الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
[قالَ البخاريُّ] : وقول اللَّه عز وجل: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) إلى قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) .
قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَن تَقْصُرُوا منَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
قد ذكر طائفة من السلفِ أنها نزلتْ في صلاةٍ في السفرِ، لا في صلاةِ
السفرِ بمجردِهِ، ولهذا ذكرَ عقيبها قولَه تعالى:(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .
ثمَّ ذكر صفةَ صلاةِ الخوفِ، فكان ذلك تفسيرًا للقَصْرِ
المذكورِ في الآيةِ الأولى.
وهذا هو الذي يُشير إليه البخاريُّ، وهو مَرْوي عن مُجاهد والسُّدِّيِّ
والضَّحَّاكِ وغيرِهِم، واختارَهُ ابنُ جريرٍ وغيرُهُ.
وتقديرُ ذلك من وَجْهَيْنِ:
أحدُهُما: أنَّ المراد بقصرِ الصلاةِ قصرُ أركانِها بالإيماءِ ونحوهِ، وقصرُ عددِ
الصلاةِ إلى ركعةٍ، فأمَّا صلاة السفرِ، فإنها ركعتانِ، وهي تمامٌ غيرُ قصرٍ، كما قاله عمرُ رضي الله عنه.
ورَوى سماكٌ الحنفيُّ، قالَ: سمعتُ ابنَ عمرَ، يقولُ: الركعتانِ في السفرِ
تمامٌ غيرُ قصرٍ، إنما القصرُ صلاةُ المخافةِ.
خرَّجه ابنُ جريرٍ وغيرُه.
ورَوى ابنُ المباركِ عن المسْعُودِيِّ، عن يزيدَ الفقِيرِ، قالَ: سمعتُ جابرَ بنَ
عبدِ اللَّهِ يُسألُ عن الركعتينِ في السفرِ، أقصْرٌ هُما؟
قال: إنَّما القصرُ ركعةٌ عند القتال، وإن الركعتينِ في السفرِ ليستا بقصرٍ.
وخرَّج الجوزَجانيُّ من طريقِ زائدةَ بنِ عُميرٍ الطَّائيِّ، أنه سأل ابنَ عباسٍ
عن تقصيرِ الصلاةِ في السفرِ، قال: إنها ليستْ بتقصير، هما ركعتانِ من حين
تخرجُ من أهلِكَ إلى أن ترجعَ إليهم.
وخرَّج الإمامُ أحمد بإسنادٍ منقطع، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: صلَّى
رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ركعتينِ ركعتينِ، وحين أقامَ أربعًا أربعًا، وقال ابن عباسٍ: فمن صلَّى في السفرِ أربعًا كمن صلَّى في الحضرِ ركعتينِ. وقال ابنُ عباسٍ.
لم تُقصر الصلاةُ إلا مرَّةً واحدةً حيثُ صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ركعتنِ، وصلَّى الناسُ ركعةً واحدةً.
يعني: في الخوفِ.
وروى وكِيع، عن سفيانَ، عن سالمٍ الأفْطسِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قالَ:
صلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوفِ ركعةً ركعةً.
قال سعيد: كيف تكون مقصورةً وهما ركعتانِ.
والوجهُ الثاني: أن القصرَ المذكورَ في هذهِ الآيةِ مطلق، يدخلُ فيه قصرُ
العددِ، وقصرُ الأركانِ، ومجموعُ ذلك يختصُّ بحالةِ الخوفِ في السفرِ، فأمَّا
إذا انفردَ أحدُ الأمرينِ - وهو السفرُ أو الخوف - فإنه يختصّ بأحدِ نوعي
القصرِ، فانفرادُ السفرِ يختصُّ بقصرِ العددِ، وانفرادُ الخوفِ يختصُّ بقصرِ
الأركانِ.
لكنْ هذا مما لم يُفهم من ظاهرِ القرآنِ، وإنما بيَّن دلالته عليه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والآيةُ لا تنافيه، وإن كانَ ظاهرُها لا يدلُّ عليه، والله سبحانه وتعالى أعلمُ.
وقيلَ: إنَّ قولَه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تقصُروا مِنَ الصَّلاةِ)
نزلتْ بسببِ القصر في السفرِ من غيرِ خوفٍ، وأنَّ بقيةَ
الآية ِ مع الآيتينِ بعدَها نزلتْ بسببِ صلاةِ الخوفِ.
