الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشوط رجب على الواحد أن يثبت للعشرة.
والباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} سببية متعلقة بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين، أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة، بسبب أنهم، أي: أنَّ الكفار قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر، لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب، وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل إقامة سننه العادلة، وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، عن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع عن قوة، وعن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين: النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية. وأنتم تقاتلون امتثالًا لأمر الله تعالى، وإعلاءً لكلمته، وابتغاءً لمرضاته، وهم إنما يقاتلون للحمية الجاهلية وإثارةً للعدوان، وهم يعتمدون على قوتهم، والمسلمين يستغيثون بربهم بالتضرع، ومن كان كذلك .. كان النصر أليق به.
وبالجملة: فحالهم يخالف حالكم في كل ما تقدَّم، لا سيما منكري البعث والجزاء منهم، كمشركي العرب في ذلك العصر واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب الشهوات، فهم أحرص على الحياة منكم؛ لعدم اعتقادهم بسعادةٍ أخرويةٍ إلَّا أن أهل الكتاب يظنون أنَّهم يحصلون عليها بنسبهم وشفاعة أنبيائهم.
وفي الآية (1) إيماءٌ إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المئة من الكافرين دون العشرة عن المؤمنين الصابرين، وهكذا كان المسلمين في العصور الأولى، حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعزٍ وجاه عريضٍ، ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهدية .. زال مجدهم وسؤددهم، وذهبت ريحهم ، ونزع منهم أكثر ذلك الملك.
66
- ثم لما شقَّ ذلك عليهم واستعظموه .. خفف عنهم، ورخص لهم؛ لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم، فقال:{الآنَ} ؛ أي في هذا الزمن الحاضر الذي قل فيه عددكم
(1) البيضاوي.
وعدتكم .. {خَفَّفَ اللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَنْكُمْ} أيها المؤمنون أمر القتال، رفع عنكم ما فيه مشقةٌ {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} في الأبدان عن قتال عشرة أمثالكم، لا في الإيمان؛ لكثرة العبادة والتعب، فرحمكم الله وأكرمكم بالتخفيف، وأيضًا علم الله سبحانه وتعالى ضعف من يأتي بعد الصدر الأول عن القتال، فخفف الله عن الجميع {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ}؛ أي: يوجد منكم {مِائَةٌ صَابِرَةٌ} على شدائد القتال {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ؛ أي: يتغلبوا على مئتين من الكفار {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ} ؛ أي: وإن يوجد منكم ألف صابرون في ساحة القتال .. {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} أي: يتغلبوا على ألفين من الأعداء. وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} ؛ أي: بإرادته وتيسيره: متعلقٌ بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين ، وهو خيرٌ بمعنى الأمر؛ أي: فليثبت الواحد منكم لرجلين من الكفار، وقد استمر هذا الأمر إلى يوم القيامة. {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} على مشاق التكاليف بنصره ومعونته، فكيف لا يغلبون؟ قال (1) سفيان: قال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل ذلك.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا نزلت {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية .. شقَّ ذلك على المسليمن حين فرض عليهم أن لا يفرَّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قال: فلمَّا خفف الله عنهم من العدة .. نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار، وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقفٌ في الصف مع العسكر ، أو لم يكن هناك عسكرٌ.
والخلاصة: أنّ أقل حال للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المئة
(1) المراغي.
منهم على المئتين، والألف على الألفين، وإنَّ هذه رخصة خاصة بحال الضعف، كما كان الحال كذلك في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، وهو وقت غزوة بدر، حين كان المؤمنون لا يجدون ما يكفيهم من القوت، ولم يكن لديهم إلا فرسٌ واحدٌ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدِّين للحرب، وكانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي الأهبة والعدة.
ولمَّا كملت للمؤمنين القوة .. كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تمَّ لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده ومن بعده القدوة في ذلك، فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث بن عمير الأزدي ثلاثة آلاف، وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مئةً وخمسين ألفًا.
وقد (1) قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمئتين، والمئة للألف: أنَّ سراياه صلى الله عليه وسلم التي يبعثها كان لا ينقص عددها عن العشرين، ولا يجاوز المئة، وقيل: في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المئة للمئتين، والألف للألفين: بشارةٌ للمسلمين بأنَّ عساكر الإِسلام يجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف، ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله وتيسيره، لا بقوتهم ولا جلادتهم، ثم بشرهم بأنَّه مع الصابرين، وفيه الترغيب إلى الصبر، والتأكيد عليهم بلزومه، والتوصية به، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر؛ لأنَّ من كان الله معه .. لم يستقم لأحد أن يغلبه. وقد اختلف أهل العلم: هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة.
