الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
أما الأنبياءُ عليهمُ الصلأةُ والسلامُ، فليسَ فيهم شكّ أنَّ أرواحَهم عندَ اللَّه
في أعلى عليين.
وقد ثبتَ في "الصحيح " أنَّ آخرَ كلمة تكلَّم بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند موتِهِ أنْ قالَ: "اللَّهُمَّ الرفيقُ الأعلى" وكرَّرها حتى قبضَّ.
وقال رجل لابنِ مسعود: قُبضَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأينَ هُو؟ قال: في الجنةِ.
وأمَّا الشهداءُ فأكثرُ العلماءِ على أنهم في الجنةِ، وقد تكاثرتِ الأحاديثُ
بذلك.
ففي "صحيح مسلم " عن مسروق، قالَ: سألنا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودَ رضي الله عنه، عن هذه الآيةِ:(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، فقالَ: أما إنا قدْ سألنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ، فقال: "أرواحُهُم في جوفِ طيرٍ خضرٍ، لها قناديلُ معلقة بالعرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم تأوي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطلاعة، فقالَ:
هل تشتهونَ شيئًا؛ قالُوا: أيَّ شيء نشتهي ونَحنُ نسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئنا، ففعلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرات، فلمَّا رأوَا أنَّهم لم يُتركوا من أنْ يُسألوا، قالُوا: يا ربَّ نريدُ أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حقى نقتلَ في سبيلِكَ مرة أُخرى، فلمَّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةً تُرِكُوا ".
روى الإمام أحمدُ، وأبو داودَ، والحاكم، من حديثِ سعيدِ بنِ جبيرٍ.
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنها، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لمَّا أصيبَ إخوانُكم بأحدٍ جعلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تردُ أنهارَ الجنةِ، وتأكلُ من ثمارِها، وتأوِي إلى
قنادِيلَ من ذهبٍ، معلقةٍ في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجدُوا طيبَ مأكلهِم ومشربِهِم ومقيلِهم، قالُوا: من يبلغُ عنَّا إخوانَنا أنا أحياءٌ في الجنةِ نرزقُ، لئلا ينكُلوا عن الحربِ، ولا يزهدُوا في الجهادِ؟ " قال:"فقال اللَّهُ عز وجل: أنا أبلِّغُهم عنكُم، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ".
وخرَّج أبو عبد اللَّهِ بن منده وغيرُهُ، حدثنا إسماعيلُ بنُ المختارِ عن عطيةَ.
عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"أرواحُ الشهداءِ في طيرٍ خضرٍ، ترعى في رياضِ الجنةِ، ثم يكونُ مأواها إلى قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ، فيقولُ لهم الربّ عز وجل:
هلْ تعلمونَ ك رامةً أكرمَ مِنْ كرامةٍ أَكْرَمتُكُموها؟
فيقولون: لا، إنَّا وَدَدْنا أنك رددتَ أرواحَنا في أجسادنا حتى نقاتلَ مرةً أخرى، فنقتلَ في سبيلِكَ ".
وخرَّج أبو الشيخ الأصبهانيُّ وغيرُهُ، من طريقِ عبدِ اللَّهِ بنِ ميمونَ، عن
عمِّه مصعبِ بنِ سليمٍ، عن أنسٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"يبعثُ اللَهُ الشهداءَ من حواصلِ طيرٍ بيضٍ كانُوا في قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ ".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ وصححه، من حديثِ عمرِو بنِ دينارٍ.
عن الزهريِّ، عن عبد الرحمن بن كعبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
قالَ: "إنَّ أرواح الشهداءِ في طير خضر، تعْلُقُ من شجرِ الجنة".
كذا رواه عمرُو، عنِ الزهريّ، ورواه سائرُ أصحابِ الزهريِّ عنه، ولم يذكرُوا: الشهداءَ، إنَّما ذكروا نسمةَ المؤمنِ وسيأتِي حديثُهم إن شاءَ اللَّهُ.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديثَ أبي عبادةَ عيسى بنِ عبدِ الرحمنِ، عن
الزهريِّ، عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن إسماعيلَ بنِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللَّهِ، عن
أبيه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في شهداءِ أحدٍ، وهو منكر، وأبو عبادةَ هذَا: ضعيفٌ جدًّا.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ معاويةَ بنِ صالح، عن سعيدٍ بنِ سويدٍ، أنّه
سألَ ابنَ شهابٍ عن أرواح المؤمنينَ فقالَ: بلغني أن أرواحَ الشهداءِ كطيرٍ
خضرٍ معلقة بالعرشِ، تغدُو ثم تروحُ إلى رياضِ الجنةِ، تأتي ربَّها عز وجل
في كلِّ يومٍ تسلِّمُ عليه، وهذا أشبهُ.
وكذا قال الضحاكُ، وإبراهيمُ التيميُّ، وغيرُهما من السلفِ، في أرواح
الشهداءِ.
وخرَج ابنُ منده، من طريقِ عبدِ الرحمن بن زيادِ بنِ أنعمَ، عن حِبَّانَ بنِ
أبي جبلةَ، قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّ الشهداءَ إذا استشهدُوا أنزلَ اللَّهُ جسدًا كأحسنِ جسد، ثم يقالُ لروحه: ادخلي فيه، فينظر إلى جسدهِ الأولِ ما يُفْعلُ به، ويتكلمُ فيظنُ أنهم يسمعونَ كلامَه، وينظرُ بهِم، فيظنُّ أنهم ينظرونَه، حتى تأتيَه أزواجُه - يعني الحورَ العينِ - فيذهبْنَ بِهِ ".
ويشهدُ لهذه النصوصِ - أيضًا - ما في "الصحيحينِ " عن جابرٍ، قالَ:
قالَ رجل يومَ أُحُدٍ: أين أنا إنْ قتلتُ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمراتٍ كنَّ في يدهِ، ثم قاتلَ حتى قُتِلَ.
وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابِهِ يومَ بدرٍ:
"قومُوا إلى جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ".
وذكر قصةَ عميرِ بن الحمامِ.
وفي "صحيح البخاريِّ " عن المغيرةِ بن شعبةَ، قالَ: أخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن رسالةِ ربِّنا أنه من قُتِلَ صارَ إلى الجنةِ.
و"فيه " - أيضًا - عن المسورِ بنِ مَخْرَمةَ، ومروانَ بنِ الحكم، أنَّ عمرَ
رضي الله عنه، قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيةِ: أليسَ قتلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ؟
قال: "بلَى".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي مُوسى، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
قالَ: "إنَّ أبوابَ الجنةِ تحتَ ظلالِ السيوفِ ".
وفي "صحيح البخاريِّ " عن أنسٍ رضي الله عنه، قالَ: أصيبَ حارثة يومَ بدرٍ - وهو غلامٌ - فجاءتْ أمُّه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، قد عرفتَ منزلةَ حارثةَ مِنِّي، فإن يكنْ في الجنةِ صبرتُ واحتسبتُ، وإن تكن الأُخرى ترى ما أصنعُ؟
قالَ: "ويحكِ أو هبلتِ؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنهُ في جنةِ الفردوسِ ".
وخرَّج الترمذيُّ، والحاكم، من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "رأيتُ في الجنةِ جعفرًا يطيرُ مع الملائكةِ".
وخرَّج الحاكم من حديثِ ابنِ عباس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"دخلتُ البارحةَ الجنةَ فنظرتُ فيها، فإذا جعفرُ يطيرُ مع الملائكةِ، وإذا حمزةُ متكئٌ على سرير".
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو يَعْلى، وابنُ أبي الدنيا، من حديثِ ثابتٍ.
عن أنسٍ رضي الله عنه، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تعجبُهُ الرؤيا الحسنةُ، فكانَ فيما يقولُ:"هل رأى أحا منكم رؤْيا؟ "
فإذا رأى الرجلُ الذي لا يعرفُه الرؤْيا، سألَ عنه، فإن أخبرَ عنه بمعروفٍ كان أعجبَ لرؤياه، قال: فجاءتِ امرأةٌ فقالتْ:
يا رسولَ اللَّهِ، رأيتُ في المنامِ كأنَي خرجتُ فأُدْخِلتُ الجنةَ، فسمعتُ وجبةً
ارتجتْ لها الجنةُ، فإذا أنا بفلانٍ وفلان وفلانٍ، حتى عدَّتْ اثني عشرَ رجلاً -
وبعثَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية قبل ذلكَّ فَجيءَ بهم عليهم ثيابٌ طلس تشخبُ أوداجُهم، فقالَ: "اذهبوا بهم إلى نهرِ البيذخ، فغمسُوا فيه، فأخرجُوا ووجوهُهم كالقمرِ ليلةَ البدرِ، وأُتوا بكراسي من ذهبٍ فأقعدوا عليها، وجيءَ بصحفةٍ من ذهب فيها
بسر، فأكلوا من بُسره ما شاءُوا فما يقلِّبونَها لوجهٍ إلا أكلوا
من فاكهةٍ ما شاءُوا".
قالتْ: وأكلتُ معهُم، قال: فجاءَ البشيرُ من تلك السريةِ، فقال: يا
رسولَ اللَّه! كان كذا وكذا، وأصيبَ فلان وفلان حتى عدَّ اثني عشر رجلاً، فقالَ: عليًّ بالمرأةِ" فقال: "قصِّي رؤياكَ على هذا" فقال الرجلُ: هو كما قالتْ، أصيب فلان وفلان.
وروى ابنُ عيينةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي يزيدَ، سمعَ ابنَ عباسٍ، يقول:
أرواحُ الشهداءِ تجول في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، تعْلُقُ في ثمرِ الجنةِ.
وروى معمر، عن قتادةَ، قالَ: بلغنا أن أرواحَ الشهداءِ في حواصلِ طيرٍ
بيضٍ، تأكلُ من ثمارِ الجنةِ.
وروى أبو عاصم، عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ
ابنِ عمرٍو، قال: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ
ويرزقونَ من ثمرِ الجنةِ.
وروى ابنُ المباركِ، عن زائدةَ، حدَّثنا ميسرةُ الأشجعيُّ، عن عكرمةَ، عن
ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ رضي الله عنه، قال: جنةُ المأوَى: جنةٌ فيها طير خضرٌ، ترعى فيها أرواحُ الشهداءِ.
كذا رواه عطيةُ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: قلت لكعبٍ: إني أسألُك عن أشياءَ
فإنْ كانتْ في كتابِ اللَّهِ فحدِّثْني، وإن لم يكنْ في كتابِ اللَّهِ فلا تحدثني.
فذكرَ مسائلَ، فقال كعبٌ: ما سألْتَني عن شيءٍ إلا وهوَ في كتابِ اللَّهِ، قال: وأمَّا جنةُ المأوى فإنَّها جنة فيها أرواحُ الشهداءِ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوي إلى قناديلِ الجنةِ.
وروى أبو المغيرةِ عبدُ القدوسِ بن الحجاج، حدثنا عمرُو بنُ عمرَ
الأحموسي، عن السفرِ بنِ نسيرٍ، قال: سئلَ أبو الدرداء عنْ أرواح الشهداءِ
فقال: هي طيرٌ خضرٌ، معلقةٌ في قناديلَ تحت العرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ
شاءتْ، ثم ترجعُ إلى قناديلِها.
وروى ليثٌ عنِ أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: أرواحُ
الشهداءِ طيرٌ خضرٌ في قناديلَ تحتَ العرشِ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم
تأوِي إلى قناديلِها.
ورُوي عن مجاهد، أنه قالَ: ليس الشهداءُ في الجنة، ولكنَّهم يرزقونَ
منها. ً
فروى آدمُ بنُ أبي إياسٍ، حدثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحِ، عن مجاهدٍ في
قولِهِ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءِّ عِندَ رَبِّهِم
يرْزَقُونَ) الآية.
قال: يقول: أحياءٌ عندَ ربِّهم يرزقونَ من ثمرِ الجنةِ، ويجدونَ ريحَها وليسُوا فيها.
وروى ابنُ المباركِ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: ليس هم في
الجنةِ، ولكنَّهم يأكلونَ من ثمارِهَا، ويجدونَ ريحَهَا.
وقد يستدل لقولِهِ بما رواه ابنُ إسحاقَ، عن عاصمٍ بنِ عمرَ بنِ قتادةَ، عن
محمودِ بنِ لبيدٍ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "الشهداءُ على بارقِ نهر بباب الجنة، في قبة خضراءَ، يخرجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بكرةً وعشيًّا". ًً
وخرَّجه ابنُ منده، ولفظُه:"على بارقِ نهر في الجنةِ".