رُوي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه.
خرَّجه ابنُ جريرٍ عنه، بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، لا يصحُّ.
واللَّه سبحانه وتعالى أعلمُ.
وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّ الآيةَ الأُولى المذكورَ فيها قصرُ الصلاةِ إنما نزلتْ
في صلاةِ الخوفِ.
فروى منصورٌ، عن مجاهدٍ، عن أبي عيَّاشٍ الزرقي، قالما: كنا مع
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بعُسْفان - وعلى المشركينَ خالدُ بنُ الوليدِ - فصلَّيْنا الظهرَ، فقال المشركونَ: لقد أصبْنا غِرَّةً، لقد أصبْنَا غفْلةً، لو كنا حمَلْنا عليهم وهُم في الصلاةِ، فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ الظهرِ والعصرِ، فلما حضرتِ العصرُ قامَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مستقبلَ القبلةِ، والمشركونَ أمامَه، فصفَّ خلفَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
صفٌّ، وصف بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وركعُوا جميعًا، ثم سجدُوا وسجدَ الصفُّ الذين يلُونَه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما صلَّى هؤلاءِ سجدتينِ وقاموا، سجدَ الآخرونَ الذين كانوا خلفَه، ثم تأخَّر الصفُّ الذي يليه إلى مقامِ الآخرينَ، وتقدَّمَ الصفُّ الآخرُ إلى مقامِ الصفِّ الأولِ، ثم ركعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وركعُوا جميعًا، ثم سجدَ وسجدَ الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما جلسَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والصفُّ الذي يليه سجدَ الآخرونَ، ثم جلَسُوا جميعًا فسلَّم عليهم
جميعًا، فصلَاّها بعُسْفان، وصلَاّها يومَ بني سُلَيْم.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ - وهذا لفظُه - والنسائيُّ وابنُ حبانَ في
" صحيحِه " والحاكم، وقال: على شرطِهما.
وفي رواية للنسائيِّ وابنِ حبان، عن مجاهدٍ: نا أبو عيَّاشٍ الزرقيُّ.
قالَ: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . فذكرَهُ.
ورَدَّ ابنُ حبانَ بذلك على من زعَمَ: أن مجاهدًا لم يسمعْه من أبي عيَّاشٍ.
وأن أبا عياش لا صُحبة له.
كأنه يشيرُ إلى ما نقله الترمذيُّ في "عللِهِ " عن البخاريِّ، أنه قالَ: كلّ
الرواياتِ عندي صحيحٌ في صلاةِ الخوفِ، إلا حديثُ مجاهدِ عن أبي
عياش الزرقيِّ، فإني أراه مرسلاً.
وابن حبانَ لم يَفهْم ما أرادَه البخاريُّ، فإنَّ البخاريَّ لم ينكرْ أن يكونَ أبو
عيَّاشٍ له صحبة، وقد عَدَّة في "تاريخه " من الصحابةِ، ولا أنكرَ سماعَ
مجاهدٍ من أبي عيَّاشٍ، وإنَّما مرادُه: أن هذا الحديثَ الصوابُ: عن مجاهدٍ
إرسالُهُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ، كذلك رواهُ أصحابُ مجاهدٍ، عنهُ بخلافِ روايةِ منصورٍ، عنه، فرواهُ عكرمةُ بنُ خالدٍ وعُمر بن ذَرٍّ وأيوبُ ابنُ موسى ثلاثتُهم عن مجاهدٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلاً من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ.
وهذا أصحّ عند البخاريِّ، وكذلكَ صحَّح إرسالَهُ عبدُ العزيز النخشبيُّ
وغيرُهُ من الحفاظِ.
وأما أبو حاتمٍ الرازيُّ، فإنَّه قال - في حديثِ منصور، عن مجاهدٍ، عن
أبي عياشٍ -: إنه صحيحٌ، قيل له: فهذه الزيادةُ "فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ
الظهرِ والعصرِ" محفوظة هي؛ قالَ: نعم.
وقال الإمامُ أحمدُ: كُلُّ حديثٍ رُوي في صلاةِ الخوفِ فهو صحيحٌ.
وقد جاءَ في روايةٍ: فنزلتْ: (وَإِذَا كنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) .
