الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة عم
بسم الله الرحمن الرحيم
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا * إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَاسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}.
سورة عم سورة مكية، وتسمى سورة النبأ يذكر الله عز وجل فيها البعث والجزاء والحساب، ويعدد فيها بعض نعمه وآلائه، وأنه الخالق المنعم المستحق للعبادة، الذي أوجد من العدم، وخلق الخلق لعبادته وطاعته، وفيها من البيان ما يقول للعباد: استعدوا استيقظوا تفكروا تدبروا
…
هناك بعث ونشور وحساب وأجور، وعقاب، وحسرات قال تعالى:
{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} استفهام إنكاري، عن أي شيء يتساءل كفار قريش من أمر القيامة أو البعث، فإنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بتوحيد الله والبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن، تساءل المشركون فأنزل الله، يعني عم يتساءل هؤلاء المكذبون بالقرآن، وغيره، ثم أجاب الله عز وجل عن هذا السؤال فقال:{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} .
{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} هذا النبأ هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، ولا سيما ما جاء به من الأخبار عن اليوم الآخر والبعث والجزاء.
{الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يعني الناس فيه على قولين: فمنهم مصدق، ومنهم مكذب، وطال نزاعهم فيه.
{كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} .
{كَلَّا} كلمة ردع وزجر، بمعنى ليس الأمر كما قالوا.
{سَيَعْلَمُونَ} بيَّن الله أن هؤلاء الذين كذبوا سيعلمون ما كذبوا به علم اليقين، وذلك إذا رأوا يوم القيامة ونزل بهم العذاب.
{ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} للمبالغة في التأكيد والتشديد، وسوف يتأكد لهم صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن والبعث، وهذا تهديد ووعيد لهم.
ثم بين - تعالى- قدرته العظيمة على خلقه، وذكر بعض نعمه على عباده ليقرر هذه النعم فيلزمهم شكرها، وهي أمور محسوسة ملموسة يتبين فيها قدرة الله عز وجل وعظيم صنعه التي لو فكر فيها الكفار، لما وقع منهم اختلاف في النبأ العظيم الذي جاءهم من عند الله فقال سبحانه:
{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} أي: جعل الله الأرض ممهدة للخلق معدة للحياة، ليست بالصلبة التي لا يستطيعون حرثها ولا المشي عليها إلا بصعوبة، وليست باللينة الرخوة التي لا ينتفعون بها، ولا يستقرون عليها ولكنها ممهدة لهم على حسب مصالحهم وعلى حسب ما ينتفعون به.
{وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي: جعلها الله تعالى أوتادًا للأرض بمنزلة الوتد للخيمة حيث يثبتها فتثبت به ولا تضطرب.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} أي: أصنافًا ما بين ذكر وأنثى، وصغير وكبير، وأسود وأحمر، وشقي وسعيد إلى غير ذلك مما يختلف الناس فيه، فهم أزواج مختلفون على حسب ما أراد الله عز وجل، واقتضته حكمته ليعتبر الناس بقدرة الله تعالى، وأنه قادر على أن يجعل هذا البشر الذين خلقوا من مادة واحدة ومن أب واحد على هذه الأصناف المتنوعة المتباينة.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} أي: جعل الله عز وجل، النوم راحة لأبدانكم قاطعًا للتعب والأشغال.
والسبت القطع، فالنوم يقطع ما سبقه من التعب، وهذا من النعمة وهو أيضًا من آيات الله، كما قال تعالى.
{وَجَعَلْنَا الليْلَ لِبَاسًا} أي: جعل الله هذا الليل الذي يغشى ظلامه وسواده على الأرض، بمنزلة اللباس، كأن الأرض تلبسه ويكون جلبابًا لها.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} أي: جعلناه مشرقًا نيرًا مضيئًا ليتمكن الناس فيه من طلب الرزق وتحصيل الأقوات.
{وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} وهي السماوات السبع، وصفها الله تعالى بالشداد لأنها محكمة البناء في غاية القوة والصلابة، متينة في إحكامها وإتقانها، لا تتأثر بمرور العصور والأزمان.