وهذا يدلُّ على أنَّ النهرَ خارجٌ من الجنةِ، وابنُ إسحاقَ مدلسٌ، وليس
يصرحُ بالحديثِ هنا، ولعلَّ هذا في عمومِ الشهداءِ، والذينَ في القناديلِ التي
تحتَ العرشِ خواصُّهم، ولعلَّ المرادَ بالشهداءِ هنا من هو شهيدٌ من غيرِ قَتْلٍ.
في سبيلِ اللَّهِ، كالمطعونِ والمبطون والغريقِ وغيرِهم ممنْ وردَ النصُّ بأنه
شهيدٌ.
والأحاديثُ السابقةُ كلُّها فيمن قُتِلَ في سبيلِ اللَّهِ، وبعضُها صريحٌ في
ذلكَ.
وفي بعضِها أن الآيةَ نزلتْ في ذلك، وهو قولُهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآية، والَاية نصٌّ في المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ.
وقد يطلقُ الشهيدُ على من حقَّقَ الإيمانَ وشهدَ بصحتِهِ بقولِهِ، كما قال
تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
قالَ ابنُ أبي نجيحٍ، عن مجاهد، في هذه الآية يقولُ: يشهدونَ على
أنفسِهِم بالإيمانِ باللَّهِ.
وروى سفيانُ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، قالَ: كلُّ مؤمنٍ صدِّيقٌ وشهيدٌ.
ثم قرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ همُ الصِّدِيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
وخرج ابن أبي حاتمٍ، من رواية رِشدين بنِ سعدٍ، عن ابنِ عقيلٍ، عن
أبيه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قالَ: كلُّكم صديقٌ وشهيد، قيلَ له: ما تقولُ يا أبا هريرة؟ قالَ: اقرأوا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) .
وخرَّج ابنُ جريرٍ، من طريقِ إسماعيلَ بنِ يحيى التيمي،
عن ابنِ عجلانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن البراءِ بن عازدب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"مؤمنو أمتِي شهداءٌ" ثم تلا رسولُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلهِ أوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ)، وإسماعيلُ هذا: ضعيفٌ جدًّا.
ويَعضَدُ هذا ما وردَ في تفسير قولِه تعالى: (لِّتَكونوا شهَدَاء عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) من شهادةِ هذه الأمةِ للأنبياءِ عليهم
السلامُ بتبليغ رسالاتِهم.
وبكلِّ حالٍ فالأحاديثُ المتقدمةُ كلُّها في الشهيدِ المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ عزَّ
وجلَّ لا تحتملُ غيرَ ذلكَ، وإنَّما النظرُ في حديثِ ابنِ إسحاقَ هذا واللَّهُ
أعلمُ.
وأما بقيةُ المؤمنينَ سوى الشهداءِ؛ فينقسمونَ إلى: أهلِ تكليف، وغيرِ أهلِ
تكليفٍ؛ فهذانِ قسمانِ:
أحدُهما: غيرُ أهل التكليفِ: كأطفالِ المؤمنينَ.
فالجمهورُ على أنهم في الجنة، وقد حكى الإمامُ أحمدُ الإجماعَ على
ذلك.
وقال - في روايةِ جعفرِ بنِ محمدٍ -: ليسَ فيهم اختلافٌ، يعني أنهم في
وقالَ - في روايةِ الميمونيّ -: لا أحدَ يشكُّ أنَّهم في الجنةِ.
وذكر الخلالُ من طريقِ حنبل، عن أحمدَ، قالَ: نحن نقرُّ بأنّ الجنةَ قد
خلقتْ، ونؤمنُ بها، والجنةُ والنار مخلوقتانِ، قال اللَّهُ عز وجل: (النَّارُ
يُعْرَضونَ عَلَيْهَا غُدوًّا وَعَشِيًّا) ، لآلِ فرعونَ، وقالَ: أرواحُ ذراري
المسلمينَ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تسرحُ في الجنةِ، يكفلُهم أبوهم إبراهيمُ.
فيدلُّ هذا على أنهما قد خلقَتا.
وكذلكَ نصَّ الشافعيُّ على أن أطفال المسلمينَ في الجنةِ.
وجاء صريحًا عن السلفِ على أنَّ أرْواحهم في الجنةِ كما روى الليثُ، عن
أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: إنَّ أرواحَ الشهداءِ في أجوافِ
طيرٍ خضرٍ، تسرحُ بهم في الجنةِ حيث شاءُوا، وإن أرواحَ ولدانِ المسلمينَ
في أجوافِ عصافيرَ في الجنة، تسرحُ بهم في الجنة حيثُ شاءتْ فتأوِي إلى
قناديلَ معلقةٍ في العرشِ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.
ورواه الثوريُّ والأعمشُ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، من قولِه، لم يذكرِ
ابنَ مسعودٍ.
وخرَّج البيهقيُّ، من طريقِ عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ، نحوَه.
وخرَّج الخلالُ، من طريقِ ليثٍ، عن أبي الزبيرِ، عن عبيدِ بنِ عميرٍ.
قالَ: إنَّ في الجنةِ لشجرةً لها ضروعٌ كضروع البقرِ، يغذَّى به ولدانُ أهلِ
الجنةِ، حتَّى إنَّهم ليستنونَ استنانَ البكارةِ.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمِ بإسنادهِ، عن خالدِ بن معدانَ، قالَ: إنَّ في الجنةِ
شجرةً يقال لها: طُوبى ضروعٌ كلُّها، تُرْضِعُ صبيانَ أهلِ الجنةِ، وإنّ سقْطَ
المرأةِ يكونُ في نهرٍ من أنهارِ الجنةِ، يتقلبُ فيه حتى تقومَ الساعةُ، فيبعثُ ابنَ
أربعينَ سنةٍ.
ويدلُّ على صحةِ ذلك ما في "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ قالَ: لما تُوفِّي
إبراهيمُ عليه السلام، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ إبراهيمَ ابني، وإنه ماتَ في الثدْي، وإنَّ له لظئرَيْنِ فيكفَلانِ رِضاعَهُ في الجنةِ"
وخرَّجَ ابنُ ماجةَ نحوَه من حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما.
وحْرَّج الإمامُ أحمد نحوَه من حديثِ البراءِ بن عازبٍ.
وروى سعيدُ بن منصورٍ، عن إسماعيلَ بنِ عياشٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عثمانَ
بنِ خُثَيْم، عن مكحولٍ، أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"إن ذرارِي المؤمنينَ أرواحُهم في عصافيرَ في شجرٍ في الجنةِ، يلقاهُم أبوهُم إبراهيمُ عليه السلام ".
وكذا رواه عليٌّ بنُ عثمانَ اللاحقيُّ، عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، عن أبنِ خُثَيْم.
عن مكحولٍ، إلا أنه قالَ: عصافيرُ حْضر في الجنةِ. وهذا مرسلٌ، ولفظه
يشبُه لفظَ الحديثِ الذي احتجَ به الإمامُ أحمدُ على خلقِ الجنةِ، كما تقدَّم.
وقد رُويَ متصلاً من وجهٍ آخرَ، من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ ثابتِ بنِ
ثوبانَ، عن عطاءِ بنِ قُرة، عن عبدِ اللَّهِ بنِ ضمرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"ذرارِي المؤمنينَ يكفلُهم إبراهيمُ عليه السلام في الجنةِ"
خرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحِه " والحاكمُ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ.
وخرَّجهُ الإمامُ أحمد، عن موسى بن داودَ، عن ابنِ ثوبانَ، إلا أنَّه ذكرَ
أنَّ موسى شكَّ في رفعهِ.
ولكنْ رواهُ غيرُ واحدٍ، عن ثوبانَ، ولم يشكُّوا في رفعِهِ.
ورُويَ من وجهٍ آخرَ، من روايةِ مؤملٍ، عن سفيانَ، عن ابنِ الأصبهانيِّ.
عن أبي حازمً، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أولادُ المسلمين في جبلٍ في الجنةِ، يكفلُهم إبراهيمُ وسارةُ عليهما السلام فإذا كان يومُ القيامةِ دُفعوا إلى آبائِهِم ".
وكذا رواه محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ نمير، عن وكيع، عن سفيانَ مرفوعًا.
ورواهُ ابنُ مهدي وأبو نعيم، عن سفيانَ، موقوفًا، قال الدارقطنيُّ:
والموقوفُ أشبهُ.
ومما يستدلُّ لهذا - أيضًا - ما خرَّجه البخاريُّ عن سمرةَ بتِ جندبٍ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى في منامِهِ جبرائيل وميكائيل أتياه فانطلَقَا بهِ، وذكر حديثًا طويلاً، وفيه:"فإذا روضة خضراءُ فيها شجرةٌ عظيمةٌ وإذا شيخٌ في أصلِها حولَهُ صبيانُ، فصعدَا بي الشجرةَ وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فإذا فيها رجالٌ وشيوخ وشبابٌ وفيها نساءٌ وصبيانٌ "، وذكرَ الحديثَ وفيه:"قالا: فأمَّا الشيخُ الذي رأيتَ في أصلِ الشجرةِ فذاك إبراهيمُ، وأمَّا الصبيانُ الذي رأيتَ حولَه فأولادُ الناسِ ".
وفي روايةٍ: "فكل مولودٍ ماتَ على الفطرةِ، وأمَّا الدارُ التي دخلتَ أولاً فدارُ عامةِ المؤمنينَ، وأمَّا الدارُ الأخرى فدار عامةِ الشهداءِ ".
ورواه ابنُ خلدةَ، عن أبي رجاءٍ العطارديِّ، عن سمرةَ، وفي حديثِه:
"قلتُ: فالذينَ في الروضة؟
قال: أولئكَ الأطفالُ، وُكِّلَ بهم إبراهيمُ عليه السلام، يربِّيهم إلى يوم القيامةِ".
وخرَّج الطبرانيُّ، والحاكم، من حديثِ سليم بنِ عامرٍ، عن أبي أمامةَ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينَا أنا نائم انطلقَ بي إلى جبل وعرٍ"، فذكرَ الحديثَ، وفيه: "ثمَّ انطلقَ بي حتى أشرفتُ على غلمانٍ يلعبونَ بين نهرين، قلتُ: مَنْ هؤلاءِ؟
قال: ذراري المؤمنينَ يحضنُهم أبوهم إبراهيمُ عليه السلام ثم انطلقَ بي حتى أشرفتُ على ثلاثة نفرٍ، قلتُ: من هؤلاءِ؟
قال: إبراهيمُ وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك ".
وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّه يشهدُ لأطفالِ المؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ ولا
يُشهد لآحادِهِم، كما يُشهدُ للمؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ، ولا يشهد
لآحادهم وهو قولُ إسحاقَ بن راهويه، نقله عنه إسحاقُ بنُ منصورٍ وحربٌ
في مسائلِهما، ولعلَّ هذا يرجعُ إلى الطفل المُعَيَّنِ لا يُشْهَد لأبيه بالإيمانِ، فلا
يُشْهدُ له حينئذٍ أنه من أطفالِ المؤمنين، فيكونُ الوقفُ في آحادهم كالوقفِ في
إيمانِ آبائِهم.
وحكى ابنُ عبد البرِّ عن طائفةٍ من السلفِ القولَ بالوقفِ في أطفالِ
المؤمنينَ، وسمَّى منهم حمادَ بنَ زيدٍ، وحمادَ بنَ سلمةَ، وابنَ المباركِ.
وإسحاقَ، وهذا بعيدٌ جدًّا، ولعله أخذَ ذلكَ من عموماتِ كلامٍ لهم، وإنما
أرادوا بها أطفالَ المشركين.
وكذلكَ اختارَ القولَ بالوقفِ طائفةٌ منهُم: الأثرمُ، والبيهقيُّ.
وذكِرَ أنَّ ابنَ عباسٍ رجعَ إليه والإمامُ أحمدُ ذكر أن ابنَ عباسٍ إنما قالَ ذلك في أطفال المشركينَ، وإنما أخذه البيهقي من عمومِ لفظٍ رُويَ عنه، كما أنه رُوي في
بعص ألفاظِ حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن الأطفالِ، فقالَ:"اللهُ أعلمُ بما كانُوا عاملينَ "، ولكن الحفَّاظَ الثقاتِ ذكرُوا أنه سئلَ عن أطفالِ المشركينَ.
واستدلَّ القائلونَ بالوقفِ، بما أخرَّجَهُ مسلم، من حديثِ فضيلِ بنِ
عمرو، عن عائشةَ بنتِ طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها، قالتْ: توفِّي صبيّ، فقلتْ: طُوبى له، عصفور من عصافيرِ الجنةِ.
فقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أو لا تدرينَ أنَّ اللَّهَ خلقَ الجنةَ وخلقَ النارَ، فخلقَ لهذهِ أهلاً ولهذِه أهلاً".
وخرَّجه مسلم - أيضًا - من طريقِ طلحةَ بنِ يحيى، عن عمّتِه عائشةَ بنتِ
طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها، قالتْ: دُعِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى جنازةِ صبيٍّ من الأنصارِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ طُوبى لهذا، عصفور من عصافيرِ أهلِ الجنةِ، لم يعملِ السوءَ ولم يدركه، قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أو غيرَ ذلكَ يا عائشةَ، إن اللَّهَ خلق للجنَّةِ أهلاً، خلقَهُم لها وهمْ في أصلابِ آبائِهِم ".
وقد ضعَف الإمامُ أحمدُ رضي الله عنه هذا الحديثَ من أجلِ طلحةَ بنِ
يحيى، وقالَ: قد رَوى مناكيرَ، وذكر له هذا الحديثَ، وقال ابنُ معينٍ فيه:
ليس بالقويِّ.
وأما روايةُ فضيلِ بنِ عمرٍو له عن عائشةَ، فقال أحمدُ: ما أراه سمعهُ إلا
من طلحةَ بنِ يحيى، يعني أنه أخذه عنه، ودلَّسهُ، حيثُ رواه عن عائشةَ بنتِ
طلحةَ.
وذكر العقيليُّ أنه لا يُحفظُ إلا من حديثِ طلحةَ.
ويعارِضُ هذا ما خرَّجه مسلمٌ، من حديثِ أبي السليلِ، عن أبي
حسانَ، قال: قلتُ لأبي هريرةَ: إنه قد مات لي ابنتانِ، فما أنتَ محدِّثي عن
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بحديثٍ تطيبُ به أنفسنَا عن موتانَا، قال: نعم، صغارُهم دعاميصُ أهلِ الجنة، يتلقَّى أحدُهم أباه - أو قالَ أبويه - فيأخذُ بثوبِهِ، أو قال بيدهِ - كما آخذُ أنا بصنفةِ ثوبِكَ هذا فلا يتباهى أو قال: فلا ينتهي حتَّى يدخلَه اللَّهُ وأباهُ الجنةَ".
وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"ما من الناسِ مسلم يموتُ له ثلاثة من الولدِ لم يبلغوا الحِنْثَ إلا أدخلَهُ اللَّهُ الجنةَ بفضلِ رحمتِهِ إياهُم ".
ولهذا قالَ الإمامُ أحمدُ: "هو يُرجى لأبويه، فكيف يُشكُّ فيه؟ "
يعني أنه يُرجى لأبويه بسببه دخول الجنةِ.
ولعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن الشهادةِ لأطفال المسلمينَ بالجنةِ قبل أن يطلع على ذلك، لأن الشهادةَ على ذلك تحتاجُ إلى علم به، ثم اطلعَ على ذلك فأخبرَ بهِ، واللَّهُ أعلمُ.
القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء:
وقد اختلفَ العلماءُ فيه قدِيمًا وحديثًا والمنصوصُ عن الإمامِ أحمدَ: أنَّ
أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ، ذكرَ ذلك الخلال في كتابِ "السنةِ" عن غيرِ واحدٍ
عن حنبلٍ، قال: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقول: أرواحُ الكفارِ في النارِ، وأرواحُ
المؤمنينَ في الجنةِ، وقال حنبل في موضع آخرَ: قال: عمومُ أرواح المؤمنينَ في
الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذِّبُ اللَّهُ من يشاءُ.
ويرحمُ من يشاءُ بعفوهِ.
قال أبو عبدِ اللَّهِ: ولا نقولُ إنهما يفنيانِ، بلْ هُما على علم الله باقيتانِ.
يبلغُ اللَّهُ فيهما عملَه، نسأل اللَّهَ التثبيتَ وأن لا يُزِيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا.
وقولُهُ: ولا نقولُ: هما يفنيانِ، يعني الجنةَ والنارَ، فإن في أولِ الكلامِ عن
حنبلٍ، أن أبا عبدِ اللَّهِ حكى قصةَ ضرار، وحكايتَه اختلافَ العلماءِ في خلقِ
الجنةِ والنارِ، وأن القاضيَ الجمعي أهدر دمَ ضرار، فلذلكَ استخفَى إلى أن
ماتَ. وأن أبا عبدِ اللَّه، قالَ: هذا كفرٌ، يعني القولَ بأنهما لم يُخْلَقَا بعدُ.
قال حنبل: وسألتُ أبا عبدِ اللَّهِ، عمَّن قالَ: إنْ كانتا خلِقَتَا فإنهما إلى
فناء، ثمَّ ذكرَ هذا الجوابَ عن أحمدَ.
ولا يصحُّ أن يقالَ: إنَّ أحمدَ إنما نفى الفناءَ عنهُما معًا، فيصدق ذلك بأن
تكونَ الجنةُ وحدها لا تَفْنى لأنَّ ما بعدَ هذا مبطلٌ لهذا التأويلِ، وهو قوله:
بلْ هما على علم اللَّهِ باقيتانِ. فإنَّ هذا ينفي ذلك الاحتمالَ والتوهمَ، ويثبتُ
لهما البقاءُ معًا، وهذا كما تقولُ: زيدٌ وعمرُ ولا يعلمانِ، فهذا قد يحتمل أن
يرادَ به نفي العلم عنهُما جميعًا دونَ أحدِهما، فإذا قلتَ بعدَ ذلك: بل هُما
جاهلانِ، زالَ ذلك الاحتمالُ، وأثبتَ الجهلَ لهما جميعًا، وأيضًا فلا يقعُ
استعمالُ نفي عن شيئينِ والمرادُ نفيُ اجتماعهما خاصةً، إلا معَ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ ذلك في سياقِ الكلامِ، أو عن لفظٍ يدلُّ عليه، فأمَّا مع الإطلاقِ فلا يقع ذلكَ، بل لا يجوزُ استعمالُهُ مع الإيهامِ، كما لا يُقالُ: الجنةُ والنارُ لا يفنيانِ،
وكما لا يُقالُ: الخالقُ والمخلوقُ لا يفنيانِ، ويرادُ به أنَّ المخلوقَ وحدَه يقنى، ولا يقالُ: الدنيا والآخرةُ لا تبقيانِ، ويُرادُ به أنَّ الدنيا وحدها تفْنى، ولا يُقالُ: إنَّ محمدًا ومسيلمةَ لا يصدَّقانِ أو لا يكذَّبانِ، ويرادُ به صدقَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وحده، وكذبُ مسيلمة وحدَه، فإن هذا كلَّه استعمالٌ قبيحٌ ممنوعٌ؛ ولا يُعهدُ مثلُه في كلامِ أحدٍ ممنْ يُعتدُّ بهِ.
وقولُ أحمدَ بعد هذا: "نسألُ اللَّهَ التثبيتَ أن لا يُزيغَ قلوبنَا بعدَ إذْ هدَانا"
يدلُّ على أنَّ القولَ بخلافِ ذلك عندَهُ من الضلالِ والزيغ، وقد صرَّح بهذا
فيما نقلَهُ عنه حربٌ، قال حربٌ في مسائِلِهِ: هذا مذهبُ أئمة أهل العلمِ
وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ المعروفينَ بها، المقتدَى بِهِم، وأدركتُ من
أدركتُ من علماءِ أهل العراقِ والحجازِ والشامِ وغيرِهم، فمن خالف شيئًا مِنْ هذه المذاهبِ أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنة وسبيلِ الحقِّ، وهو مذهبُ أحمدَ، وإسحاق والحميديِّ، وسعيدِ بنِ منصورٍ، وغيرِهم ممَّن جالسْنَا، وأخذنا عنهم العلمَ، فكانَ من
قولِهِم: الإيمانُ قولٌ وعملٌ - وذكرَ العقيدةَ ومن جملتها - قالَ: ولقد خُلِقتِ الجنةُ وما فيها وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خَلَقَهما اللَّهُ ثم خلقَ الخلقَ لهما لا يفنيانِ، ولا يفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ تعالى:(كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا، فقلْ له: كل شيء ممَّا
كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا
للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا. . . وذكر بقيةَ العقيدةِ.
فقوله في آخرِ كلامِهِ: "خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ " يبطل تأويلَ مَنْ
تأوَّلَ أولَ الكلامِ على أنَّ المرادَ به لا يفْنى مجموعُهُما.
وقد نُقلَ هذا الكلامُ الذي نقلَهُ حربٌ كلُّه، عن أحمدَ صرِيحًا.
كذلك نقلَهُ عنه أبو العباسِ أحمدُ بنُ جعفرِ بنِ يعقوبَ الأصطخريُّ، أنَّه
قال: إنَّ هذه مذاهبَ أهلِ العلم وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ، المتمسكينَ
بعروقِها، المعروفينَ بها، المقتدَى بهم فيها، ومن لدنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومِنا هذا، وأدركتُ من أدركتُ من علماءِ الحجازِ وأهلِ الشامِ وغيرِهِم، فمنْ خالفَ شيئًا من هذهِ المذاهبِ، أو طعنَ فيها، أو عابَ قائلَها، فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنةِ وسبيلِ الحقِّ - فذكرَ العقيدةَ كلَّها - وفيها: وقد خُلقتِ الجنةُ وما فيها، وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خلقهُما اللَّهُ، وخلقَ الخلقَ لَهُما، ولا يفنيانِ، ولا يَفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ عز وجل:(كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا من متشابه القرآنِ؟
قيلَ لهُ: كلُّ شيءٍ هالك مما كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا، وذكرَ بقيةَ العقيدةِ.
وقدْ رُويَتْ هذه العقيدةُ عن الإمامِ أحمدَ: أرواحُ المؤمنينَ في الجنةِ
وأرواخُ الكفارِ في النارِ.
وقد حكَى القاضي أبو يَعْلَى في كتابِ "المعتمدِ" ومن تبعهُ من الأصحابِ
هذا الكلامَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ عن أبيه، ولم ينقلْه عبدُ اللَّهِ عن أبيهِ إنَّما
نقلَهُ عن حنبلٍ.
إنما نقل عبدُ اللَّهِ عن أبيه، فقالَ الخلالُ: أنبأنا عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنُ
حنبلٍ، قال: سألتُ أبي عن أرواح الموتى، أتكونُ في أفنيةِ قبورِها، أم في
حواصلِ طيرٍ، أم تموتُ كما تموتُ الأجسادُ؟
قال: رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: "نسمةُ المؤمنِ إذا ماتَ طائرٌ يعلقُ في شجرِ الجنةِ حتَّى يرجعَهُ اللَّهُ إلى جسدِهِ يومَ بعثه ".
وقد رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ
خضرٍ كالزرازيرِ ثم يتعارفونَ فيها ويرزقونَ من ثمارِهَا.
وقال بعضُ الناسِ: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوِي إلى
قناديلَ في الجنةِ معلقةٍ بالعرشِ. انتهى.
وهذا الكلامُ - أيضًا - يدلُّ على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ عندَ اللَّهِ في الجنةِ، لأنَّه
ذكَرَ في جوابِهِ الأحاديثَ الدالةَ المرفوعةَ والموقوفةَ على ذلكَ. ولم يذكرْ سوى ذلكَ، ففي روايةِ حنبلٍ جزمَ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ.
وفي روايةِ عبدِ اللَّهِ ذكرَ الأدلةَ على ذلكَ.
فأمَّا الحديثُ المرفوعُ الذي ذكرَهُ، فهو من روايةِ مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ.
أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ كعبِ بنِ مالكٍ أخبره أنَّ أباه كعْبًا، كان يحدِّثُ عن
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّما نسمةُ المؤمنِ طائرٌ يعلق في شجرِ الجنةِ، حتى يرجعَهُ اللَّهُ
إلى جسدهِ "، كذا رواه مالكٌ في "الموطإ" ورواه عن مالكٍ جماعة منهُم
الشافعيُّ، ورواه الإمامُ أحمد في "مسندهِ " عن الشافعيِّ، وخرَّجهُ الشافعيّ
من طريقِ مالكٍ أيضًا.
