المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

على بلادهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: على بلادهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما

على بلادهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد حصل، وكان ذلك إخبارًا عن الغيب فكان معجزًا.

وروي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام غالبًا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ذلك الإظهار .. لأظهره الله تعالى، فجواب {لو} محذوف، كما قدرناه مثل ما مر، سواء بسواء، وقد وصفهم هنا بالشرك بعد أن وصفهم بالكفر، للدلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرسول وتكذيبه، والشرك بالله، وفي الجملتين إخبار بأن إتمام الله لدينه وإظهاره على جميع الأديان يكون بالرغم من جميع الكفار المشركين منهم، وغير المشركين، وهذا آخر الآيات التي أمر عليٌّ بالتأذين بها في موسم الحج.

‌34

- ولما فرغ سبحانه وتعالى من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان، المتخذين لهم أربابًا .. ذكر هنا حال المتبوعين فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ} ؛ أي: علماء اليهود {وَالرُّهْبَانِ} ؛ أي: علماء النصارى {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ} ؛ أي: ليأخذون الأموال من سفلتهم {بِالْبَاطِلِ} ؛ أي: بالوجوه الباطلة، كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وغير ذلك، وعبر عن أخذ الأموال بالباطل بالأكل؛ لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فمسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وأثبت هذا الأكل للكثير منهم؛ لأنَّ فيهم من لم يتلبس بذلك، بل بقي على ما يوجبه دينه من غير تحريف ولا تبديل، ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان كثير من الذين يدعون العلم في الإسلام، ممن لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، {وَيَصُدُّونَ} الناس؛ أي: يمنعون الناس {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: عن الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، لئلا يفوتهم ما يأخذونه من سفلتهم، أو يمنعونهم في كل زمان عما كان حقًّا في شريعتهم قبل نسخها، بسبب أكلهم أموال الناس بالباطل.

ص: 216

والمعنى: إن كثيرًا من الأحبار والرهبان أشربت قلوبهم حب المال والجاه، فمن أجل حب المال أكلوا أموال الناس بالباطل، ومن أجل حب الجاه .. صدوا عن سبيل الله، فإنهم لو أقروا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة دينه .. لزمهم أن يتابعوه فيبطل حكمهم، وتزول حرمتهم، ومن ثم كانوا يبالغون في المنع من متابعته، وصد الناس عنه.

وأكل الأموال بالباطل: أخذها بغير حق شرعي، ويقع ذلك على صور مختلفة منها:

1 -

أخذها رشوة لأجل الحكم، أو المساعدة على إبطال حق أو إحقاق باطل، ويقوم به صاحب السلطة الدينية أو المدنية، رسمية كانت، أو غير رسمية.

2 -

أخذها بالربا، وهو فاش عند اليهود وأحبارهم، يفتونهم بأكل الربا من غير الإسرائيليين، ويأكلونه معهم، مستحلين له بنص توارتهم المحرفة بدلًا من نهيهم عنه.

3 -

أخذ سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم هدايا ونذورًا.

4 -

بذلها لمن يعتقدون فيهم الصلاح والزهد في الدنيا ليدعوا لهم ويشفعوا عند الله في قضاء حاجاتهم، وشفاء مرضاهم اعتقادًا منهم أن الله يستجيب دعاءهم ولا يرد شفاعتهم، أو لظنهم أن الله قد أعطاهم تصرفًا في الكون، يقضون به الحاجات، من دفع الضر عمن شاؤوا، وجلب الخير لمن أحبوا، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون الضالون، وقالوا: إنها لا تنافي التوحيد الذي جاءت به الرسل.

5 -

أخذها جعلًا على مغفرة الذنوب، ويتوسلون إلى ذلك بما يسمونه سر الاعتراف، فيأتي الرجل أو المرأة لدى القسيس، أو الراهب الذي يأذن له الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب، فيخلو به أو بها، فيقص عليه الخاطىء ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها، لأجل أن يغفرها له، وهم

ص: 217

يعتقدون أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله.

6 -

أخذهم للأموال على فتاوى لتحليل الحرام أو تحريم الحلال؛ إرضاءً لشهوات الملوك وكبار الأغنياء، أو الانتقام من أعدائهم.

7 -

أخذها من أموال مخالفيهم في الجنس أو الدين خيانة وسرقةً، ونحو ذلك، كما قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية.

وصدهم عن سبيل الله (1): هو منعهم الناس عن معرفة الله، معرفة صحيحة، وعبادته على الوجه الذي يرضيه، ولا عجب فهم مشركون غير موحدين - كما علمت مما سلف - فهم لا يعبدون الله بما شرعه الله، بل بما شرعه البشر واليهود، قد كفروا بالمسيح، وهو المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسيين، وجل عبادتهم من صلاة وصيام لم تكن في عهد المسيح، ومن أنكى طرقهم في الصد عن سبيل الله: الطعن في النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، والكتاب الكريم؛ أي القرآن.

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ؛ أي: يجمعونهما {وَلَا يُنْفِقُونَهَا} ؛ أي: ولا ينفقون تلك الكنوز {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ؛ أي: في طاعته؛ أي: لا يؤدون زكاتها، فقد أخرج مالك والشافعي عن ابن عمر، قال: ما أُدي زكاته .. فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته .. فهو كنز، وإن كان ظاهرًا.

وأخرج ابن عدي والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي مال أديت زكاته .. فليس بكنز".

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} .. كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يبقي لولده مالًا بعده، فقال عمر: أنا أفرج

(1) المراغي.

ص: 218

عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال:"إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم"، فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة، التي إذا نظر إليها الرجل .. سرته، وإذا أمرها .. أطاعته، وإذا غاب عنها .. حفظته"، وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال؛ لكونهما أثمن الأشياء، وغالب ما يكنز، وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز، وقرأ الجمهور:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} بالواو على الاستئناف، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين، وقرأ ابن مصرف:{الَّذِين} بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم، واختلفوا (1) في المراد بهؤلاء الذين ذمهم بسبب كنز الذهب والفضة، فقيل: هم أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم وصفهم بالبخل الشديد، وهو جمع المال، ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس والسدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل .. حذر المسلمين من ذلك، وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه.

وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول: أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال، ومنع الحقوق الواجبة فيه، سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين.

أخرج البخاري عن زيد بن وهب، قال: مررت بالربذة - موضع بين مكة والمدينة - فإذا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام

(1) الخازن.

ص: 219