{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} يعني بذلك الشمس فهي سراج مضيء، وهي أيضًا ذات حرارة عظيمة.
{وَهَّاجًا} أي: وقادة، والوهج يجمع النور والحرارة.
وتستمر الآيات في ذكر نعم الله عز وجل، وقدرته على الخلق يشاهدها الناس ويرونها؛ فقال تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} يعني: من السحاب، ووصف الله السحاب بأنه معصرات كأنما تعصر هذا المطر عند نزوله عصرًا كما يعصر الثوب، فإن هذا الماء يتخلل هذا السحاب ويخرج منه كما يخرج الماء من الثوب المعصور.
وهو سبحانه الذي أنزل بقدرته من السحاب ماءً كثيرًا متتابعًا تنبت به الأرض وتحيا به، فإذا انضاف ماء السماء إلى حرارة الشمس حصل في هذا إنضاج للثمار ونمو لها على أكمل ما يكون.
{مَاءً ثَجَّاجًا} أي: مطرًا منصبًا بكثرة؛ كثير الثجَّ: يعني الانهمار والتدفق بهذا الماء الذي أنزل من السماء إلى الأرض.
{لِنُخْرِجَ بِهِ} أي لنخرج، وننبت بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك الذي أنزل من السماء إلى الأرض.
{حَبًّا وَنَبَاتًا} فتنبت الأرض، ويخرج الله به من الحب بجميع أصنافه وأنواعه وما أشبه ذلك.
والحب ما يدخر للناس والأنعام كالحنطة والشعير والذرة والأرز.
والنباتات ما تأكله الدواب، أي خضرًا يؤكل رطبًا كالحشيش وغيره.
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} أي: حدائق وبساتين ملتفًا بعضها إلى بعض، من كثرتها وحسنها وبهائها حتى إنها لتستر من فيها لكثرتها.
وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة جملة من النعم العظيمة المشاهدة المحسوسة التي امتن بها على عباده ليشكروه ويعبدوه وحده، ويستعينوا بنعمه على طاعته ومرضاته، وليوقنوا أن من أنعم بهذه النعم وهيأ الأسباب بقوته وحوله وطوله، قادر على بعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم، فإنه عز وجل بحكمته وعدله لم يخلقهم عبثًا، ولا تركهم هملاً وجعل لهم أجلاً ومرجعًا.
ثم ذكر سبحانه ما يجري في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام، والجزاء والحساب، ليكون الإنسان على بينة من أمره، وليعرف حاله ومصيره، وفي ذلك بيان وتوضيح لمن سأل عن النبأ العظيم، قال تعالى:
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا *
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا}.
{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} وهو يوم القيامة، وسمي يوم فصل لأن الله يفصل فيه بين العباد فيما شجر بينهم، وفيما كانوا يختلفون فيه.
{كَانَ مِيقَاتًا} أي: ميقاتًا للخلق وموعدًا للجزاء، وموقوتًا لأجل معدود.
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا} .
{يَوْمَ يُنْفَخُ} أي: يوم القيامة.
{فِي الصُّورِ} وهو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، ينفخ فيها نفختين: الأولى: يفزع الناس ثم يصعقون فيموتون، والثانية: يبعثون من قبورهم، وتعود إليهم أرواحهم.
{فَتَاتُونَ} أي فتحيون، فتأتون إلى موضع العرض والحساب والجزاء.
{أَفْوَاجًا} أي: أمما وجماعات متفرقة.
{وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} فتحت: انفرجت، فتكون أبوابًا يشاهدها الناس بعد أن كانت سقفًا محفوظًا.
{فَكَانَتْ أَبْوَابًا} تكون السماء في ذلك اليوم أبوابًا مفتوحة، وطرقًا ومسالك لنزول الملائكة، وفي هذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل أن هذا السبع الشداد يجعلها الله تعالى يوم القيامة كأن لم تكن، تكون أبوابًا.
{وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي: أن الجبال العظيمة الصماء تدك فتكون كالرمل ثم تكون كالسراب تسير.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} أي: مرصدة ومعدة للطاغين تنتظر وتترقب نزلاءها الكفار، وجهنم اسم من أسماء النار التي لها أسماء كثيرة، وسميت بهذا الاسم، لأنها ذات جهمة وظلمة بسوادها وقعرها.
{لِلطَّاغِينَ} أي: للمردة والعصاة المخالفين للرسول.
{مَآبًا} مرجعًا ومنقلبًا ومصيرًا.
{لَابِثِينَ فِيهَا} أي: باقين في جهنم.
{أَحْقَابًا} وهي جمع حقب، وهو المدة من الزمان؛ أي: مددًا طويلة.
ثم ذكر الله عز وجل بعضًا من أحوالهم وشقائهم في هذه النار، وما يجدونه من أنواع العذاب وأصنافه، فقال سبحانه:
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} أي: لا يجدون في جهنم بردًا لقلوبهم ولا شرابًا طيبًا يتغذون به.
{إِلَّا حَمِيمًا} ليس لهم إلا هذا الحميم، وهو الماء الحار المنتهي في الحرارة الذي يشوي الوجوه ويقطع الأمعاء.
{وَغَسَّاقًا} الغساق هو شراب منتن الرائحة، شديد البرودة، فيُجمع لهم والعياذ بالله، بين الماء الحار الشديد الحرارة، والماء البارد الشديد البرودة ليذوقوا العذاب من الناحيتين.
وقيل: إن المراد بالغساق صديد أهل النار، وما يخرج من أجوافهم من النتن والعرق وغير ذلك.
{جَزَاءً وِفَاقًا} أي: يجزون بذلك جزاء موافقًا لأعمالهم من غير أن يظلموا فذكر انحرافهم في العقيدة وانحرافهم في القول.
{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} أي: لا يؤملون أن يحاسبوا، ولا يخافون يوم الحساب فلم يعملوا له، بل ينكرون البعث والحساب.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} كذبوا بما جاءت به الرسل من البينات والهدى والبعث والنشور.
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} .
{وَكُلَّ شَيْءٍ} يشمل ما يفعله الله عز وجل من الخلق والتدبير في الكون، ويشمل ما يعلمه العباد من أقوال وأفعال، ويشمل كل صغير وكبير.
{أَحْصَيْنَاهُ} أي: ضبطناه بالإحصاء الدقيق الذي لا يختلف.
{كِتَابًا} يعني: كتبًا، وقيل: كتبناه في اللوح المحفوظ.
{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} أي: يقال لأهل النار للإهانة والتوبيخ: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسه، وآخر من شكله أزواج، فهم في مزيد من العذاب أبدًا.
وفيما ذكره الله عز وجل عن حال أهل النار من التخويف والتحذير ما يكون رادعًا وحاجزًا عن المعاصي والآثام.
ثم لما ذكر سبحانه وتعالى، ما أعده لأهل النار من العذاب، انتقل من ذكر حال الطغاة إلى حال التقاة، فذكر حال المؤمنين وما هم فيه من النعيم فقال سبحانه:
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ} المتقون هم الذين اتقوا عقاب الله، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
{مَفَازًا} المفاز هو مكان الفوز وزمان الفوز أيضًا، فهم فائزون في أمكنتهم وفائزون في أيامهم.
ثم بيَّن تعالى شيئًا من هذا الفوز وهذا النعيم، فقال:
{حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} .
{حَدَائِقَ} جمع حديقة أي: بساتين أشجارها عظيمة وكثيرة ومنوعة من النخيل وغيرها.
{وَأَعْنَابًا} الأعناب جمع عنب، وهي من جملة الحدائق، لكنه خصها بالذكر لشرفها.
{وَكَوَاعِبَ} الكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تبين وبرز ثديها، ولم يتدل، بل برز وظهر كالكعب، وهذا أكمل ما يكون في جمال الصدر.
