الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ الحَجِّ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)
وقولُه: "ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك "
يعني: أربعين يومًا، والعلقةُ: قطعة من "ثم يكون مضعةً مثلَ ذلك " يعني: أربعين يومًا، والمضغةُ: قطعة من لحم.
"ثمَّ يُرسلُ اللَهُ إليه الملك، فينفخ فيه الرُّوحَ، ويؤمرُ بأربع كلماتٍ: بكتبِ رزقِهِ وعملِهِ وأجلِهِ وشقى أو سعيدٌ".
فهذا الحديثُ يدلُّ على أنه يتقلبُ في مائةٍ وعشرينَ يومًا، في ثلاثةِ
أطوارٍ، في كلِّ أربعينَ منها يكونُ في طَوْرٍ، فيكونُ في الأربعينَ الأولى
نطفةً، ثم في الأربعينَ الثانية علقةً، ثم في الأربعينَ الثالثةِ مضغةً، ثم بعدَ
المائةِ وعشرينَ يومًا ينفخُ المَلَكُ فيه الرُّوحَ ويكتبُ لهُ هذه الأربعَ الكلماتِ.
وقد ذكرَ اللَهُ في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنينِ في هذه الأطوارِ.
كقولِهِ تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .
وذكرَ هذه الأطوارَ الثلاثةَ: النُّطفةَ والعلقةَ والمضعةَ في مواضعَ متعددةٍ من
القرآنِ، وفي موضع آخرَ ذكرَ زيادةً عليها، فقالَ في سورةِ المؤمنين
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .
فهذه سبعُ تاراتٍ ذكرَها اللَّهُ في هذه الآيةِ لخلقِ ابنِ آدمَ قبلَ نفخ
الروح فيه.
وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: خُلِقَ ابنُ آدمَ منْ سبعٍ، ثم يتلُو هذه الآيةَ.
وسئلَ عن العزلِ، فقرأ هذه الآيةَ ثمَّ قالَ: فهل يخلق أحدٌ حتى
تجري فيه هذه الصفةُ؟
وفي روايةٍ عنه قال: فهلْ تموتُ نفسٌ حتى تمرَّ على هذا الخلقِ؟.
ورُوي عن رفاعةَ بنِ رافع قالَ: جلسَ إلى عمرَ عليّ والزبيرُ وسعدٌ في نفرٍ
منْ أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فتذاكرُوا العزل، فقالُوا: لا بأس به، فقالَ رجلٌ: إنَّهم يزعمونَ أنَّها الموءودةُ الصُّغرى.
فقالَ عليٌّ: لا تكون موءودةً حتى تمرَ على التَّاراتِ السَّبع: تكونُ سلالةً من طين، ثمَّ تكونُ نطفةً، ثم تكونُ علقةً، ثم تكونُ مضغةً، ثم تكونُ عظامًا، ثم تكونُ لحمًا، ثم تكونُ خلقًا آخرَ، فقال عمرُ: صدقتَ، أطال اللَّهُ بقاءَك.
رواه الدارقطنيُّ في "المؤتلف والمختلف ".
* * *
[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخَلَّقةٍ":
حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن عبيد الله بنِ أبي بكرٍ، عن أنس بنِ مالكٌ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
"إنَّ اللهَ عز وجل وكَلَ بالرَّحم ملَكًا، يقولُ: يا ربِّ نُطفة يا ربِّ
علَقة، يا ربِّ مُضْغة، فإذا أراد أن يقْضِي اللَّهُ خلقَهُ قال: أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيا؟ فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ في بطنِ أمِّه ".
اختلف السَّلفُ في تأويلِ قولِ اللَّه عز وجل: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) .
فقال مجاهد: هي المضغةُ التي تسقطُها المرأةُ، منها ما هو مُخَلَّقٌ فيه
تصوير وتخطيطٌ، ومنها ما ليسَ بمخلَّقٍ ولا تصوير فيه، أرَى اللَهُ تعالى ذلك
عبادَه ليُبَين لهم أصْلَ ما خُلِقُوا منه، والذي يُقِرّه في الأرحامِ هو الذي يتمُّ
خلْقُهُ ولُولَدُ.