وهذا لا ينافي روايةَ: "فنزلتْ آيةُ القصرِ" بل تبيَّن أنه لم تنزل آيةُ القصرِ
بانفرادِها في هذا اليومِ، بل نزل معها الآيتانِ بعدَها في صلاةِ الخوفِ.
وهذا كلّه مما يشهد بأن آية القَصْرِ أُريدَ بها قصْرُ الخوفِ في السفرِ، وإنْ
دلَّت على قصرِ السفرِ بغيرِ خوفٍ بوَجْهٍ من الدلالةِ، واللَّهُ سبحانه وتعالى
أعلمُ.
[قالَ البخاريُّ] : نا أبو اليمانِ: ثنا شُعيْب عن الزُّهريِّ، قالَ: سألتُهُ:
هلْ صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوفِ؟
فقالَ: أخبرني سالمٌ أنَّ عبدَ اللَّه بنَ عُمرَ.
قالَ: غزوتُ معَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ نَجْدٍ، فوازَيْنا العدُوَّ، فصاففنا لهُم، فقام رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصلِّي لنا، فقامتْ طائفةٌ معَهُ وأقْبلتْ طائفة على العدوِّ، وركعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمن معَهُ وسجدَ سجْدتيْنِ، ثمَّ انصرفُوا مكانَ الطائفة
التي لم تُصَلِّ، فجاءُوا فركعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بهم ركعةً وسجدَ سجْدتينِ، ثم سلَّمَ، فقامَ كُل واحدٍ منهم فركعَ لنفْسِهِ ركعة وسجدَ سجدتينِ ".
وخرَّجه في موضع آخرَ من روايةِ معمرٍ.
وخرَّجه مسلمٌ من روايةِ معمرٍ وفُلَيْح كلاهُما، عن الزهريِّ، به - بمعناه.
وقد رُوي عن حُذيفةَ نحوُ روايةِ ابنِ عمرَ - أيضًا.
خرَّجه الطبرانيُّ من روايةِ حكَّام بنِ سلْم، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن
قتادةَ، عن أبي العاليةِ، قالَ: صلَّى بَنا أبو موسى الأشْعريُّ بأصبهانَ صلاةَ
الخوفِ، وما كانَ كبيرُ خوْفٍ؛ ليريَنا صلاةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقام فكبَّرَ، وكبَّرَ معه طائفة من القومِ، وطائفة بإزاء العدوِّ، فصلَّى بهم ركعة فانصرفوا، وقامُوا مقامَ إخوانِهِم، فجاءت الطائفةُ الأخرى فصلَّى بهم ركعةً أخرى، ثم سلَّمَ، فصلَّى كل واحدٍ منهمُ الركعةَ الثانية وُحْدَانًا.
ورواه سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن أبي العاليةِ، أنَّ أبا موسى كان
بالدارِ من أرضِ أصبهانَ، وما بها كَبيرُ خوفٍ، ولكن أحب أن يعلِّمهم دينَهم
وسنةَ نبيِّهم، فجعلَهم صفَّينِ: طائفةً معها السلاحُ مُقْبِلةً على عدوِّها، وطائفةً من ورائهَا، فصلَّى بالذين بإزائِه ركعةً، ثم نكصُوا على أدبارِهم حتى قامُوا مقامَ الأخرَى، وجاءُوا يتخفَلونَهم حتى قاموا وراءَه فصلَّى بهم ركعةً أخرَى، ثم سلَّم، فقام الذين يلونَه والآخرونَ فصلَّوا ركعةً ركعةً، ثم سلَّم بعضُهم على بعضٍ، فتمَّتْ للإمامِ ركعتانِ في جماعةٍ، وللناسِ ركعةٌ ركعة.
يعني: في جماعةٍ.
خرَّجه ابنُ أبي شيبة، وعنه بقيُّ بنُ مَخْلدٍ في "مسندهِ ".
وهو إسنادٌ جيدٌ.
وهو في حكمُ المرفوع، لما ذكر فيه من تعليمِهم بسُنةِ نبيِّهم.
ورواه أبو داود الطيالسيُّ، عن أبي حُرَّةَ، عن الحسنِ، عن أبي موسى، أنَّ
رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلَّى بأصحابهِ - فذكرَ نحوَه، وفيه زيادةٌ على حديثِ ابنِ عُمرَ: أنَّ الطائفة الأولى لما صلَّت ركعة وذهبتْ لم تستدبر القبلةَ، بل نَكَصَتْ على أدبارِها.
