حفظَ هذه الشريعةَ بما جعلَ لها من الحملةِ.
أهلِ الدرايةِ، وأهلِ الروايةِ، فكان الطالبُ للعلم والإيمانِ يتلقَّى ذلكَ ممن
يدركُهُ من شيوخ العلمِ والإيمانِ، فيتعلَّمُ الضابطُ القرآنَ والحديثَ، ممن يعلِّمُ
ذلكَ، ويتعلَّمُ الفقهَ في الدِّينِ من شرائع الإسلامِ الظاهرةِ، وحقائقِ الإيمانِ
الباطنةِ، ممن يعلِّمُ ذلكَ.
وكان الأغلبُ على القرونِ الثلاثةِ المفضلةِ جمعُ ذلكَ كلَّه، فإنَّ الصحابةَ
تلقَّوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم جميعَ ذلكَ، وتلقاهُ عنهم التابعونَ، وتلقَّى عن التابعينَ تابعوهُم، فكانَ الدِّينُ حينئذٍ مجتمعًا، ولم يكنْ قد ظهرَ الفرق بين مسمَّى الفقهاءِ، وأهلِ الحديثِ ولا بين علماءِ الأصولِ والفروع، ولا بينَ الصوفيِّ والفقيرِ والزاهدِ، وإنما انتشرتْ هذه الفروقُ بعد القرون الثلاثةِ.
وإنَّما كانَ السلفُ يسمُّون أهلَ العلم والدِّينِ: القُرَّاءَ، ويقولونَ: يقرأُ
الرجلُ إذا تنسَّك، وكانَ العالمُ منهُم يتكلمُ في جنسِ المسائلِ المأخوذةِ من
الكتابِ والسنةِ، سواء كانتْ من المسائِلِ الخبريَّةِ العلميةِ، كمسائلِ التوحيد، والأسماءِ والصفاتِ، والقدرِ، والعرشِ، والكرسيِّ، والملائكةِ، والجنًّ.
وقصص الأنبياءِ، ومسائلِ الأسماءِ، والأحكامِ، والوعدِ والوعيدِ، وأحوالِ
البرزخ، وصفةِ البعثِ والمعادِ، والجنَّةِ، والنَّارِ، ونحوِ ذلكَ.
أو من أعمالِ الجوارح، كالطهارةِ، والصلاةِ، والصيامِ، والزكاةِ، والحجِّ.
والجهادِ، وأحكامِ المعاوضاتِ، والمناكحاتِ، والحدودِ، والأقضيةِ، والشهادةِ، ونحوِ ذلك.
أو من المسائلِ العلميةِ، سواء كانتْ من أعمالِ القلوبِ، كالمحبةِ.
والخوفِ، وا لرجاءِ، والتوكلِّ، والزهدِ، والتوبةِ، والشكرِ، والصبرِ، ونحوِ ذلك، وإنْ كان يكون لبعضِهِم في نوع من هذه الأنواع من مزيدِ العلم، والمعرفةِ، والحالِ ما ليسَ له في غيرِه مثلُه.
كما كانَ يُقالُ في أئمةِ التابعينَ الأربعةِ: سعيدُ بنُ المسيبِ: إمامُ أهل
المدينةِ. وعطاءُ بنُ أبي رباح: إمامُ أهلِ مكةَ. وإبراهيمُ النخعيُّ: إمامُ أهلِ
الكوفةِ. والحسنُ البصريُّ: إمامُ أهلِ البصرةِ.
كان يقالُ أعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ: سعيدُ بنُ المسيبِ، وأعلمُهُم بالمناسك:
عطاء، وأعلمُهم بالصلاةِ: إبراهيمُ، وأجمعُهُم: الحسنُ.
وكان أهلُ الدرايةِ والفهم من العلماءِ إذا اجتمعَ عندَ الواحدِ منهم من
ألفاظِ الكتابِ والسنةِ، ومعانيها، وكلامِ الصحابةِ والتابعينَ مابَسَّره اللَّهُ له.
جعلَ ذلك أصُولاً، وقواعدَ يبني عليها، ويستنبطُ منها، فإنَّ اللَّهَ تعالى أنزلَ
الكتابَ بالحقِّ والميزانِ، والكتابُ فيه كلمات كبيرة، هي قواعدُ كليُّة وقضايا عامَّة، تشملُ أنواعًا عديدةً، وجزئياتٍ كثيرةٍ، ولا يهتدي كلُّ أحد إلى دخولِها تحتَ تلكَ الكلماتِ، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه اللَّهُ من يشاءُ في كتابِهِ.
وأمَّا الميزانُ فهوَ الاعتبارُ الصحيحُ، وهو من العدلِ والقسطِ، الذي أمر اللَّهُ
بالقيامِ بهِ كالجمع بين المتماثلينِ لاشتراكهمَا في الأوصافِ، الموجبةِ للجمع
والتفريقِ بين المختلفينِ لاختلافِهِمَا في الأوصافِ الموجبةِ للفرقِ، وكثيرًا ما
يخفى وجهُ الاجتماع والافتراقِ ويدقُ فهْمُهُ.