الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة سورة البروج
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها أن هذه الدنيا سجال بين أهل الحق وأهل الباطل، وذكر سبحانه أحوال بعض الأمم السابقة وما جرى بين الفريقين، حيث ذكر قصة أصحاب الأخدود وابتدأت السورة الكريمة بالقَسَم بالسماء ذات النجوم الهائلة، ومداراتها الضخمة التي تدور فيها الأفلاك، وباليوم العظيم المشهود وهو يوم القيامة، وبالرسل والخلائق على هلاك ودمار المجرمين قال تعالى:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} الواو هذه حرف قَسَم، يعني يقسم تعالى بالسماء وبروجها، والله عز وجل يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فلا يجوز له أن يقسم بغير الله، فإن القسم بغير الله شرك.
{ذَاتِ الْبُرُوجِ} أي: صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهو المجموعة العظيمة من النجوم، وسميت بروجًا لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها.
{وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} اليوم الموعود: هو يوم القيامة الذي وعد الله الخلق أن يجمعهم فيه.
{وَشَاهِدٍ} من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق.
{وَمَشْهُودٍ} ما يشهد به الشاهدون على المجرمين من الجرائم الفظيعة التي فعلوها بالشهود وأنفسهم، وهم كل من قتل في سبيل الله كما في قصة أصحاب الأخدود.
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} .
{قُتِلَ} يعني أهلك وعذب، وهو جواب القسم.
{أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار، حيث شقوا لهم شقًا في الأرض، وأضرموا فيه النار فألقوهم فيها وأحرقوهم.
{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} الوقود: الحطب الذي توقد به.
{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} يعني: أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين كانوا، والعياذ بالله عندهم قوة وجبروت، يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها على الأسرة، فيعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألقوه فيها.
{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} يعني: هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، أي استحقوا هذه العقوبة أن الله أهلكهم ولعنهم، وهذا التعدي والظلم على عباد الله الصالحين كان سببه ما ذكره الله عز وجل والغرض تخويف كفار قريش، فقد كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام.
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا.
{إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} إلا أنهم آمنوا بالله؛ العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء.
{الْحَمِيدِ} على وزن فعيل، فيكون بمعنى محمود، فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال.
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الذي اختص بملك السموات والأرض.
{وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي: مطلع عز وجل على كل شيء، وهذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين.
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} قال بعض السلف: انظر إلى حلم الله عز وجل يحرقون أولياءه، ثم يعرض عليهم التوبة يقول:
{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} .
{فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بمعنى: عذبوا وأحرقوا المؤمنين والمؤمنات.
{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي: ثم لم يرجعوا إلى الله من معصيته إلى طاعته.
{فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} لأنهم أحرقوا أولياء الله فكان جزاؤهم مثل عملهم جزاء وفاقًا.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم، وهم الذين آمنوا بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: عملوا الأعمال الصالحة بجوارحهم.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
{لَهُمْ جَنَّاتٌ} مَنْ جمع بين الإيمان وعمل الصالحات، لهم عند الله جنات متصفة بهذه الصفة.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بعد البعث فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{مِنْ تَحْتِهَا} أي: من تحت أشجارها وقصورها.
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .
{ذَلِكَ} المشار إليه الجنات وما فيها من النعيم.
والجنة ليست اسمًا لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور فحسب فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل، ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدًا فأيسر يسر من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك.
{الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} يعني: الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب.
ثم ذكر الله عز وجل بعد الآيات السابقة قوته وعظمه وشدة بطشه بمن خالف أمره وذكر قصة فرعون وثمود وما جرى لهما، فقال تعالى:
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
{إِنَّ بَطْشَ} يعني: أخذه بالعقاب.
{رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي: عقابه شديد قوي.
{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} .
{إِنَّهُ} أي: الله عز وجل.
{يُبْدِئُ} كل شيء.
{وَيُعِيدُ} يعني: أن الأمر إليه ابتداء وإعادة.
ولما ذكر قوته وانتقامه من المخالفين وشدة بطشه، ذكر رحمته وعفوه لمن أطاعه وتقرب إليه.
{وَهُوَ الْغَفُورُ} يعني: ذا المغفرة، الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها، والمغفرة: ستر الذنب والعفو عنه، فليست المغفرة ستر الذنب فقط بل ستره وعدم المؤاخذة عليه.
{الْوَدُودُ} مأخوذ من الود، والود هو خالص المحبة فهو جل وعلا، ودود، ومعنى ودود أنه محبوب وأنه حاب، كثير المحبة لمن أطاعه.
ثم بين عظمته وتمام سلطانه في قوله:
{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى عليه الله عز وجل، وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها وخلقه بهذا الوصف يدل على عظمة خالقه.
{الْمَجِيدُ} المجد: هو النهاية في الكرم والفضل.
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} هذا وصف الله تعالى بأنه الفعال لما يريد، إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون.
ثم لمَّا ذكر رحمته بعباده المؤمنين ورأفته بهم، ذكر أحداث بعض الأمم السابقة فقال تعالى:
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} والخطاب هنا موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصح أن يتوجه إليه بالخطاب، أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟
{الْجُنُودِ} جمع جند وهم الذين تجندوا على أولياء الله ثم بين من هم بقوله.
{فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} يعني: هل أتاك خبرهم وقصتهم؟ والجواب: نعم أتانا خبرهم.
{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي: أن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب، وكأنهم منغمسون في التكذيب.
{وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} يعني: أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب، لا يشذون عنه ولا عن علمه ولا عن سلطانه ولا عن عقابه، والإحاطة بالشيء، الحصر له من جميع جوانبه.
{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .
{بَلْ هُوَ} أي: ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
{قُرْآنٌ مَجِيدٌ} أي: ذو عظمة ومجد متناه في الشرف والكرم والبركة، لأنه كلام الله عز وجل، وهو ليس كما يقولون: إنه شعر وكهانة وسحر.
{فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} يعنيك بذلك اللوح المحفوظ عند الله عز وجل هو أم الكتاب.