الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلد سورة مكية ذكر الله عز وجل في أولها ما قدر على الإنسان في هذه الدنيا، من المشقة والتعب والأكدار والأحزان والمكابدة ولهذا حث على الصبر والتحمل وعدم التضجر مما يبتلي به في هذه الدنيا ولينظر أيضًا لدار ليس فيها نكد ولا حزن وهي الجنة فتكون هدفه ومستقرة برحمة الله.:
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
{لَا أُقْسِمُ} لا. لاستفتاح الكلام وتوكيده، والقسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص.
{بِهَذَا الْبَلَدِ} البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة، وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل.
{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} وأقسم الله بهذا البلد وهو مكة، الذي أنت مقيم به يا محمد تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} يقسم سبحانه بالوالد وأولاده وما تناسل منهما تنبيهًا على عظم آية التناسل والتوالد ودلالتها على قدرة الله وحكمته وهو سبحانه أقسم على حال الإنسان، وأقسم بالبلد الأمين وهو مكة ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو آدم وذريته، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} جواب القسم، مؤكد بثلاثة مؤكدات، وهي: القسم واللام وقد.
{خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم.
{فِي كَبَدٍ} مكابدة الأشياء ومعاناتها وشدتها، والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار مكة.
ثم ذكر سبحانه في الآية التالية طبيعة الإنسان الجاحد بقدرة الله، والمكذب للبعث والنشور فقال تعالى:
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} أي: أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يبعث، ولا يقدر عليه أحد، ولا ينتقم منه أحد، وأتى ههنا بـ"لن"، الدالة على الاستقبال في مقابلة قوله تعالى:{أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} فإن ذلك في الماضي.
{يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} أي: أنفق مالاً كثيرًا في شهواته وفي ملذاته، وسمى الله عز وجل، الإنفاق في الشهوات والمعاصي إهلاكًا؛
لأنه لا ينتفع المنفق بما أنفق، ولا يعود عليه من إنفاقه إلا الندم والخسار والتعب والقلة.
{أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال وصرفه فيما لا ينفع، وينسى أن عين الله عليه، وأن علمه محيط به.
فإن الإنسان قد يغتر بقوته ولا فضل له فيها، بل الله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس قال تعالى:
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ذكر الله عز وجل هنا ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان.
{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} يعني: يبصر بهما ويرى، ومن هنا بدأ تعداد النعم العظيمة على الإنسان.
قرأ الفضيل بن عياض ليلة هذه الآية، فبكى فسئل عن بكائه، فقال: هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرًا لله أن جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدد من هذا الضرب.
{وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} لسانًا: ينطق به، وشفتين: يضبط بهما النطق ويستعين بهما على الأكل والشرب.
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بَيَّنَا له طريق الخير، وطريق الشر.
وقيل: دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر.
وبعد أن ذكر عز وجل هذه النعم على عباده، ذكر عز وجل عقبة كؤودًا هي التي تقف بينه وبين الجنة لو تخطاها لوصل، وهو مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس، والهوى والشيطان، حتى ينال رضا الرحمن.
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: الإنسان الذي كان يقول: {أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} .
{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: وما أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفيه تعظيم لشأنها وتهويل.
{الْعَقَبَةَ} هي الطريق في الجبل الوعر، واقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، أي: أفلا نشط واخترق الموانع التي تحول بينه وبين طاعة الله.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا.
وقد بينها الله في قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} .
{فَكُّ رَقَبَةٍ} أي: هي عتق رقبة مملوك من الرق والعبودية.
{أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} .
{أَوْ} هذه للتنويع.
{إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} أي: ذي مجاعة شديدة، ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان وحب البذل في أوجه الخير.
{يَتِيمًا} اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ، سواء كان ذكرًا أم أنثى.
{ذَا مَقْرَبَةٍ} ذا قرابة من الإنسان، لأنه إذا كان يتيمًا كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريبًا ازداد حظه من ذلك.
{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} المسكين: هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله، والمتربة: مكان التراب، والمعنى: أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب.
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} .
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يعني: ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا إلى اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان، لأن هذه القرب والطاعات إنما تنفع مع الإيمان إذا أتى بها لوجه الله.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر على طاعة الله والصبر عن معاصيه، والصبر على ما أصابهم من البلايا والمصائب.
{وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: أوصى بعضهم بعضًا أن يرحم الآخرين من إعطاء محتاجهم، وتعليم جاهلهم، ومساعدتهم على المصالح الدينية والدنيوية.
{أُولَئِكَ} أي: هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات.
{أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: أصحاب اليمين.
وقرن سبحانه بين الأبرار والفجار على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب، لبيان المفارقة الهائلة بين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشرار.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} أي: جحدوا بالقرآن.
{هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} .
{هُمْ} الضمير هنا جاء للتوكيد.
{الْمَشْأَمَةِ} يعني: الشمال أو الشؤم.
{عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: عليهم نار مطبقة مغلقة أبوابها، لا يخرجون منها ولا يستطيعون سبيلاً.