{أَتْرَابًا} أي: على سن واحدة لا تختلف إحداهن عن الأخرى كبرًا كما في نساء الدنيا.
{وَكَاسًا دِهَاقًا} أي: كأسًا ممتلئة، والمراد بالكأس هنا كأس الخمر، وخمر الآخرة غير خمر الدنيا.
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} لا يسمعون في الجنة لغوًا أي كلامًا باطلاً لا خير فيه، بل يقال لهم: سلامًا سلامًا.
{وَلَا كِذَّابًا} أي: ولا كذبًا، فلا يكذبون، ولا يكذب بعضهم بعضًا، لأنهم على سرر متقابلين قد نزع الله ما في صدورهم من غل وجعلهم أخوانًا.
وكل ما نالهم من النعيم والخير المقيم إنما هو تفضل من ربهم، عز وجل وثوابًا على أعمالهم الصالحة فإن ما هم فيه إنما هو:
{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} أي: أنهم يجزون بهذا جزاء من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم الحسنة التي عملوها في الدنيا واتقوا بها محارم الله.
{عَطَاءً حِسَابًا} أي: كافيًا وافيًا شاملاً كثيرًا بسبب أعمالهم التي وفقهم الله لها، وجعلت ثمنًا لجنته ونعيمها.
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يخبر سبحانه عن عظمته وجلاله وأنه هو رب كل شيء، فهو رب السماوات السبع الطباق الذي خلقها ودبرها وأحكم صنعها، ورب الأرض، وهي سبع كما ثبت ذلك في السنة، وهو الذي أنعم على عباده بالنعم العظيمة، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
{وَمَا بَيْنَهُمَا} أي: ما بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة، كالغيوم والسحب والأفلاك وغيرها مما نعلمه، ومما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
{الرَّحْمَنِ} عطف بيان، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة.
{لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} يعني: أن الناس لا يملكون الخطاب من الله، ولا يستطيع أحد أن يتكلم إلا بإذن الله، وذلك.
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} وهو جبريل.
{وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} أي: صفوفًا، صفًا بعد صف.
{لَا يَتَكَلَّمُونَ} أي: لا يتكلمون ملائكة ولا غيرهم.
{إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} بالكلام، فإنه يتكلم كما أذن له.
{وَقَالَ صَوَابًا} أي: قال قولاً صوابًا، موافقًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى وذلك بالشفاعة، إذا أذن الله لأحد أن يشفع، شفع فيما أذن له فيه على حسب ما أذن له، فلا يتكلم أحد في ذلك الموقف العظيم إلا بهذين الشرطين: أن يأذن الله له في الكلام، وأن يكون ما تكلم به صوابًا.
{ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي: ذلك الذي أخبرناكم عنه، هو اليوم الحق الذي لا يروج فيه الباطل ولا ينفع فيه الكذب.
ثم لما رغب عز وجل ورهب وبشر وأنذر قال سبحانه:
{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي: من شاء عمل عملاً يؤوب به إلى الله، ويرجع به إليه.
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} أي: خوفناكم وحذرناكم من عذاب قريب، وهو يوم القيامة.
{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: كل امرئ ينظر ما قدمت يداه، أي عمل في الدنيا.
{وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي} أي: ليتني لم أخلق، أو ليتني لم أبعث، وذلك تحسرًا وندامة.
{كُنْتُ تُرَابًا} أي: يود الكافر أنه كان في الدنيا ترابًا فلم يخلق ولم يبعث ويحاسب ويعاقب.
وفي تلك الآيات من ذكر العذاب للكفار والعصاة، ومن النعيم للمؤمنين ما يخوف ويحذر من عذاب الآخرة، وما يجعل المسلم يرجو رحمة ربه بالعمل الصالح الخالص لوجهه الموافق لسنة نبيه، فإن المرء ينظر يوم الجزاء والحساب ما قدمت يداه من أعمال عملها في حياته، ويفرح المؤمن بما وعده الله من النعيم، ويتمنى الكافر حين يرى العذاب وهوله وشدته أنه كان ترابًا.
* * *