وخرَّجه ابنُ ماجةَ من طريقِ الحارثِ بنِ فضيلٍ، عن الزهريِّ، بهذا
الإسنادِ. وكذا رواه عن الزهريِّ: يونسُ والزبيديُّ والأوزاعيُّ وابنُ إسحاقَ، ورواه شعيبٌ وابنُ أخي الزهريِّ وصالحُ بنُ كيسانَ، عن الزهريِّ، عن
عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ كعب بنِ مالكٌ عن جدة كعبٌ.
وقال صالحٌ في حديثِهِ: إنَّه بلَغَه أنَّ كعبًا كان يحدًّثُ؛ وقال شعيبٌ في حديثِهِ: إنَّ كعبًا كان يحدِّثُ فهو على روايةِ صالح ومن وافقه فهو منقطعٌ، وذكر محمد بنُ يحيى الذهليُّ أنَّ ذلكَ هو المحفوظُ، وخالفَهُ ابنُ عبدِ البرِّ في ذلكَ. ورجَّح روايةَ مالكٍ ومن وافقَهُ، وقد روي - معنى حديثِ كعبِ - من وجوه متعددة.
فروى حمادُ بنُ سلمةَ، عن محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي
هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فذكرَ حديثَ القبرِ بطولِهِ، وفيه في حقِّ المؤمنِ، قال:
"ويُعادُ الجسدُ إلى ما بُدئُ منهُ، ويجعل روحُه في نسيمٍ طيب يعلقُ في شجرِ الجنةِ"
خرَّجه الطبراني وغيرُهُ.
وخرَّجه ابنُ حبانُ في "صحيحِه " من طريقِ معمرٍ، عن محمدِ بنِ عمرٍو
بهِ، ولفظُه:"وتُجعلُ نسمتُه في النسيمِ الطيبِ، وهو طير يعلقُ في شجرِ الجنةِ"
وقد سبقَ أنَّ غيرَهُما رواه عن محمدِ بنِ عمرٍو، ووقَفَهُ على أبي هريرةَ.
وقد تقدَّم حديثُ أمِّ هانئ الأنصاريةِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "يكونُ النَّسَمُ طيرًا تعلَّقُ بالشجرِ، حتى إذا كان يومُ القيامةِ دخلتْ كلّ نفسي في جسدِها".
وخرَّج ابنُ منده، من روايةِ موسى بنُ عبيدةَ الربَذيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ
زيدِ، عن أمِّ بشرِ بنتِ العرورِ، قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أرواحَ المؤمنينَ
في حواصِلِ طيرٍ خضرٍ، تَرعَى في الجنةِ، تاكُلُ من ثمارِهَا، وتشربُ مِنْ مائِها، وتأوِي إلى قناديلَ من ذهبٍ تحتَ العرشِ، فتقولُ: ربَّنا ألحِقْ بنا إخوانَنا وآتِنَا ما وعدْتنا، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في حواصلِ طيرٍ سود، تأكلُ من النارِ، وتشربُ مِنَ النارِ، وتأوِي إلى حجرة في النارِ، فيقولونَ: ربَّنا لا تلحِق بنا إخوانَنا، ولا تؤْتِنا ما وعدْتنا".
وموسى بنُ عبيدةَ شيخ صالح، شغلتْه العبادةُ عن حفظِ الحديثِ، فكثرتْ المناكيرُ في حديثه.
وخرَّج ابنُ منده - أيضا - من روايةِ معاويةَ بنِ صالح، عن سمرةَ بنِ
جندبٍ، قالَ: سئلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنينَ، فقالَ:"في طيرٍ حضرٍ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءَتْ ".
قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، أرواحُ الكفارِ؟
قال: "محبوسةٌ في سجينٍ ".
وهذا مرسل.
وخرَّج أيضًا من روايةِ عيسى بنِ موسى، عن سفيانَ الثوريِّ، عن ثورِ بنِ
يزيدَ، عن خالدِ بن معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ: قالَ رسولُ اللِّهِ
صلى الله عليه وسلم:
"أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ كالزرازير كلُ من ثمرِ الجنة".
ثم قالَ ابنُ منده: رواه جماعةٌ عن الثوريِّ موقوفًا، يعني على عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو.
قلتُ: والصوابُ وقفُه.
وقد سبقَ أنَّ الإمامَ ذكرَهُ في روايةِ ابنِهِ عبدِ اللَّهِ موقوفًا، وكذا رواهُ وكيع.
عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ فيها، ويرزقونَ من ثمارِها.
خرَّجه الخلالُ.
وخرَّجَ - أيضًا - من حديثِ أبي هاشم، عن أبي إسحاق، عن أبي
الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، فذكرَ احتضارَ المؤمنِ، وأنَّ روحَهُ تعادُ
إلى جسدِه عند سؤالهِ في القبرِ، ثم تُرفعُ روحُهُ، فتجعلُ في أعْلى عليين.
ثم تلا عبدُ اللهِ الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) .
قال: في السماءٍ السابعةِ، فأمَّا الكافرُ فذكرَ الكلامَ، وتلا:(إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) .
قالَ: الأرضُ السابعةُ.
ورُوي مثلُ هذا المعنى عن أبي هريرةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو.
وذكرَه ابنُ عبدِ البرِّ.
وروى سعيدٌ، عن قتادةَ قالَ: ذُكر لنا أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو كانَ يقولُ: في
سجِّين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفارِ.
وروى ابنُ المباركِ، عن ابن لهيعةَ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، أنَّ منصورَ بنَ
أبي منصورٍ، حدّثه، قالَ: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، عن أرواحِ المسلمينَ
حينَ يموتونَ، قالَ: ما تقولونَ يا أهلَ العراقِ؟
قلتُ: لا أدرِي. قالَ: فإنَّها صُوَر طيرٍ بيضٍ في ظلِّ العرشِ، وأرواحُ الكفارِ في الأرضِ السابعَةِ.
وروى - أيضًا - عن كعبٍ، من روايةِ الأعمشِ، عن شمْر بنِ عطيةَ عنْ
هلالِ بنِ يسافٍ قالَ: كنّا جلوسًا إلى كعبٍ، فجاءَ ابنُ عباسٍ، فقالَ: يا
كعبُ، كل ما في القرآنِ قد عرفتُ، غيرَ أربعةِ أشياءَ، فأخبرْنِي عنهُنَّ، فسأله عن سجِّينٍ وعلِّيين، فقال كعبٌ: أما علِّيون فالسماءُ السابعةُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، وأمَّا سجِّين فالأرضُ السابعةُ السُّفلى وفيها أرواحُ الكفارِ تحتَ خد إبليس.
وقد ثبتَ بالأدلةِ أنَّ الجنةَ فوقَ السماءِ السابعةِ، وأنَّ النارَ تحتَ الأرضِ
السابعةِ وقد ذكرْنا ذلك في كتابِ: "صفة النارِ" مستوفىً.
وروى أبو نُعيمٍ، من طريقِ الحكم بنِ أبانَ، قالَ: نزلَ بي ضيفٌ من أهلِ
صنعاءَ، فقال: سمعتُ وهبَ بنَ منبه، يقولُ: إنَّ للَّهَ عز وجل في السماءِ
السابعةِ دارًا يُقالُ لها: البيضاءُ، تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، فإذا ماتَ الميتُ
من أهلِ الدنيا تلقتْهُ الأرواحُ، فيسألونَهُ عن أخبارِ أهلِ الدنيا، كما يسألُ
الغائبُ أهلَهُ إذا قدِمَ عليهِم.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ سفيانَ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ
المسيبِ، أنَّ سلمانَ الفارسيَّ وعبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ، لقيَ أحدُهُما صاحبَهُ.
فقالَ: إنْ متَّ قبلي فحدِّثني بما لقيتَ، وإنْ مِتُ قبلَك حدَّثْتُك بما لقيتُ.
قالَ: وكيف يكونُ ذلك؟
فقال: أرواحُ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ.
وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ جرير عنْ يحيى به.
وخرَّج - أيضًا - من طريقِ ابنِ لهيعةَ، عن يزيدِ بنِ أبي حبيبٍ، عن
منصورِ بنِ أبي منصورٍ، أنه سألَ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن أرواح المؤمنينَ إذا
ماتُوا أينَ هِي؟
قالَ: هي صورُ طيرٍ بيضٍ، في ظلِّ العرشِ.
وروى ليثٌ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعود، قالَ: إنَّ أرواحَ
آلِ فرعود في أجواف طير سود، تغدُو على جهنَّم، وتروحُ إليها، فذلكَ
عرضُها. َ
وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، في قولِهِ تعالى:(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)، قالَ: هم فيها اليوم، يُعدَى بهم ويُراح إلى أن تقومَ
الساعةُ.
خرَّجهما ابنُ أبي حاتمٍ.
وخرَّج اللالكائيُّ، من روايةِ عاصم، عن أبي وائل، عن أي موسى
الأشعريِّ، قال: تخرجُ روحُ المؤمنِ وهي أطيبُ من المسكِ، فتعرجُ به
الملائكةُ إلى ربِّه عز وجل، حتى تأتِي ربَّه، وله برهانٌ مثلُ الشمسِ، وروحُ
الكافرِ - يعني: أنتن من الجيفةِ -، وهو بوادِي حضرموْت، في أسفلِ الثَّرَى، من سبع أرضينَ.
وقد يُستدلّ للقولِ بأنَّ أرواحَ المؤمنين في الجنةِ، وأرواحَ الكفارِ في النارِ.
من القرآنِ بأدلة، منها قولُه تعالى:(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) .
إلى قولِهِ: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) .
هو دخولُ النارِ مع إحراقِهَا وإنضاجِها، فجعل هذا كلَّه متعقبًا للاحتضارِ والموت.
وكذلك قولُه تعالى في قصةِ المؤمنِ في سورةِ يس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) .
وإنَّما قالَ هذا بعدَ أن قتلوه، ورأى ما أعدَّ اللَّهُ له وكذلكَ قولُهُ:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) .
على تأويلِ من تأوَّل ذلك عند الاحتضارِ.
وكذلك قولُهُ تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) .
ونظيرُ هذه الآيةِ قولُهُ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) .
وممَّا يُستدلُّ به - أيضًا - لذلكَ، ما رواه مجالدٌ، عن الشعبيِّ، عن جابرٍ.
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن خديجةَ، قال:"أبصرتُها على نهر من أنهارِ الجنة، في بيت من قصبٍ، لا لغو فيه ولا نصب "
خرَّجه البزارُ والطبرانيُّ. َ
وخرَج الطبرانيُّ أيضًا بإسنادٍ منقطع عن فاطمةَ رضي الله عنها، أنها
قالتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أين أُمُّنَا خديجة رضي الله عنها؟
قال: "في بيتٍ من قصبٍ لا لغوٌ فيه ولا نصب مع مريمَ وآسيةَ امرأةِ فرعونَ " قالتْ: ممن هذا القصبُ؟
قال: "من القصبِ المنظوم بالدررِ واللؤلؤ والياقوتِ ".
وخرَّج أبو داودَ في "سننهِ " من حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما رجمَ الأسلميّ - الذي اعترفَ عنده بالزِّنا - قال:"والذي نفسِي بيدِه إنه الآن لفي أنهارِ الجنةِ ينغمسُ فيها".
فصل
وإنَّما تدخلُ أرواحُ المؤمنينَ والشهداءِ الجنةَ إذا لم يمنعْ من ذلكَ مانع، من
كبائرَ تستوجبُ العقوبةَ، أو حقوقِ آدميينَ حتَّى يبرأَ منها.
ففي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أنَ مِدْعَمًا قتلَ يومَ
خيبرٍ، فقال الناسُ: هنيئًا له الجنةَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"كلَاّ، والذي نفسِي بيده إن الشَّمْلةَ التي أخذَهَا يومَ خيبرَ لم تصبْها المقاسمُ لتشتعلُ عليه نَارًا".
وعن سمرةَ بنِ جندبٍ، قالَ: صلَّى بنا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقالَ: "ها هنا أحدٌ من بني فلانٍ؟ " ثلاثًا، فلم يجبْهُ أحد، ثم أجابهُ رجلٌ، فقالَ:"إنَّ فلانًا الذي تُوفِّيَ احتبسَ عن الجنةِ من أجلِ الدَّينِ الذي عليهِ، فإن شئتم فافْتَكُّوه - أو فافدُوه - وإن شئتُم فأسْلِمُوه إلى عذاب اللهِ عز وجل "
خرَّجَه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، بألفاظ مختلفة.