وقالتْ طائفةٌ: المخلقةُ: هي التي يتمُّ خلْقُها، وغيرُ مخلقة: هي التي
تَسقُطُ قبلَ أن تكونَ مضغةً.
روى الشَّعْبيُّ، عن علْقَمَةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: النطفةُ إذا استقرتْ في
الرَّحم حَمَلَها ملَكٌ بكفِّه، وقال: أي ربِّ، مخلقة أم غيرُ مُخلقةٍ؟
فإنْ قيلَ: غير مخلقةٍ: لم تكنْ نسمة، وقذفَتْها الأرحامُ.
وإن قيلَ: مخلقةٌ، قالَ: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيدٌ؟
ما الأجلُ؟ ما الأثرُ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟
قال: فيقالُ للنطفةِ: من ربّكِ؟
فتقولُ: اللَّهُ، فيقالُ: من رازقُكِ؟ فتقولُ: اللَّهَ.
فيقولُ اللَّه عز وجل: اذهبْ إلى الكتابِ، فإنَّكَ ستجدُ فيه قصةَ هذه
النطفةِ، قالَ: فتُخلقُ، فتعيشُ في أجلِها، وتأكلُ رزقَها، وتطأُ في أثَرِها.
حتى إذا جاء أجلُها ماتتْ، فدُفنتْ في ذلكَ، ثم تلا الشعبيُّ: (يَا أَيُّهَا الناسُ
إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) إلى قولهِ: (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، فإذا
بلغتْ مضغةً نُكِسَتْ في الخَلْقِ الرابع، فكانتْ نسمةً، فإنْ كانتْ غيرَ مخلقةٍ
قذفَتْها الأرحامُ دمًا، وإن كانتْ مخلقةً نكِسَتْ نسمةً.
خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه، وآخرُهُ هو من قولِ الشعبيِّ.
وقد يستأنسُ بهذا من يقولُ: إنَّ الحاملَ لا تحيضُ ولا ترى دمَ الحيضِ في
حالِ حَمْلِها، وأنَها لا ترَى إلا دمَ النِّفاسِ خاصةً، وفي ذلكَ نظرٌ.
وقد قيلَ: إن هذا هو مرادُ البخاريِّ بتبويبِهِ هذا.
وقد رُويَ عن الحسنِ في قولِ اللَّهِ عز وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسانَ مِن نُّطْفَةٍ
أَمْشَاجِ) ، أنَّ النطفةَ مُشجتْ - أي: خُلِطَتْ بدمِ الحيضِ -، فإذا
حَمَلتِ المرأةُ ارتفعَ حيضُها.
وحديثُ أنسٍ الذي خرَّجه البخاريُّ يدلُّ على أنَّه لا يُخلقُ إلا بعدَ أن
يكونَ مضغةً، وليسَ فيه ذِكْرُ مدةِ ذلكَ.
وذكرُ المدةِ في حديث ابنِ مسعودٍ -
وقد خرَّجه البخاريُّ في مواضعَ أُخَرَ - قالَ: حدثنا رسولُ اللًّهِ صلى الله عليه وسلم وهو الصادقُ المصدوقُ -:
"إنَّ خلقَ أحدِكُم يُجْمَع في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُبعثُ إليه الملكُ، فيُؤمَرُ بأربع
كلماتٍ: بكتْبِ رزِقه، وأجَلِهِ، وعمَلِهِ، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفخُ فيه الرُّوح " -
وذكر الحديثَ.
وقد رُويَ هذا المعنى عن ابن مسعودٍ موقوفًا عليه، وعن ابنِ عباسٍ،
وغيرِهما من الصحابةِ.
وقد أخذَ كثيرٌ من العلماءِ بظاهرِ حديثِ ابنِ مسعودٍ، وقالُوا. أقلُّ ما يتبيَنُ
فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانونَ يومًا؛ لأنه لا يكونُ مضغةً إلا فى الأربعينَ
الثالثةِ، ولا يتخلَّقُ قبلَ أن يكونَ مضغةً.
قال الإمامُ أحمدُ: ثنا هُشَيْمٌ: أنْبَأ داودُ، عن الشعبي، قال: إذا نُكِسَ
السَّقْطُ الخلْقَ الرابعَ وكان مخلقًا عُتقَت به الأَمَةُ، وانقضتْ به العدَّة.