وقرأ الأعمش (2): {حرص} - بالصاد المهملة - وهو من الحرص، وهو قريب من قراءة الجمهور - بالضاد -.
وقرأ الكوفيون: {يكن منكم مئة} على التذكير فيهما، ورواها خارجة عن
(1) الشوكاني.
(2)
البحر المحيط.
نافع، وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - وابن عامر على التأنيث، وقرأ أبو عمرو على التذكير في الأولى، ولحظ {يَغْلِبُوا} والتأنيث في الثانية؛ ولحظ {صَابِرَةٌ} وقرأ الأعرج على التأنيث كلها، إلا قوله:{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ} فإنه على التذكير بلا خلاف، وقرأ المفضل عن عاصم:{وعلم} مبنيًّا للمفعول. وقرأ الحرميان - نافع وابن كثير - والعربيان - أبو عمرو وابن عامر - والكسائي وابن عمر والحسن والأعرج وابن القعقاع وقتادة وابن أبي إسحاق: {ضُعفا} هنا وفي الروم - بضم الضاد وسكون العين - وقرأ عيسى بن عمر بضمهما، وحمزة وعاصم بفتح الضاد وسكون العين، وهي كلها مصادر وعن أبي عمرو بن العلاء: ضم الضاد لغة الحجاز، وفتحها لغة تميم. وقرأ ابن القعقاع:{ضعفاء} جمع ضعيف، كظريف وظرفاء، وحكاها النقاش عن ابن عباس.
الإعراب
{وَلَوْ} {الواو} استئنافية {لو} : حرف شرط {تَرَى} : فعل مضارع بمعنى الماضي؛ أي: بمعنى رأيت؛ لأنَّ لو الامتناعية ترد المضارع ماضيًا، كما أنَّ أن الشرطية ترد الماضي مضارعًا، وفاعله: ضمير يعود على محمَّد، أو على أيّ مخاطب، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وهو محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} وجوابها محذوف، تقديره: ولو ترى حال الكفرة {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} .. لرأيت أمرًا فظيعًا عجيبًا، وجملة لو الشرطية: مستأنفة. {إِذْ} : ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ {تَرَى}. {يَتَوَفَّى}: فعل مضارع. {الَّذِينَ} : اسم موصول في محل النصب مفعول مقدم على الفاعل للاهتمام به. {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {الْمَلَائِكَةُ}: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لإذْ. {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول. {وَأَدْبَارَهُمْ} : معطوف على وجوههم، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الملائكة.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} : {الواو} عاطفة لقول محذوف، تقديره: ويقولون: ذوقوا عذاب الحريق. {ذوقوا عذاب الحريق} فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل النصب مقولٌ لذلك القول المحذوف، وجملة القول المحذوف في محل النصب على الحال على كونها معطوفة على جملة يضربون.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)} .
{ذَلِكَ} مبتدأ. {بِمَا} : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب ما قدمته أيديكم، والجملة الاسمية مستأنفة. {قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما قدمته أيديكم {وَأَنَّ} : {الواو} عاطفة. {أن} حرف نصب ومصدر. {اللَّهَ} اسمها. {لَيْسَ} : فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله. {بِظَلَّامٍ}: خبر ليس، والباء زائدة. {لِلْعَبِيدِ}: متعلق بظلام، وجملة أنَّ في تأويل مصدر معطوف على ما الموصولة على كونه مجرورًا بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب ما قدمته أيديكم، وكائن بسبب عدم كون الله ظلامًا للعبيد.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر للمبتدإ محذوف، تقديره: دأب هؤلاء المشركين كائن كدأب آل فرعون، والجملة الاسمية مستأنفة. {وَالَّذِينَ}: اسم موصول في محل الجر معطوف على {آلِ فِرْعَوْنَ} {مِنْ قَبْلِهِمْ} : جار ومجرور، صلة الموصول. {كَفَرُوا}: فعل وفاعل. {بِآيَاتِ اللَّهِ} جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَفَرُوا} ، والجملة الفعلية جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تفسير لـ {دأب آل فرعون} {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} فعل ومفعول وفاعل معطوف على كفروا؛ لأنَّ الفاء فيه عاطفة {بِذُنُوبِهِمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {أخذهم} . {إِنَّ اللَّهَ} : ناصب واسمه {قَوِيٌّ} : خبره. {شَدِيدُ الْعِقَابِ} : خبر ثانٍ لأنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة
لتعليل ما قبلها.