وخرَّج البزارُ من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي حديثِه قالَ: "إنَّ صاحبَكُم محبوس على بابِ الجنةِ" أحسبه قال: بدينٍ.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ ثوبانَ، عن
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"من فارقَ الروحُ الجسدَ، وهو بريءٌ من ثلاث، دخلَ الجنةَ، من الكبرِ، والغلولِ، والدَّينِ ".
وخرَّج الطبرانيُّ، من حديثِ أنسٍ، قالَ: أُتِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجل يصلِّي
عليه، فقالَ:"على صاحبِكُم دَيْنٌ؟ " فقالُوا: نعم، قالَ:" فما ينفعُكُم أنْ أصلِّيَ على رجلٍ مرتهن في قبرِهِ، لا تصعدُ روحُه إلى السماءِ، فلو ضمِنَ رجلٌ دَيْنَه قمتُ فصلَّيتُ عليه، فإنَّ صلاِتي تنفعُهُ ".
وفي المعنى أحاديث متعددة.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعد الموتِ " من طريقِ سيَّارِ
ابنِ جسرٍ، قالَ: خرج أبي وعبدُ اللَهِ بنُ زيدٍ، يريدانِ الغزوَ، فهجمُوا على
رَكيةٍ عميقةٍ واسعةٍ، فأدلَوا حبالَهُم بقدرٍ، فإذا القدر قد وقعت في الرَّكِيَّةِ.
قالَ: فقرنوا حبالَ الرفقةِ بعضُها ببعضٍ، ثم دخلَ أحدُهما إلى الرَّكيِّ، فلمَّا
صارَ في بعضِه إذا هُوَ بهمهمةٍ في الرَّكِيِّ، فرجعَ فصعدَ، فقالَ: أتسمعُ ما
أسمعُ؟ قالَ: نعمْ، فناولني العمودَ، فأخذ العمود ثم دخلَ الرَّكِيَّةَ، فإذا هُو
برجلٍ جالسٍ على ألواح وتحتَهُ الماءُ. فقالَ: أجنيّ أم إنسيّ؟
قال: بل إنسيٌّ، فقالَ: ما أنت؟
قال: أنا رجل من أهلِ إنطاكية، وإني مِتُّ فحبسنِي ربِّي عز وجل ها هُنا بدَيْنٍ عليَّ، وإن ولَدي بإنطاكية، ما يذكروني، ولا يقضونَ عنَي.
فخرجَ الذي كان في الرَّكِيًّةِ، فقال لصاحبِهِ: غزوةٌ بعدَ غزوة، فدعْ
أصحابَنا يذهبونَ، فسارُوا إلى إنطاكية، فسألوا عن الرجلِ وعن بَنِيه، فقالوا: نعم، إنه - واللَّهِ - لأبونا، وقد بعنا ضيعةً لنا، فامشوا معنا حتى نقضيَ عنهُ دَيْنَهُ، قال: فذهبُوا معهُم، حتى قضوا ذلك الدَّينَ، قال: ثم رجعْنا من
إنطاكية حتى أتيْنَا موضعَ الركيةِ، ولا نشكُّ أنها ثمَّ، فلم يكنْ ركيةً ولا شيء
فأمسُوا فباتُوا هناكَ. فإذا الرجلُ قد أتاهُم في منامِهِم، وقال: جزاكمُ اللَّهُ
خيرًا، فإن ربِّي عز وجل حَوَلني إلى مكانِ كذا وكذا من الجنةِ حيثُ قُضِي
عنَي دَيني.
وروى في كتابِ "المناماتِ " قال: حدثنا زكريا بنُ الحارثِ البصريُّ، قالَ:
رُئِيَ محمدُ بنٍ عبادٍ في النومِ، فقيلَ لهُ: ما فعلَ اللَّهُ بك؟
فقالَ: لولا دَيْنِي أُدْخِلتُ الجنةَ.
وقالتْ طائفةٌ: الأرواحُ في الأرضِ، ثم اختلفُوا.
فقالتْ فرقةٌ منهم: الأرواحُ تستقرُّ على أفنيةِ القبورِ.
وهذا القولُ هو الذي ذكرَه عبدُ اللَّهِ ابن الإمامِ أحمدَ لأبيه في سؤالِهِ المتقدمِ. وحكى ابنُ حزمٍ هذا القولَ عن عامَّة أصحابِ الحديثِ.
وقال ابنُ عبدِ البرِّ: كان ابنُ وضَّاحٍ يذهبُ إليه، ويحتجُّ بحديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين خرجَ إلى المقبرةِ فقال:"السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنينَ "، فهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ بأفنيةِ القبور.
ورجَّح ابنُ عبدِ البرِّ أنَّ أرواحَ الشهداءِ في الجنةِ، وأرواحَ غيرِهِم على أفنيةِ
القبورِ تسرحُ حيثُ شاءتْ.
وذَكرَ عن مالكٍ أنه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلةٌ تذهبُ حيثُ شاءتْ.
وعن مجاهدٍ قالَ: الأرواحُ على القبورِ سبعةُ أيامٍ، من يومِ دفنِ الميتِ، لا
تفارقُ ذلكَ.
واستدلَّ هو وغيرُه بحديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم
قالَ: "إذا ماتَ أحدُكُم عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداةِ والعشيِّ، إنْ كانَ من أهل الجنةِ فمنْ أهلِ الجنةِ، وإنْ كانَ من
أهلِ النارِ فمِنْ أهلِ النارِ، يُقالُ له: هذا مقعدُك حتَّى يبعثَكَ اللَهُ يومَ القيامةِ"
وهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ ليستْ في الجنةِ، وإنّما تعرضُ عليها بكرةً وعشيًّا.
كذلك ذكرَ ابنُ عطيةَ وغيرُه.
وهذا لا حجةَ لهم فيه لوجهين:
أحدهما: أنه يحتملُ أنْ يكون العرضُ بكرةً وعشيًّا على الروح المتصلةِ
بالبدنِ، والروحُ وحدَها في الجنةِ فتكونُ البشارةُ والتخويفُ للجسدِ في هذينِ
الوقتينِ باتصالِ الروح به. وأما الروحُ فهيَ أبدًا في نعيم أو عذابٍ.
والثاني: أن الذي يُعرضُ بالغداةِ والعشيِّ هو مسكنُ ابنِ آدمَ الذي يستقرُ فيه
في الجنةِ أو النارِ، وليستِ الأرواحُ مستقرةً فيه في مدةِ البرزخ، وإنْ كانتْ في الجنةِ أو النارِ.
ولهذا جاءَ في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ المؤمنَ إذا فتحَ له في قبى بابٌ إلى الجنةِ، وقيلَ له: هذا منزلُكَ. فيقولُ: ربِّ أقِم الساعةَ حتَى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي ".
وأمَّا السَّلامُ على أهلِ القبورِ فلا يدلّ على استقرارِ أرواحهِم على أفنيةِ
قبورِهم، فإنَّه يسلِّمُ على قبورِ الأنبياءِ والشهداءِ، وأرواحُهم في أعلى عليِّين، ولكنْ لها مع ذلكَ اتصالٌ سريعٌ بالجسدِ، ولا يعلمُ كُنْهَ ذلكَ وكيفيتَهُ على
الحقيقةِ إلا اللَّهُ عز وجل.
ويشهدُ لذلكَ الأحاديثُ المرفوعةُ والموقوفةُ على أصحابِهِ، كأبي الدرداءِ.
وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهم، في أنَّ النائمَ يُعرجُ بروحِهِ
إلى العرشِ مع تعلّقها ببدنِهِ، وسرعةِ عودِها إليه عند استيقاظهِ، فروحُ الموتى
المتجردةُ عن أبدانِهِم أوْلَى بعروجِهَا إلى السماءِ وعودِها إلى القبرِ في مثلِ تلك
السرعةِ، واللَّهُ أعلمُ.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، أنَّ
سلمانَ قال لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ في برزخٍ مِنَ الأرضِ
تذهبُ حيثُ شاءتْ، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في سجِّين.
وخرَّجه ابن سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ روحَ المؤمنِ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، وروحَ الكافر في سجين ".
وعليٌّ بنُ زيدٍ ليسَ بالحافظِ، خالفَهُ يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ مع عظمتِهِ وجلالتِه وحفظِهِ.
فرواه عن سعيدِ بنِ السيبِ، قالَ فيهِ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ
حيثُ شاءتْ، كما سبقَ ذكرهُ، وخرَّجه ابنُ سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ
المؤمنَ روحُهُ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، ونسمُ الكافرِ في سجِّين ".
وقد تقدَّمَ عن مالكٍ أنَّه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلة تذهبُ حيثُ
شاءتْ، وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، عن خالدِ بنِ خداشٍ، قالَ: سمعتُ مالكًا
يقولُ ذلكَ.
وخرَّج - أيضًا - عن حسينِ بنِ على العجليِّ، حدثنا أبو نُعيمٍ، حدثنا
شريلث عن يعْلَى بنِ عطاءِ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ؛ مثلُ:
المؤمنِ حينَ تخرجُ نفسُهُ، أو قالَ روحُهُ، مثلُ رجلٍ كان في سجْنٍ، فأُخْرِجَ منه، فهو ينفسحُ في الأرضِ ويتقلبُ فيها.
ومما استدلَّ به على أنَّ الأرواحَ في الأرضِ، حديثُ البراءِ بن عازبٍ.
الذي تقدَّم سياقُ بعضِه، وفيه صفةُ قبضِ رُوح المؤمنِ: "فإذا انتهَى إلى العرشِ
كتبَ كتابَهُ في علِّيين، ثم يقولُ الربُّ عز وجل: ردُّوا عبدِي إلى مضجعِهِ، فإنَي وعدتُهم أني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، فيُرَدُّ إلى مضجعِهِ ".
وذكرَ الحديثَ. وقال في روء الكافرِ: "فيصعدُ بها إلى السماءِ، فتغلق دونه أبوابُ السماءِ قال: ويُقالُ: اكتبوا كتابَهُ في سجِّين، قالَ: ثم يقالُ: أعيدُوا عبدِي إلى الأرضِ، فإني وعدتُهُم أنِّى منها خلقتُهم، وفيها أعيدُهُم، ومنها أخرجُهم تارةً أخرى".
وفي روايةٍ: "فيقولُ اللَّهُ تعالى: ردُّوا روحَ عبدِي إلى الأرضِ، فإنِّي وعدتُهُم أنِّي أردُّهم فيها" ثم قرأ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) .
وهذا يدل على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ تستقرُ في الأرضِ، ولا تعودُ إلى السماءِ
بعد عرضِها ونزولهَا إلى الأرضِ، ولكنَّ حديثَ البراءِ وحدَهُ لا يعارضُ
الأحاديثَ المتقدمةَ في أنَّ الأرواحَ في الجنةِ، ولا سيما الشهداءُ.
وفي "صحيح مسلم" عن عبدِ اللَّهِ بن شقيقٍ، عن أبي هريرةَ، في صفةِ
قبضِ روء المؤمنِ، قالَ:"ثم يصعدُ به إلى اللهِ عز وجل فيقولُ: ردُوه إلى آخر الأجلبنِ "، وذكرَ مثلهُ في روءِ الكافرِ، وقال فيه: وردَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ريطةً كانتْ له على أنفهِ، يعني لمَّا ذكر نتن ريحهِ. وهذا يشهدُ لرفع الحديث كلِّهِ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، منْ حديثِ قتادةَ عن قسامةَ بنِ زهيرٍ، عن أبي
هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتتهُ الملائكةُ بحريرة فيها مسكٌ وضبائرُ
الريحانِ، فتُسل روحُهُ كما تُسلُّ الشعرةُ من العجينِ، وتقولُ: أيتها النفسُ المطمئنةُ اخرجِي راضيةً، مرضيًّا عنكِ إلى روحِ اللَّهِ وكرامتِهِ، فإذا خرجتْ روحُه وُضِعَتْ على
ذلكَ المسكِ والريحانِ، وطويتْ عليها الحريرةُ، وبُعثِ بها إلى عليين.
وإنَّ الكافرَ إذا احتضرَ أتتْهُ الملائكةُ بمسحٍ فيه جمرةٌ، فتنزعُ روحُهُ نزعًا شديدًا، ويقالُ: أيتها النفس الخبيثةُ، اخرجِي ساخطةً مسخوطًا عليكِ إلى هوانِ اللَّهِ وعذابِهِ، فإذا أُخرجَتْ روحُه وُضِعَتْ على تلكَ الجمرةِ، فإنَّ لها نشيشًا، يُطوى عليها المسحُ ويذهبُ بها إلى سِجِّين ".
