المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من العقاب جزاءً لهم على أعمالهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ} سبحانه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: من العقاب جزاءً لهم على أعمالهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ} سبحانه

من العقاب جزاءً لهم على أعمالهم، فقال:{وَعَدَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى هؤلاء {الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} المجاهرين بالكفر جميعًا {نَارَ جَهَنَّمَ} يصلونها حالة كونهم {خَالِدِينَ فِيهَا} ؛ أي: ماكثين فيها مكثًا مؤبدًا لا نهاية له، فالنار المخلدة من أعظم العقوبات، وقدم المنافقين في الوعيد على الكفار للإيذان بأنهم وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام شر من الكفار، ولا سيما المتدينين منهم بأديان محرفة أو منسوخة، كأهل الكتاب وفي هذه الآية دليلٌ على أن وعد يقال في الشر، كما يقال في الخير:{هِيَ} ؛ أي: نار جهنم {حَسْبُهُمْ} ؛ أي: كافيتهم عقوبةً ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكن الزيادة عليها {و} مع ذلك فقد {لَعَنَهُمُ اللَّهُ} تعالى: أي: طردهم وأبعدهم من رحمته {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} ؛ أي: نوعٌ آخر من العذاب دائم، لا ينفك عنهم، كالزمهرير والسموم.

والمعنى: أن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم، عقابًا لهم في الآخرة على أعمالهم، وعليهم لعنة الله في الدنيا والآخرة، بحرمانهم من رحمته، التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون، ولهم عذاب مقيم دائم، غير عذاب جهنم، كالسموم الذي يلفح وجوههم، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم، والضريح الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وحرمانهم من لقاء الله تعالى وكرامته، والحجاب دون رؤيته، كما قال:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)} .

‌69

- ثم شبه سبحانه وتعالى حال المنافقين بالكفار الذين كانوا من قبلهم، ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب، فقال:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} والكاف فيه خبر لمبتدأ محذوف، ولكنه مع تقدير مضاف؛ أي: فعلكم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم كفعل الكفار الذين كانوا من قبلكم من الأمم الماضية، في الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، فقد {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً}؛ أي: أكثر منكم قوةً في الأبدان {وَأَكْثَرَ} منكم {أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا} ؛ أي: أجمع منكم إياها {فَاسْتَمْتَعُوا} ؛ أي: تمتع أولئك الكفار وانتفعوا {بِخَلَاقِهِمْ} ؛ أي: بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا وشهواتها مدة حياتهم،

ص: 330

وخاضوا في تكذيب أنبيائهم واستهزائهم، وفتنوا بدنياهم، وغروا بشهواتهم، وخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين من - رحمة الله - تعالى ونعيم الآخرة.

والمعنى: أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء السابقين، فتنتم بأموالكم وأولادكم، كما فتنوا وغروا بها، ولكنهم كانوا أشد منكم قوةً، وأكثر منكم أموالًا وأولادًا، وقد كان جل مطلبهم وسعيهم، هو التمتع بنصيبهم وحظهم الدنيويِّ، من الأموال والأولاد، فأطغتهم الدنيا، وأغرتهم لذاتها، ولم يكن لهم مقاصد شريفة من الحياة كالتي يقصدها أهل الإيمان باللهِ ورسله والدار الآخرة، من إعلاء كلمة الحق، وإقامة ميزان العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخرجوا من الدنيا مفتونين مغرورين محرومين.

{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} ؛ أي: فأنتم أيها المنافقون المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم حذوتم حذوهم، وسلكتم سبيلهم، وتمتعتم بنصيبكم وحظكم من ملاذ الدنيا وشهواتها {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ}؛ أي: استمتعتم استمتاعًا كاستمتاع الكفار الذين خلوا من قبلكم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية، وفتنتم بها، كما فتنوا بها، فأنتم أولى بالعقاب منهم.

والمعنى: أي وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم، فأنتم فعلتم بدينكم ودنياكم كما فعل الذين كانوا من قبلكم، ولم تفضلوا عليهم بشيءٍ من الاسترشاد بكلام الله وهدي رسوله، إذ لم تعلموا شيئًا من الفضائل التي تزكي النفوس وتجعلها أهلًا للسعادة، فكنتم أجدر بالعقاب منهم؛ لأنهم أوتوا من القوة والأموال فوق ما أوتيتم، ولم يروا من آيات الله ما رأيتم.

فإن قلت: ما فائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرةً ثم في حق المنافقين ثانيًا ثم تكريره في حق الأولين ثالثًا، والثاني مغن عن الأول؟

قلت: فائدة ذكر الاستمتاع في الأولين أولًا: تمهيدٌ لذم حال المخاطبين، بأن قرر وبين حال الأولين، ثم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم، فيكون ذلك

ص: 331