قال أحمدُ: إذا تبيَّنَ الخلْقُ فهو نفاسٌ، وتُعْتَقُ به إذا تبيَّن.
قال: ولا يُصَلَّى على السَّقْطِ إلا بعد أربعة أشهرٍ.
قيلَ له: فإنْ كان أقلَّ من أربعةٍ؟
قالَ: لا، هو في الأربعةِ يتبيَّنُ خلقُه.
وقال: العلقةُ: هي دمٌ لا يتبين فيها الخلقُ.
وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيّ - بناءً على أن الخلقَ لا يكونُ إلا في
المضغةِ -: أقلّ ما يُتبيَّنُ فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانون يومًا، في أولِ الأربعين
الثالثةِ التي يكونُ فيها مضغةٌ، فإن أُسقطتْ مضغةً مخلقةً انقضتْ بها العدةُ
وعُتِقَتْ بها أمُّ الولدِ، ولو كان التخليقُ خفِيًّا لا يَشهدُ به إلا من يعرفُهُ من
النساء فكذلكَ.
فإنْ كانتْ مضغةً لا تَخْليقَ فيها: ففي انقضاءِ العدةِ وعتقِ الأمَةِ به روايتانِ
عن أحمدَ.
وهل يعتبرُ للمضغةِ المخلقةِ أن يكونَ وضعُها بعدَ تمامِ أربعةِ أشهر؟
فيه قولانِ، أشهرُهُما: لا يُعتبرُ ذلكَ، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ، وهو المشهورُ عن أحمدَ، حتى قالَ: إذا تبيَّنَ خلقُهُ: ليسَ فيه اختلافٌ، أنها تُعْتقَ بذلكَ.
ورويَ عنه ما يدل على اعتبارِ مُضِيِّ الأربعةِ أشهُرِ، وعنه روايةٌ أُخْرى في
العلقةِ إذا تبيَّنَ أنها ولدٌ: أنَّ الأمَةَ تُعْتَقُ بها، ومن أصحابنا من طرد ذلك في
انقضاءِ العدَّةِ بها - أيضًا - وهذه الروايةُ قول النَّخعِي، وحكيَ قولاً للشافعي.
وهذا يدلُّ على أنَّه يمكنُ التخليقُ في العلقةِ، وقد رُويَ ما يدلُّ عليه.
والأطباءُ تعترفُ بذلكَ.
فأمَّا الصلاةُ على السقْطِ: فالمشهورُ عن أحمدَ أنه لا يُصلَّى عليهِ حتى يُنفخَ
فيه الروحُ، ليكون ميْتًا بمفارقةِ الروح لهُ، وذلك بعد مُضِيِّ أربعةِ أشهرٍ، وهو قولُ ابنِ المسيبِ، وأحدُ أقوالِ الشافعيِّ، وإسحاقَ.
وإذا ألْقَتْ ما يتبيَّن فيه خلْقُ الإنسانِ فهيَ نُفساءُ، ويلزمُها الغُسْلُ، فإنْ لم
يتبيَّنْ فيه خلقُ الإنسانِ وكانَ مضغةً فلا نفاسَ لها، ولا غُسلَ عليها في
المشهورِ عن أحمدَ، وعنه رواية: أنها نفساءُ -. نقلها عنه الحسنُ بنُ ثوابٍ.
ولم يشترطْ شيئًا، لأن المضغة مظنَةُ تبيُّنِ التَخَلُّقِ والتصويرِ غالبًا.
وإنْ ألقَتْ علقةً: فلا نفاسَ لها فيه، ولأصحابِنا وجهٌ ضعيفٌ: أنها نفساءُ.
بناءً على القولِ بانقضاءِ العدَّةِ به.
ومذهبُ الشافعيةِ والحنفيّةِ: أنَّ الاعتبارَ في النفاسِ بما تنقضِي به العدَّةُ.
وتصيرُ به الأمَةُ أمَّ ولدٍ، فحيثُ وُجد ذلكَ فالنفاسُ موجودٌ، وإلا فلا.
والاعتبارُ عندهُم في ذلكَ كلِّه بما يتَبيَّنُ فيه خلقُ الإنسانِ.
وقال إسحاقُ: إذا استتمَّ الخلقُ فهو نفاسٌ -: نقلَهُ عنه حرْبٍ.
* * *