وخرَّجه النسائيُّ وغيرُه، من حديثِ قتادةَ، عن أبي الجوزاءِ عن
أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولفظُهُ مخالفٌ لما قبلَهُ، وذكرَ فيه في روح المؤمنِ: حين ينتهوا به إلى السماءِ العُليا، وقال في روح الكافرِ، حينَ ينتهوا به إلى الأرضِ السّفلى.
وقد ذكرنا فيما تقدَّم عن ابنِ مسعودٍ: أنَّ الروحَ بعدَ السؤالِ في القبرِ تُرفع
إلى عليينَ، وتلا قولَهُ تعالى:(كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِيِّينَ) .
وقالتْ فرقة: تجتمعُ الأرواحُ بموضع من الأرضِ، كما روى همامُ بنُ يحيى
المسعوديُّ، عن قتادةَ: قالَ: حدثني رجل، عن سعيدِ بن المسيبِ، عن
عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو، قالَ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تجتمعُ بالجابيةِ، وأمَّا أرواحُ الكفارِ فتجمعُ بسبخةٍ بحضرموت، يُقال لهُ: برهوتُ، خرَّجه ابنُ منده.
ورواه هشامُ الدستوائيُّ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ من قولِهِ، ولم
يذكرْ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرو، خرَّجه من طريقِ ابنِ أبي الدنيا، وقد تبيّنَ أن قتادةَ
لم يسمعْه من سعيدٍ، إنما بَلَغَه عنه ولا يدرِ عَمَّن أخذهُ.
وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ فراتِ القزازِ، عن أبي الطفيلِ، عن علي.
قال: شرُّ وادٍ بئر في الأحقافِ: برهوتُ، بئرٌ في حضرمَوت، ترده
أرواحُ الكفارِ.
قال: ورواه حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن يوسفَ بن مهرانَ.
عن ابنِ عباسٍ: عن عليٍّ رضي الله عنه، قال: أبغضُ بقعة في الأرضِ وادٍ بحضرموت، يُقال له: بَرهوتُ، فيه أرواحُ الكفارِ، وفيه بئر ماؤُه بالنهارِ أسودُ كأنه قيحٌ تأوِي إليه الهوامُ.
وروى بإسناده عن شهرِ بنِ حوشبٍ، أنَّ كعبًا رأى عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو.
وقد تكالبَ الناسُ عليه يسألونَهُ، فقال رجل لرجلٍ: سله أينَ أرواحُ المؤمنينَ؟
قال: بالجابيةِ وأرواحُ الكفارِ ببرهوتَ.
وبإسنادٍ عن سفيانَ، عن أبانَ بنِ تغلبٍ، قال: قال رجل: بتّ فيه - يعني
وادي برهوت، وكأنَّما حُشدتْ فيه أرواحُ الناسِ، وهم يقولونَ: يا دومةُ يا
دومةُ، قال أبانُ: فحدثنا رجل من أهلِ الكتابِ: هو المَلكُ الذي على أرواحِ الكفارِ.
قال سفيانُ: وسألنا الحضرميّينَ، فقالُوا: لا يستطيعُ أن يبيتَ فيه أحدٌ
بالليلِ.
وقال ابنُ قتيبةَ في كتابِ: "غريبِ الحديثِ ": ذكرَ الأصمعيُّ، عن رجلٍ
من أهلِ برهوتَ - يعني البلدَ فيه هذا البئرُ -، قال: نجدُ الرائحة المنتنةَ
الفظيعةَ جدًّا، ثم نمكثُ حينًا، فيأتينا الخبرُ بأن عظيمًا من عظماء الكفارِ قد
ماتَ، فنرى أن تلكَ الرائحةَ منْهُ.
قال: وقالَ ابنُ عيينةَ: أخبرنِي رجل أنه أمْسَى ببرهوتَ، فكأنَّ فيه
أصواتُ الحاجِّ، قال: وسألتُ أهلَ حضرموت، فقالُوا: لا يستطيعُ أحدُنا أن
يمشي به فيه.
وقال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا الحسينُ بنُ عبدِ العزيزِ، حدثنا عمرو بنُ أبي
سلمةَ، عن عمرَ بنِ سليمانَ، قالَ: ماتَ رجلٌ من اليهودِ وعندَهُ وديعةٌ
لمسلم، وكانَ لليهوديِّ ابنٌ مسلمٌ، فلم يعرفْ موضعَ الوديعةِ، فأخبرَ شعيبًا
الجبائيَّ، فقال: ائت برهوتَ فإنَّ دونهُ عينٌ تسيبُ، فإذا جئتَ في يومِ السبتِ فامشِ عليها حتَّى تأتِي عينًا هناكَ، فادعُ أباك فإنه سيجيبُكَ، فاسألْه عما تريدُ، فعلَ ذلك الرجلُ، ومضى، حتى أتى العينَ، فدعا أباه مرتينَ أو ثلاثاً فأجابَهُ، فقالَ: أين وديعةُ فلانٍ؟ فقال: تحت إسكفةِ البابِ، فادفعْها إليه.
وفي كتابِ "الحكاياتِ " لأبي عمرٍو أحمدَ بنِ محمدٍ النيسابوريِّ، قالَ:
حدثنا أبو بكرٍ بنُ محمدِ بنِ عيسى الطرطوسيُّ، حدثنا حامدُ بنُ يحيى حدثنا
يحيى بنُ سليم، قالَ: كانَ عندنا بمكةَ رجلُ صدق من أهلِ خراسانَ يُودعَ
الودائعَ فيؤدِّيها، فأودعه رجلٌ عشرة آلافِ دينارٍ، وغابَ، فحضرتِ
الخراسانيَّ الوفاةُ، فما ائتمنَ أحدًا من ولدِهِ، فدفنَهَا في بعضِ بيوتِهِ، وماتَ.
فقدِمَ الرجلُ وسألَ بنيهِ، فقالُوا: ما لنا بها علمٌ، قالَ العلماءُ الذين بمكةَ.
وهم يومئذٍ متوافرونَ، فقالُوا: ما نراهُ إلا من أهلِ الجنةِ، وقد بلغَنا انَّ أرواحَ أهل الجنةِ، في زمزمَ، فإذا مضى من الليلِ ثلثُه أو نصفُهَ فائتِ زمزمَ، فقفْ على شفيرِهَا، ثم نادِهِ، فإنا نرجُو أن يجيبَكَ، فإنْ أجابكَ فاسْألْه عن مالِكَ.
فذهبَ كما قالُوا: فنادَى أولَ ليلةٍ وثانيةٍ وثالثةٍ، فلم يُجَبْ، فرجَعَ إليهم.
فقالَ: ناديتُ ثلاثا فلم أُجَبْ؛ فقالُوا: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، ما نرى
صاحبَك إلا من أهل النارِ، فاخرجْ إلى اليمنِ، فإنَّ بها واديًا يُقالُ له:
برهوتَ، فيه بئرٌ يقالُ له: يلهوتُ فيها أرواحُ الكفارِ، فقِفْ على شفيرها فنادِهِ
في الوقت الذي ناديتَهُ في زِمزمَ، فذهب كما قيل له في الليلِ، فنادَى يا
فلانُ يا فلانُ بنُ فلانٍ أنا فلانُ بنُ فلانٍ، فأجابَهُ في أولِ صوتِ، فقال له:
ويحكَ ما أنزلَكَ ها هنا وقد كنتَ صاحبَ خيرٍ؟
قال: كان لي أهلٌ بخراسانَ، فقطعتُهم حتى مِتُّ، فأخذَنِي اللَّهُ فأنزلني هذا المنزلَ، وأمَّا مالُك فإني لم آمنْ عليه ولدِي، وقد دفنتُه في موضع كذا.
فرجع صاحبُ المالِ إلى مكةَ، فوجدَ المالَ في المكانِ الذي أخبرَهُ.
ورجَّحت طائفةٌ من العلماء أن أرواحَ الكفارِ في بئر برهوت، منهم
القاضي أبو يعْلَى من أصحابِنا في كتابِه: "المعتمد" وهو مخالفٌ لنص أحمدَ:
أنَّ أرواح الكفارِ في النارِ.
ولعلَّ لبئر برهوت اتصالاً في جهنَّم في قعرِها، كما رُوي في البحرِ أنَّ
تحته جهنَّم، واللَّه أعلمُ.
ويشهدُ لذلكَ ما سبقَ من قولِ أبي موسى الأشعريِّ: فروحُ الكافرِ بوادي حضرَموت، في أسفلِ الثرى من سبع أرضينَ.
وقال صفوانُ بنُ عمرٍو: سألتُ عامرَ بنَ عبدِ اللَّهِ اليمانيَّ، هل لأنفسِ
المؤمنينَ مجتمعٌ؟
فقال: يُقالُ: إن الأرضَ التي يقولُ اللَّهُ: (أَنَّ الأَرْض يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، قالَ: هي الأرض التي تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، حتى يكونَ البعثُ.
خرَّجه ابنُ منده، وهذا غريبٌ جدًّا، وتفسيرُ الآيةِ بذلك ضعيفٌ.
وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعدَ المماتِ " من طريقِ
عبدِ الملكِ بنِ قدامةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن دينارٍ، عن أبي أيوبَ اليمانيِّ، عن
رجلٍ من قومِهِ يقال له: عبدُ اللَّه، إنه ونفرٌ من قومِهِ ركبُوا البحرَ، وإنَّ
البحرَ أظلمَ عليهم أيامًا، ثم انجلتْ عنهم تلك الظلمةُ، وهم قرب قريةٍ، قالَ
عبدُ اللَّه: فخرجتُ ألتمسُ الماءَ، فإذا أبوابَ المدينةِ مغلقة، تجأجأ فيها الريحُ
فهتفتُ بها، فلم يجبْني أحدٌ، فبينا أنا كذلك إذ طلعَ عليَّ فارسانِ، تحتَ كلِّ
واحدٍ منهما قطيفةٌ بيضاءُ، فسألانِي عن أمرِي، فأخبرتُهما بالذي أصابَنا في
البحرِ، وإني خرجتُ أطلبُ الماءَ. فقالا لي: يا عبدَ اللَّهِ، اسْلُكْ في هذه
السكّةِ، فإنك ستنتهِي إلى بركةٍ فيها ماءٌ فاسْقِ منها، ولا يهولنّك ما ترى
فيها، قال: فسألتُهما عن تلكَ البيوتِ المغلقةِ التي تجاجا فيها الريحُ فقالا:
هذه بيوت فيها أرواحُ الموتى.
قال: فخرجتُ حتى انتهيتُ إلى البركةِ، فإذا فيها رجلٌ مصلوبٌ معلَّقٌ
على رأسِهِ، يريدُ أن يتناولَ الماءَ بيدِهِ، وهو لا ينالُه، فلما رآني هتفَ بِي.
وقال: يا عبدَ اللَّهِ اسقنِي، قال: فغرفتُ بالقدح لأناوَلَهُ فقبضتْ يدِي، قالَ
لي: بلَّ العمامةَ ثم ارمِ بها إليَّ، قال: فبللت العمامة لأرمي بها إليه.
فقبضت يدي العمامةَ، ثم بللتُ ثانيًا لأرمي بها إليه قبضتْ يدي. فقلتُ: يا
عبدَ اللَّه غرفتُ بالقدح لأناولكَ فقُبِضَتْ يدي، ثم بللتُ العمامة لأرمي بها
إليكَ فقُبِضَتْ يدي، فأخبرْنِي من أنت؟
فقال: أنا ابنُ آدم، أنا أول من سفكَ دمًا في الأرضِ.
خرَّجَ أبو نعيمٌ بإسنادِهِ عن ابنِ وهبٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بنِ
أسلمَ، قالَ: بينا رجلٌ في مركبٍ في البحرِ، إذ انكسرَ بهم مركبُهم، فتعلقَ
بخشبةٍ، فطرحتُه في جزيرة من الجزائرِ، فخرج يمشي، فإذا هو بماءٍ، فتبعهُ
فدخلَ في شعبٍ، فإذا رجل في رجليه سلسلةٌ مربوطٌ بها، بينه وبينَ الماءِ
شبرٌ، فقال: اسقني رحمكَ اللَهُ، قال: فأخذتُ ملءَ كفي ماءً فرفعَ بالسلسلةِ فذهبَ الماءُ، فلما ذهبَ الماءُ حطّ الرجل: قال: ففعلتُ ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، أو أربعًا، قال: فلما رأيتُ ذلك منه، قلتُ له: ما لكَ ويحكَ؟
قال: هو ابنُ آدم الذي قتلَ أخاهُ، والله ما قُتِلَتْ نفسٌ ظُلْمًا منذ قتلتُ أخي إلا يعذِّبني اللهُ بها، لأنِّي أوَّل من سنًّ القتلَ.
