الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن لا يعصِي اللَّهَ، دخلَ الجنةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حساب، ومَن صامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردودٌ.
* * *
لمَّا كانتِ المغفرةُ والعِتْقُ من النارِ كلٌّ منهما مرتبًا على صيامِ رمضانَ
وقيامِهِ، أمرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى عندَ إكمالِ العدَّةِ بتكبيره، وشكره، فقال:
(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكمْ تَشْكُرُونَ) .
فشُكْرُ من أنعَمَ على عبادِهِ بتوفِيقهِم للصيامِ، وإعانتِهِم عليه، ومغفرتِه لهم
بهِ، وعتقهِم من النَّارِ، أن يذكُروه ويشكروه ويتَّقوه حقَّ تُقَاتِهِ.
وقد فسَّرَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه تقواه حقَّ تُقاتِهِ بأنْ يطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكرَ فلا يُنْسى، ويُشكرَ لا يُكْفَر.
فيا أربابَ الذُّنوبِ العظيمةِ! الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمةِ؛ فما
منها عوضٌ ولا لها قيمةٌ، فكم يعتقُ فيها من النَّارِ من ذي جريرة وجريمة.
فمن أُعتقَ فيها من النَّارِ فقد فازَ بالجائزةِ العميمةِ والمنحةِ الجسيمةِ.
* * *
قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالَى بقربِهِ ممن دعاهُ، وإجابتِهِ لهُ، فقالَ:(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
وقد رُوي في سببِ نزولهَا: أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أقريبٌ ربُّنا
فنناجيهِ، أم بعيدٌ فننادِيهِ؟
فأنزل اللَّهُ عز وجل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) .
خرَّجه ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حادمٍ.
وروى عبدُ الرزاقِ، عن جعفرِ بنِ سليمانَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال:
سالَ أصحاب رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فأنزلَ اللَّهُ عز وجل: (وَإِذَاْ سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب) .
وروى عبدُ بنُ حميدٍ بإسنادِهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبيدِ بنِ عميرٍ، قالَ:
نزلتْ هذهِ الآية ُ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، قالُوا: كيفَ لنا بهِ أن نلقَاهُ
حتى ندعُوه؟ فأنزلَ اللَّهُ عز وجل على نبيِّه صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .
فقالُوا: صدَق ربُّنا، هوَ بكلِّ مكانِ.
وقَد خرَّج البخاريُّ في "الدعوات " حديثَ أبي مُوسى، أنَهم رَفَعُوا
أصواتَهُم بالتكبير، فقالَ لَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّكم لا تدعونَ أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تدعون سميعًا قريبًا".
وفي روايةٍ: "إنَّه أقربُ إليكُم من أعناقِ رواحِلِكُمْ ".
ولم يكنْ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يفهمونَ من هذهِ النصوصِ غيرَ المعنى الصحيح المرادِ بها، يستفيدونَ بذلكَ معرفةَ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ، واطلاعِهِ على عبادِهِ وإحاطتِهِ بهم، وقربِه من عابديهِ، وإجابتِه لدعائهِم، فيزدادونَ به خشيةً للَّهِ وتعظيمًا وإجلالاً ومهابةً ومراقبةً واستحياءً، ويعبدونَهُ كأنَّهم يرونَه.
ثم حدث بعدَهُم مَن قلَّ ورعُهُ، وساءَ فهمُهُ وقصدُهُ، وضعفت عظمةُ اللَّه
وهيبتُهُ في صدره، وأرادَ أن يُري الناسَ امتيازَهُ عليهم بدِقةِ الفهمِ وقوةِ النظرِ.
فزعمَ أنَّ هذه النصوصَ تدلُّ على أن اللَّهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ، كما يحكى
ذلك عن طوائفَ من الجهميةِ والمعتزلةِ ومن وافقَهُم، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون
علوًّا كبيرًا، وهذا شيءٌ ما خطرَ لمن كان قبلَهُم من الصحابة - رضي اللَّه
عنهم، وهؤلاءِ ممن يتبعُ ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويله " وقد حذَّر
النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه منهم في حديثِ عائشةَ الصحيح المتفقِ عليهِ.
وتعلَّقُوا - أيضًا - بما فهمُوه بفهمهم القاصرِ مع قصدِهِم الفاسدِ بآياتٍ في
كتاب اللَّهِ، مثل قولِهِ تعالى:(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كنتُمْ) .
وقولِهِ: (مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ) .
فقالَ من قال من علماءِ السلفِ حينئذٍ: إنَّما أرادَ أنَّه معهم بعلمِهِ، وقصدُوا بذلكَ إبطالَ ما قالَهُ أولئكَ، مما لم يكنْ أحدٌ قبلهم قالَهُ ولا فهمَهُ من القرآنِ.