ورُويَ - أيضًا - عن ابنِ مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، من روايةِ خُصَيفٍ، عن أبي عُبيدةَ، عن عبدِ اللَّهِ، قالَ: صلَّى بنا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوفِ، فقامُوا صفَّين، فقامَ صفٌّ خلفَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وصفٌّ مُستقبلَ العدوِّ، فصلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالصفِّ الذين يلُونَه ركعةً، ثم قامُوا
فذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، وجاءُوا أولئك فقامُوا مقامَهم.
فصلَّى بهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ركعةً، ثم سلَّم، ثم قامُوا فصلَّوا لأنفسِهِم ركعةً، ثم سلَّموا ثم ذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، ورجع أولئك إلى مقامِهِم، فصلَّوْا لأنفسهِمِ ركعةً ثم سلَّموا.
خرَّجه الإمامُ أحمدُ - وهذا لفظُه - وأبو داودَ - بمعناه.
وخُصَيفٌ، مختلَفٌ في أمر، وأبو عُبيدةَ لم يسمعْ من أبيهِ، لكن
رواياتُه عنه أخذَها عن أهلِ بيتِه، فهي صحيحة عندهم.
وهذه الصفةُ توافقُ حديثَ ابنِ عمرَ وحذيفةَ، إلا في تقدُّمِ الطائفةِ الثانيةِ
بقضاءِ ركعةٍ، وذَهابهم إلى مقامِ أولئك مستقبلي العدوِّ، ثم مجيءِ الطائفة
الأولَى إلى مقامِهم فقضوْا ركعةً.
وحديثُ ابنِ عمرَ وحذيفةَ فيهما: قيامُ الطائفتينِ يقضُون لأنفسِهِم.
وظاهرُهُ: أنهم قامُوا جملةً وقضَوْا ركعة ركعةً وُحْدَانًا.
وقد رواه جماعة، عن حصيف، عن أبي عُبيدةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وزادُوا
فيه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كبَّر وكبَّر الصفاَّنَ معه جميعًا.
وقد خَرَّجه كذلك الإمامُ أحمدُ وأبو داود.
وزاد الإمامُ أحمدُ: "وهمْ في صلاةٍ كلُّهم ".
واختلفَ العلماءُ في صلاةِ الخوفِ على الصفةِ المذكورةِ في حديثِ ابنِ
عُمرَ وما وافقَهُ:
فذهبَ الأكثرونَ إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرُها أفضلَ منها، هذا
قولُ الشافعيِّ - في أصحِّ قوليه - وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهم.
وقالت طائفةٌ: هي غيرُ جائزة على هذه الصفةِ، لكثرةِ ما فيه من الأعمالِ
المباينةِ للصلاةِ من استدبارِ القبلةِ والمشىِ الكثيرِ، والتخلُّفِ عن الإمامِ، وادَّعَوا أنها منسوخة، وهو أحدُ القولينِ للشافعيِّ.
ودعوى النسخ ها هنا لا دليلَ عليها.
وقالتْ طائفة: هي جائزةٌ كغيرِها من أنواع صلاةِ الخوفِ الواردةِ عن النبيِّ
صلى الله عليه وسلم، لا فضلَ لبعضِها على بعضٍ، وهو قولُ إسحاقَ -: نقله عنه ابن ُمنصورٍ.
ونقلَ حرب عن إسحاقَ، أن حديثَ ابنِ عمرَ وابنِ مسعودٍ يعملُ به إذا
كانَ العدوُّ في غير جهةِ القبلةِ.
وكذلك حكى بعضُ أصحابِ سفيانَ كلامَ سفيانَ في العملِ بحديثِ ابنِ
عُمرَ على ذلك.
وقالتْ طائفة: هي أفضلُ أنواع صلاةِ الخوفِ، هذا قولُ النخعيِّ، وأهلِ
الكوفةِ وأبي حنيفةَ، وأصحابِهِ، ورواية عن سفيانَ، وحكيَ عن الأوزاعيِّ
وأشهبَ المالكيِّ.
وروى نافع، أنَ ابنَ عمرَ كان يعلِّم الناسَ صلاةَ الخوفِ على هذا الوجهِ.
وحُكِي عن الحسنِ بنِ صالح، أنه ذهبَ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ، وفيه: أن
الطائفةَ الثانيةَ تصلِّي مع الإمامِ الركعةَ الثانيةَ، ثم إذا سلَّم قضتْ ركعةً، ثم
ذهبتْ إلى مكانِ الطائفةِ الأولى، ثم قضت الطائفةُ الأولَى ركعةً، تم تسلِّمُ.