وروى تمامُ بنُ محمدِ الرازيُّ في كتابِ "الرهبانِ " حدثنا عصمةُ العبادانيُّ.
قال: كنتُ أجول في بعضِ الفلواتِ، إذ بصرتُ دِيرًا وفيه صومعةٌ، وفيها
راهب، فناديتُه، فأشرفَ عليَّ، فقلتُ له: من أينَ تأتيكَ الميرةُ؟
قال: من مسيرة شهرٍ.
قلتُ: حدثني بأعجبِ ما رأيتَ في هذا الموضع. قال: بينا أنا
ذاتَ يومٍ أديرُ ببصري في هذهِ البريةِ القفرِ وأتفكر في عظمةِ اللَّهِ وقدرتِهِ، إذ
رأيتُ طائرًا أبيضَ مثلَ النعامةِ كبيرًا، قد وقعَ على تلك الصخرةِ - وأومئ
بيده إلى صخرةٍ بيضاء فتقيأ رأسًا، ثمَّ رجلاً، ثم ساقًا، فإذا هو كلما تقيأ
عضوًا من تلك الأعضاءِ التمتْ بعضُها إلى بعضِ أسرعَ من البرقِ، فإذا هَمَّ
بالنهوضِ نقره الطائرُ نقرةً قطعه أعضاءً، ثم يرجعُ فيبتلعه، فلم يزل على
ذلك أيامًا، فكثرَ تعجبي منه، وازددتُ يقينًا بعظمة اللَّهِ، وعلمت أن لهذهِ
الأجسادِ حياةً بعد الموتِ، وذكر أنه سأل عن ذلكَ الرجلَ يومًا عن أمر.
فقال: أنا عبدُ الرحمنِ بنُ مُلجم، قاتلُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ كرَّم اللَّه وجهَهُ.
أمرَ اللَّهُ هذا المَلَكَ أن يعذِّبني إلى يومِ القيامة، قال: وقال لي الملكُ: أمرَنِي
رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن أمضي بهذا الجسدِ إلى جزيرةِ في البحرِ الأسودِ التي يخرجُ
منه هوامُ أهلِ النارِ، فأعذدهُ إلى يومِ القيامةِ.
وقد رويتْ هذه الحكايةُ من وجه آخرَ، خرَّجها ابنُ النجارِ في "تاريخه "
من طريقِ السلَفيِّ، بإسنادٍ له، إلى الحسينِ بنِ محمدِ بنِ عبيدِ العسكريَ.
أخبرنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ أحمدَ بنِ يحيى بنِ النجم - سنةَ ثلاثَ
عشرةَ وثلاثمائة - أنه حضر مع يوسفَ بنِ أبي التياح ببلاد سنجاطَ حينَ
فتحَهَا، وأن سنباطَ حضر مجلسَهُ، وحدّثه عن راهبٍ سماه لي، فأحضرَ
يوسفُ الراهبَ، فحدَّثه الراهبُ بعد الامتناع، أن مَلِكا نفاهُ إلى جزيرةٍ على
البحرِ منفردةٍ، قال: فرأيتُ يومًا طيرًا - فذكرَ شبيهًا بالحكايةِ.
ورُويتْ من وجهٍ آخرَ، من طريقِ أبي عبدِ اللَّهِ محمدِ بن أحمدَ بنِ إبراهيمَ
الرازيِّ، صاحب "السداسياتِ " المشهورةِ، عن عليِّ بنِ بقاءِ بنِ محمدٍ
الوراقِّ، حدثنا أبو محمدٍ عبد الرحمنِ بن عمرَ البزارِ، قال: سمعتُ أبا بكر
محمدَ بنَ أحمدَ بنَ أبي الأصبغ، قال: قَدِم علينا شيخٌ غريبٌ، فذكرَ أنه كان
نصرانيًّا سنينَ، وأنه تعبَّدَ في صومعتِهِ قال: فبينما هو جالسٌ ذاتَ يومٍ، إذ
جاءَ طائرٌ كالنسرِ، أو كالكرْكِيِّ. فذكر شبيهًا بالحكايةِ مختصرًا.
وكلُّ ما وردَ من هذه الآثارِ فإنه محمولٌ على أنَّ الأرواحَ تنتقل من مكانٍ
إلى مكانٍ، ولا يدلُّ على أنَّها تستقرُ في موضع معينٍ من الأرضِ، واللَّهُ
أعلمُ.
ويشهدُ لهذا ما رُوي عن شهرِ بنِ حوشبٍ، قال: كتبَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو
إلى أبي بن كعبٍ، يسأله: أين تلْتَقِي أرواحُ أهلِ الجنةِ وأرواحُ أهلِ النارِ.
فقال: أما أرواحُ أهلِ الجنةِ فبالباديةِ، وأما أرواحُ الكفارِ، فبحضرَموت، ذكره ابنُ منْدَه تعلِيقًا.
وقالتْ طائفة من الصحابةِ: الأرواحُ عندَ اللَّهِ عز وجل، وقد صحَّ ذلك
عن ابنِ عمرٍو، وقد سبقَ قولُهُ.
وكذلكَ رُوي عن حذيفةَ، خرَّجه ابن منده، من طريقِ داودَ الأوديِّ، عن
الشعبيِّ، عن حذيفةَ، قال: إنَّ الأرواحَ موقوفة عندَ اللَّهِ تعالى، تنتظرُ
موعدَها، حتَّى ينفخَ فيها، وهذا إسناد ضعيف، هذا لا ينافي ما وردتْ به
الأخبارُ من محلِّ الأرواح على ما سبقَ.
وقال طائفةٌ: أرواحُ بني آدمَ عند أبيهم آدمَ عليه السلام عن يمينِه وشمالِه
وهذا يستدل له بما في "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبيًّ صلى الله عليه وسلم، قال:"فرج سقف بيتي وأنا بمكة"، فذكر الحديثَ وفيه: "فلمَّا فتحَ، علونَا السماءَ الدنيا، فإذا رجل قاعد عن يمينِهِ أسوِدَة، وعن يسارِهِ أسودة، فإذا نظر قِبَل يمينهِ ضحكَ، وإذا نظرَ قِبَلِ شمالهِ بَكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح والابن الصالحِ، قلتُ لجبريلَ: من هذَا؟
قال: هذا آدمُ، وهذه الأسودةُ عن يمينِهِ وعن شمالِهِ نسمُ بني آدمَ، فأهل
اليمينِ منهم أهلُ الجنةِ، والأسودةُ التي عن شمالِهِ أهلُ النارِ، فإذا نظرَ عن يمينِهِ ضحكَ، وإذا نظرَ عن شمالِهِ بَكَى.. " وذكر بقية الحديثِ.
وظاهرُ هذا اللفظِ يقتضِي أنَّ أرواحَ الكفارِ في السماءِ، وهذا مخالف لقولِهِ
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَاب السَّمَاءِ) ، وكذلك حديثُ البراءِ وأبي هريرةَ وغيرِهما، أنَّ السماءَ لا تفتحُ
لروح الكافرِ، وأنها تطرحُ طرْحًا، وأنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قرأ:(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَاَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
قد حملَهُ بعضُهم على أنَّ هذه الأرواحَ التي عن يمينِ آدمَ وشمالِه هي
أرواحُ العصاةِ من الموحدينَ وحملَها بعضُهم على أنها أرواحُ بنيهِ الذينَ لم
تُخلقْ أجسادُهُم بعد، وهذا في غايةِ البعدِ مع منازعةِ بعضِهم في خلقِ
الأرواح قبل أجسادِها.
وقد وردَ من حديثِ أبي هريرةَ، ما يزيلُ هذا الإشكالَ كلَّه، من روايةِ أبي
جعفر الرازيِّ، عن الربيع بنِ أنسي عن أبي العاليةَ أو غيرِه، عن أبي هريرةَ.
فذكر حديثَ الإسراء بطول، إلى أن قال: "ثمَّ صعد به إلى سماءِ الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟
قال: جبريلُ، قيلَ: ومن معك؟
قال: محمدٌ قالُوا: وقد أُرسِلَ محمد؟
قال: نعمْ، قالَ: حيَّاه اللَّهُ من أخٍ ومن خليفة، فنِعْمَ الأخُ، ونعمَ الخليفةُ، ونعِمَ المجيءُ جاءَ، قال: فدخلَ فإذا هو برجلٍ تامِّ الخلقِ، لم ينقص خلقِه شيء كما ينقص من خلقِ الناسِ، عن يمينِهِ باب يخرجُ منه ريح طيبة وعن شمالِهِ باب يخرجُ منه ريح خبيثة إذا نظرَ إلى البابِ الذي عن يمينِهِ ضحكَ واستبشرَ، وإذا نظرَ إلى البابِ الذي عن شمالهِ بكى وحزنَ، قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا جبريلُ من هذا الشيخُ التامُّ الخلقِ الذي لم ينقصْ من خلقِهِ شيء؛ وما هذانِ البابانِ؟
قال: هذا أبوكَ آدمُ صلى الله عليه وسلم.
البابُ الذي عن يمينِه بابُ الجنةِ، فإذا نظرَ من يدخلُ الجنةَ من ذرينِه ضحكَ واستبشرَ، والبابُ الذي عن شمالِهِ بابُ جهنّم، فإذا نظرَ من يدخلُ من ذريتِه النارَ بكى وحزِنَ "، وذكر الحديثَ.
وقد خرَّجه بتمامِهِ البزَّارُ في "مسندهِ "، وأبو بكرٍ الخلالُ وغيرُ واحدٍ.
وفيه التصريحُ بأن أرواحَ ذريته في الجنة والنارِ، وأنه ينظرُ إلى أهلِ الجنة من
بابٍ عن يمينِه، وإلى أهلِ النارِ من باب عن شمالِه، وهذا لا يقتضِي أن تكون
الجنةُ والنارُ في السماءِ الدنيا، وإنَّما معناه أنَّ آدمَ في السماء الدنيا، يفتحُ له
بابانِ إلى الجنةِ والنارِ، ينظرُ منهما إلى أرواح ولدِه فيهما.
وقد رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجنةَ والنارَ في صلاةِ الكسوفِ وهو في الأرضِ وليستِ الجنةُ في الأرضِ.
ورُوي أنه رآها ليلةَ الإسراء في السماءِ؛ ليستِ النارُ في السماءِ.
ويشهدُ لذلكَ - أيضًا - ما في حديثِ أبي هارونَ العبدِيِّ - مع ضعفِ
حديثِهِ - عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ الإسراءِ الطويلِ إلى أنْ ذكرَ السماءَ الدنيا: "وإذا أنا برجلٍ كهيئتِه يومَ خلقَهُ اللَهُ عز وجل لم يتغيرْ منه شيءٌ، وإذا تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِهِ، فإذا كان روحُ مؤمنٍ قال: روحٌ طيبةٌ، وريحٌ
طيبة اجعلُوا كتابَهُ في عليّينَ. وإذا كان روحُ كافرٍ، قال: روحٌ خبيثةٌ، وريحٌ خبيثة اجعلُوا كتابه في سجِّين، قلتُ: يا جبريلُ من هذا؟
قال: أبوكَ آدمُ "، وذكر الحديثَ.
ففي هذا أنه تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِه في السماءِ الدنيا، وأنه يأمرُ بجعلِ
الأرواح في مستقرِّها من علِّيينَ وسجًّينَ، فدلَّ على أن الأرواحَ ليس محل
استقرارِها في السماءِ الدُّنيا.
وزعمَ ابنُ حزمٍ أنَّ اللَّه خلقَ الأرواحَ جملةً قبلَ الأجسادِ، وأنه جعلها في
برزخ، وذلك البرزخُ عند منقطع العناصرِ، يعني حيثُ لا ماءَ ولا هواءَ ولا
نارَ ولا ترابَ، وأنه إذا خلقَ الأجسادَ أدخلَ فيها تلكَ الأرواحَ، ثم يعيدها
عند قبضِها إلى ذلك البرزخ، وهو الذي رآها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ليلةِ أُسْرِي به، عند سماءِ الدنيا، أرواحُ أهلِ السعادةِ عن يمينِ آدمَ، وأرواحُ أهلِ الشقاوةِ عن يسارِهِ، وذلك عند منقطع العناصرِ، وتُجعلُ أرواحُ الأنبياء والشهداءِ إلى الجنةِ.