وممن قالَ: إنَّ هذهِ المعيةَ بالعلم مُقاتِلُ بنُ حيَّانَ، ورويَ عنه أنَه رواهُ عن
عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ.
وقاله الضحاكُ، قالَ: اللَّهُ فوقَ عرشِهِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ.
ورويَ نحوُه عن مالكٍ وعبدِ العزيزِ الماجشون والثوريِّ وأحمدَ وإسحاقَ
وغيرِهِم من أئمةِ السلفِ.
وروى الإمامُ أحمدُ: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نافع، قال: قالَ مالكٌ: اللَّهُ في
السماءِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ.
وروي هذا المعنى عن علي وابنِ مسعودٍ - أيضًا.
وقالَ الحسنُ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) .
قالَ: علمُهُ بالناسِ.
وحكى ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُهُ إجماعَ العلماءِ من الصحابةِ والتابعينَ في تأويلِ
قولِهِ: (وَهُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ، أنَّ المرادَ علمُهُ.
وكلُّ هذا قصدُوا به ردَّ قولِ من قالَ: إنَّه تعالى بذاتِهِ في كل مكانٍ.
وزعم بعضُ من تَحَذْلَقَ أنَّ ما قاله هؤلاءِ الأئمةُ خطأٌ، لأنَّ علم اللَّهِ صفةٌ
لا تفارقُ ذاتِهِ، وهذا سوءُ ظنٍّ منه بأئمةِ الإسلامِ؛ فإنَّهم لم يريدُوا ما ظنَّه
بهم، وإنما أرادُوا أن علمَ اللَّهِ متعلِّقٌ بما في الأمكنةِ كلِّها ففيها معلوماتِهِ، لا
صفةَ ذاتِهِ، كما وقعتِ الإشارةُ في القرآنِ إلى ذلكَ بقولِهِ تعالى: (وَسِعَ كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا) ، وقولِهِ:(رَبَّنَا وَسِعْتَ كلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا) .
وقولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُج مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) .
وقالَ حربٌ: سألتُ إسحاقَ عن قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَاّ هُوَ
رَابِعُهُمْ) ، قال: حيثُ ما كنتَ هو أقربُ إليكَ من حبلِ الوريدِ، وهو
بائِنٌ من خلقِهِ.
وروى عمرُ بنُ أبي سلمةَ، عن أبيه، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ مرَّ بقاصٍّ وقد
رفعُوا أيدِيهم، فقالَ: ويلكم! إنَّ ربكم أقربُ ممَّا ترفعون، وهو أقربُ إلى
أحدِكُم من حبلِ الوريدِ.
وخرَّجه أبو نُعيمٍ، وعندَهُ: أنَّ المارَّ والقائلَ بذلك هو ابنُ عمرَ.
وخطبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، فذكرَ في خطبتِهِ: إنَّ اللَّهَ أقربُ إلى عبادِهِ
من حبلِ الوريدِ. وكانَ مجاهدٌ حاضِرًا يسمعُ، فأعجبه حسنُ كلامِ عمرَ.
وهذا كلّه يدلُّ على أن قربَ اللَّه من خَلْقِهِ شاملٌ لهم، وقرئهُ من أهلِ
طاعتِهِ فيه مزيدُ خصوصيةٍ، كما أنًّ معيّتهُ مع عبادِهِ عامَّة حتى ممَّن عصاهُ.
قالَ تعالَى: (يَستَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِدْ يبَيِّتونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) ، ومعيّته مع أهلِ طاعتهِ خاصةً لهُم، فهو
سبحانه مع الذين اتقَّوا والذين هم محسنونَ.
وقال لموسى وهارونَ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وَأَرَى) .
وقال موسى: (إِنَّ مَعِيَ رَبِي سَيَهْدِينِ) .
وقال في حقِّ محمدٍ وصاحبِهِ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
ولهذا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ في الغارِ:
"ماظنُّك باثنينِ اللَهُ ثالثُهما".
فهذه معية خاصةٌ غيرَ قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَة إِلَّا هو رَابِعُهُمْ) الآية، فالمعيَّةُ العامُّةُ تقتضِي التحذير من علمِهِ واطلاعِهِ وقدرتِهِ
وبطشِهِ وانتقامِهِ، والمعيةُ الخاصةُ تقتضِى حسنَ الظنِّ بإجابتِهِ ورضَاه وحفظِهِ
وصيانتِهِ، فكذلك القربُ.
وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعهودِ منهم، كما ظنَه من ظنه من أهلِ
الضلالِ، وإنَّما هو قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ به
(لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
وهكذا القولُ في أحاديث النزولِ إلى سماءِ الدنيا، فإنَه من نوع قربِ
الربِّ من داعيهِ وسائليهِ ومستغفريهِ.
وقد سئلَ عنه حماد بنُ زيدٍ، فقالَ هو في مكانِهِ يقربُ من خلقه كما
يشاءُ.