وقد قيلَ: إنَّ هذا هو قولُ أشهبَ.
وحكَى ابنُ عبدِ البر، عن أحمدَ، أنَّه ذهبَ إلى هذا - أيضًا.
وقال بعضُ أصحابِنا: هو أحسنُ من الصلاةِ على حديثِ ابنِ عمر" لأنَّ
صلاةَ الطائفةِ الثانيةِ خلتْ عن مفسدٍ بالكليةِ.
وحُكي عن أبي يوسفَ ومحمدٍ والحسنِ بن زيادٍ والمزَنيِّ: أنَّ صلاةَ الخوفِ
لا تجوز بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لظاهرِ قولِ اللَّهِ تعالى:(وَإِذَا كنتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم مَّعَكَ) الآية.
قالُوا: وإنَّما يصلِّي الناسُ صلاةَ الخوفِ بعدَهُ بإمامين، كلُّ إمامٍ يصلي
بطائفةٍ صلاةً تامةً، ويسلِّم بهم.
وهذا مردودٌ بإجماع الصحابةِ على صلاتِها في حروبِهم بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد صلَاّها بعدَهُ: عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وحذيفةُ بنُ اليمانِ، وأبو موسى الأشعريُّ، مع حضورِ غيرِهم من الصحابةِ، ولم ينكرْه أحدٌ منهم.
وكان ابنُ عمرَ وغيرُه يعلِّمون الناسَ صلاةَ الخوفِ، وجابرٌ، وابنُ عباس
وغيرُهما يروونها للناس تعليمًا لهم، ولم يقل أحدٌ منهم: إن ذلك من
خصائصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وخطابُه صلى الله عليه وسلم لا يمنعُ مشاركةَ أُمَّتِه له في الأحكام، كما في قوله تعالى:(يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) .
وقوله. (خُذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) .
وحُكي عن مالكٍ، أنها تجوزُ في السفرِ دون الحضرِ، وهو قول عبدِ الملكِ
ابنِ الماجشونِ من أصحابِهِ.
ويحتجُّ له بحملِ آيةِ القصرِ على صلاةِ الخوفِ، وقد شُرط لها شرطانِ:
السفرُ والخوفُ، كما سبقَ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يصلِّي صلاةَ الخوفِ في
أسفارِهِ، ولم يصلِّها في الحضرِ مع أنه حُوصرَ بالمدينةِ عامَ الخندقِ، وطالتْ
مدةُ الحصارِ، واشتدَّ الخوفُ، ولم يصلِّ فيها صلاةَ الخوفِ.
وقد قيلَ: إنَّ صلاةَ الخوفِ إنَّما شُرعتْ بعدَ غزوةِ الأحزاب في السنةِ
السابعةِ.
وقد ذكرَ البخاريُّ في "المغازي " من "كتابِهِ " هذا - تعليقًا - من حديثِ
عِمرانَ القطَّانِ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سلمةَ، عن جابرٍ، قال:
صلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأصحابِهِ في الخوفِ في غزوةِ السابعةِ: غزوةِ ذاتِ الرقاع.
وخرَّجه الإمامُ أحمد من روايةِ ابنِ لهيعةَ، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ.
قالَ: غزَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ مِرَارٍ قبلَ صلاةِ الخوفِ، وكانتْ صلاةُ الخوفِ في السابعةِ.
وقد تقدَّمَ في حديثِ أبي عيَّاشٍ، أنَّ أولَ صلاةِ الخوفِ كانت بعُسْفانَ.
وعلى المشركين خالدٌ.
وقد روى الواقديُّ بإسنادٍ له، عن خالدِ بنِ الوليدِ، أنَّ ذلك كان في
مخْرج النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى عُمرةِ الحديبيةِ.
وقد تقدَّمَ أنَّ أبا موسى صلَّى بأصبهَانَ هذه الصلاةَ، ولم يكن " هناك كبيرُ
خوفٍ، وإنَّما صلَّى بهم ليعلِّمَهم سنةَ صلاةِ الخوفِ.
وهذا قد يحملُ على أن كانَ ثمَّ خوفٌ يُبيحُ هذه الصلاةَ، ولم يكن وُجد