قال: وذكرَ محمدُ بنُ. نصر المروزيُّ، عن إسحاقَ بنِ راهويه، أنه ذكرَ هذا
الذي قلنَاه بعينِه، قالَ: وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلم، قالَ ابنُ حزمٍ: وهو
قولُ جميع أهلِ الإسلامِ، هذا مختصرُ ما ذكرَهُ، ولا يُعرفُ ما قالَهُ في هذا
عن أحدٍ من أهلِ الإسلامِ غيرِهِ.
فكيفَ يكونُ قولَ جميعَ أهلِ الإسلامِ، وكلامُهُ يقتضِي أن الأرواحَ رآها
النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإسراءِ تحتَ السماءِ الدُّنيا، والحديثُ إنما يدلُّ على أنه إنما راَها فوقَ السماءِ الدنيا، وما حُكِي عن محمدِ بن نصرٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ، فلا يدلُّ على ما قالَهُ بوجهٍ، فإن محمدَ بنَ نصرٍ حكى عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ إجماعَ أهلِ العلم على أنَّ اللَّهَ تعالى استخرجَ ذريتَهُ من صلبِهِ قبلَ خلقَ أجسادِهم واستنطَقَهُم واستشهدَهُم على أنفسِهِم (ألَسْتُ بِرَبِّكم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) .
ولم يذكر أكئرَ من هذا، وهذا لا يدلُّ على شيءٍ مما
قاله ابنُ حزمٍ في مستقرِّ الأرواح الميتةِ، بل ولا على أنَّ الأرواحَ بقيتْ على
حالِها، بلْ في بعضِ الأحاديثِ أنه ردَّها إلى صلبِ آدمَ، ولم يقلْ إسحاقُ
ولا غيرُه من المسلمينَ: إن مستقرَ الأرواح حيثُ منقطع العناصِر، بل وليسَ
هذا من جنسِ كلامِ المسلمينَ، بل من جنسِ كلامِ المتفلسفةِ.
وقد خرَّج ابنُ جريرٍ الطبريُّ في كتابِ "الآدابِ " لهُ، من طريقِ أبي
معشرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، عن المغيرةِ بنِ عبدِ الرحمنِ، قالَ: قالَ سلمانُ
لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ متَّ قبلي فأخبرْنِي بما تلْقَى، وإنْ متُّ قبلكَ أخبرتُك
بما ألْقى، فقالَ له الناسُ: يا عبدَ اللَّهِ كيف تخبرُنا وقد مِتَّ؟ قالَ: ما منْ روح تُقبضُ من جسدٍ إلا كانتْ بينَ السماءِ والأرضِ حتى تُردَّ في جسدهِ الذي أخذتْ منه، وهذا لا يثبتُ وهو منقطعٌ، وأبو معشرٍ: ضعيفٌ، وقد سبقَ روايةُ سعيدِ بنِ المسيبِ لهذه القصة بغير هذا اللفظِ وهو الصحيحُ.
وقد تقدمَ في سؤال عبدِ اللَّهِ بنِ الإمامِ أحمدَ لأبيهِ عن الأرواح هل تموتُ
بموتِ الأجسادِ؟ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا قد قيل أيضًا وهو كذلكَ.
وقد حُكِي عن طائفة من المتكلمينَ وذهبَ إليه جماعة من فقهاءِ الأندلسِ
قدِيمًا، منهم عبدُ الأعلى بنُ وهبٍ ومحمدُ بنُ عمرَ بن لبابة، ومن متأخرِيهم
كالسهيلي وأبي بكرِ بنِ العربيِّ وغيرِهِما، قال أبو الوليد بنُ الفرضيِّ في
"تاريخ الأندلسِ ": أخبرني سليمانُ بنُ أيوبَ، قالَ: سألتُ محمدَ بنَ
عبدِ الملكِ بنِ أيمن، عنِ الأرواح؟
فقال لِي: كانَ محمدُ بنُ عمرَ بنِ لبابةِ
يذهبُ إلى أنها تموتُ. وسألته عن ذلكَ؟
فقال: كذا كانَ عبدُ الأعْلَى يذهبُ
فيها، قال ابنُ أيمن، فقلتُ له: إنَّ عبدَ الأعْلَى كان قدْ طالعَ كتبَ المعتزلةِ
ونظرَ في كلامِ المتكلمينَ، فقال: إنَّما قلدتُ عبدَ الأعْلَى ليسَ عليَّ من هذا
شيء. انتهى.
وقد استدل أربابُ هذا القول بقولِهِ تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموتِ) ، وهذا حقّ كما أخبرَ اللَّهُ به، لا مِرْيَةَ فيه، ولكن الشأنَ في فهم
معناهُ، فإن النفسَ يُرادُ بها مجموعُ الروح والبدنِ. كما في قولِهِ تعالى:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8".
وقوله سبحانه وتعالى: (فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُمْ) .
وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)
وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسَبَتْ رَهِينَة) .
وقوله تعالى: (يَوْمَ تَأتِي كلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن ئفْسِهَا) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما منْ نفسٍ مَنْفُوسةٍ إلا اللَهُ خالقُها".
وقوله صلى الله عليه وسلم ا: "ما مِنْ نفسٍ منْفُوسة اليومَ، يأتي عليها مائةُ سنة وهي حيَّةّ يومئذٍ".
وفي رواية: "لا يأتي مائةُ سنة وعلى الأرضِ نفسٌ منفوسةٌ اليومَ ".
والمرادُ موتُ الأحياءِ الموجودينَ في يومِهِ ذلكَ، ومفارقةَ أرواحِهِم
لأبدانِهِم، قبلَ المائةِ سنةِ، ليس المرادُ عدمَ أرواحِهِم واضمحلالِهَا، فكذلك
قولُهُ سبحالهُ وتعالى: (كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، إنَّما المرادُ كلُّ
مخلوق فيه حياةٌ فإنَه يذوقُ الموتَ، وتفارقُ رُوحُه بدَنَه، فإنْ أرأدَ من قالَ: إن النفسَ والروحَ تموتُ، إنها تذوقُ ألمَ مفارقةِ الجسدِ فهو حق، وإنْ أرادَ أنَّها تُعدم وتتلاشى فليسَ بحق، وقدْ استنكرَ العلماءُ هذه المقالةَ، حتى قالَ
سحنونُ بنُ سعيد وغيرُهُ: هذا قولُ أهلِ البدع، والنصوصُ الكثيرةُ الدالةُ على بقاءِ الأرواح بعدَ مفارقِتها للأبدانِ تردُّ ذلكَ وتبطلُهُ.
ولكن قد تخيلَ بعضُ المتأخرينَ موتَ الأرواح عند النفخةِ الأولى مستدِلاً
بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إلَاّ مَن شَاءَ اللهُ) .
وردَّ عليه آخرونَ، وقالَ: إنَّما المرادُ أنه يموتُ من لم يكنْ
ماتَ قبلَ ذلكَ، ولكنْ وردَ عن طائفةٍ من السلفِ في قولِهِ:(إِلَاّ مَن شَاءَ اللَّهُ) أن المستثنى هم الشهداءُ.
روي ذلك عن أبي هريرةَ وابنِ عباس وسعيدِ بنِ جبيرٍ وغيرِهم رضي الله عنهم.
ورُوي ذلكَ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ الصورِ الطويلِ، ومن وجهٍ آخرَ بإسنادٍ أجودَ من إسنادِ حديثِ الصورِ، وهذا يدلُّ على أن للشهداءِ حياةً يشاركونَ بها الأحياءَ، حتى يحتاجَ إلى استثنائهِم ممن يصعقُ من
الأحياءِ وقد قيلَ في الأنبياءِ مثلُ ذلكَ أيضًا.
وعلى هذا حمَلَ طائفةٌ من العلماءِ منهمُ البيهقي وأبو العباسِ القرطبيُّ قولَ
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) ، فأكونُ أنا أولُ من يبعثُ، فإذا موسى آخذٌ بالعرشِ، فلا أدْرِي أحوسبَ بصعقةِ الطورِ أم بُعثَ قبلِى".
وفي رواية: "أوْ كانَ ممن استَثْنى اللَّهُ ". فإن حياةَ الأنبياءِ أكملُ من حياةِ الشهداءِ، بلا ريبٍ، فيشملُهم حكمُ الأحياءِ أيضًا، ويصعقونَ مع الأحياءِ حينئذ، لكن صعقةُ غشي لا صعقةَ موتٍ، إلا موسى فإنه تردَّدَ فيه هل صُعِقُ أم كان ممن استثْنى اللَّهُ، فلم يُصعقْ لمجازاةِ اللَّه له، بصعقةِ الطورِ؛ ولكنْ على هذا التقدير فموسى مبعوثٌ قبل مَحمدٍ صلى الله عليه وسلم، لا محالةَ، فكيفَ تردَّد النبيَّ صلى الله عليه وسلم في ذلك
في كونِ الشهداءِ لا يُصعقونَ والأنبياءُ يُصعقُونَ، إشكالٌ أيضًا، واللَّه أعلمُ
بمرادِهِ ومرادِ رسولِه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلِّه.
والفرقُ بينَ حياةِ الشهداءِ وغيرِهم منَ المؤمنينَ الذين أرواحُهُم في الجنةِ.
وجهين:
أحدُهُما: أنَّ أرواحَ الشهداءِ تُخلقُ لها أجسادٌ، وهي الطيرُ التي تكونُ في
حواصِلِها، ليكملَ بذلك نعيمُها، ويكونُ أكملُ من نعيم الأرواء المجردةِ عنِ
الأجسادِ، فإن الشهداءَ بذلُوا أجسادَهُم للقتلِ في سبيلِ اللَهِ فعوّضوا عنها بها
الأجسادَ في البرزخ.
والثاني: أنهم يُرزقونَ في الجنةِ، وغيرُهُم لم يثبتْ له في حقِّه مثلُ ذلكَ فإنه
جاءَ أنهم يُعلَّقون في شجرِ الجنةِ. ورُوي يعلقون بفتح اللامِ وضَقَها، فقيلَ:
إنَّهما بمعى، وأنَّ المرادَ الأكلُ من الشجرِ، قال ابنُ عبدِ البرِّ: وقيل: بلْ روايةُ الضمِّ معناها الأكلُ، وروايةُ الفتح معناها التعلُّق.
وهو التسترُ. وبكلِّ حالٍ فلا يلزم مساواتُهُم للشهداءِ في كمالِ تنعمهم بالأكلِ، واللَّهُ أعلم.
وقد ذهبَ طائفةٌ من المتكلمينَ إلى أن الروحَ عرضٌ لا تبقى بعدَ الموتِ.
وحملُوا ما وردَ من عذابِ الأرواح ونعيمِها بعدَ الموتِ على أحدِ أمرينِ: إما
أنَّ العرضَ الذي هو الحياةُ يعادُ إلى جزءٍ من البدنِ، أو على أنْ يخلقَ في بدنٍ
آخرَ.
وهذا الثاني باطلٌ قطْعًا، لأنه يلزمُ منه أنْ يعذَّب بدنٌ غيرُ بدنِ الميتِ، معَ
روح غيرِ روحِهِ، فلا يعذَّبُ حينئذٍ بدنُ الميتِ ولا رُوحُه، ولا يتنعمانِ أيضًا، وهذا باطلٌ قطعًا، والأولُ باطلٌ - أيضًا - بالنصوصِ الدالةِ على بقاءِ الروح منفردةً عن البدنِ بعد مفارقتِها له، وهي كثيرةٌ جدًّا وقد سبقَ ذكرُ بعضِها.
وقد احتجَّ بعضُهم على فناءِ الأرواح وموتِها بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كانَ إذا دخلَ المقابرَ قالَ: "السَّلامُ عليكُم أيتُها الأرواحُ الفانيةُ، والأبدانُ الباليةُ، والعظامُ النخرةُ، التي خرجتْ من الدُّنيا وهي باللَّه مؤمنه اللَّهُمَّ أدخلْ عليهم رَوْحًا منكَ وسَلاما مِنَّا".
وهذا حديثٌ خرَّجه ابنُ السُّني، من طريقِ عبدِ الوهابِ بنِ جابرِ
التيميِّ، حدثنا حبانُ بنُ عليٍّ، عن الأعمشِ، عن أبي رزينٍ، عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يثبت رفعُه، وعبدُ الوهابِ لا يُعرفُ، وحبّانُ ضعيف، ولو صحَّ حُمِلَ على أنَّه أرادَ بفناءِ الأرواح ذهابَها من الأجسادِ