{ذَلِكَ} : مبتدأ. {بِأَنَّ} {الباء} حرف جر وسبب: {أَنَّ} حرف نصب. {اللَّهَ} اسمها. {لَمْ} : حرف نفي وجزم {يَكُ} : فعل مضارع ناقص مجزوم بلم، وعلامة جزمه سكون ظهر على النون المحذوفة للتخفيف على حدِّ قول ابن مالك:
وَمِنْ مُضَارعٍ لِكَانَ مُنْجَزِمْ
…
تُحْذَفُ نوْنٌ وَهُوْ حَذْفٌ مَا الْتُزِمْ
وحذفت الواو من {يك} ؛ لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ أصله: يكون، دخل الجازم عليه فسكنت النون، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو؛ لالتقائهما، فصار يكن، ثم حذفت النون؛ للتخفيف، فصار: يك، واسمها: ضمير يعود على الله. {مُغَيِّرًا} : خبرها، {نِعْمَةً}: مفعول مغيرًا، وجملة يكون في محل الرفع خبر أن، وجملة أن في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم كون الله مغيرًا نعمة الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: ذلك كائنٌ بسبب عدم تغيير الله نعمة أنعمها على قوم، والجملة اسمية مستأنفة {أَنْعَمَهَا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب صفة لنعمة ولكنها سببية. {عَلَى قَوْمٍ}: جار ومجرور متعلق بـ {أَنْعَمَهَا} . {حَتَّى} : حرف جر وغاية، {يُغَيِّرُوا} فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد {حَتَّى} ، بمعنى إلى {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {بِأَنْفُسِهِمْ} جار ومجرور صلة لـ {ما} ، أو صفة لا، تقديره: ما كان بأنفسهم من الحال، وجملة {يُغَيِّرُوا} صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {حَتَّى} بمعنى إلى: تقديره: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، الجار والمجرور متعلق بيكون، أو بمغيرًا {وَأَنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه. {سَمِيعٌ} : خبر أول له. {عَلِيمٌ} : خبر ثان له، وجملة أنَّ في محل الجر معطوفة على جملة أن في قوله:{بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا} على قراءة الفتح، وعلى قراءة كسر همزة إن - فالجملة مستأنفة.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} : جار ومجرور خبر لمحذوف، تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون، والجملة مستأنفة، كررت؛ للإطناب في الذم. {وَالَّذِينَ}: معطوف على آل فرعون. {مِنْ قَبْلِهِمْ} : جار ومجرور صلة الموصول. {كَذَّبُوا} : فعل وفاعل. {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {كَذَّبُوا} والجملة مفسرة لدأب أل، فرعون لا محل لها من الإعراب {فَأَهْلَكْنَاهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول معطوف على {كَذَّبُوا} . {بِذُنُوبِهِمْ} : جار ومجرور متعلق بـ {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} . {وَأَغْرَقْنَا} : فعل وفاعل. {آلَ فِرْعَوْنَ} : مفعول ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة {أهلكنا}. {وَكُلٌّ}: مبتدأ وسوَّغ الابتداء بالنكرة .. قصد العموم. {كَانُوا ظَالِمِينَ} : فعل ناقص واسمه وخبره، وجملة كان في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وجمع الضمير في كانوا وفي ظالمين؛ مراعاةً لمعنى {كل} ؛ لأنَّ كلًّا متى قطعت عن الإضافة .. جاز مراعاة لفظها تارة ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاة المعنى؛ لأجل الفواصل، ولو روعي اللفظ فقط، فقيل: وكلُّ كان ظالمًا .. لم تتفق الفواصل اهـ "سمين".
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)} .
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ} : ناصب واسمه ومضاف إليه. {عِنْدَ اللَّهِ} : ظرف ومضاف إليه متعلق بشر {الَّذِينَ} : اسم موصول في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة استئنافًا نحويًّا. {كَفَرُوا}: صلة الموصول. {فَهُمْ} : {الفاء} اعتراضية، {هم}: مبتدأ، وجملة {لَا يُؤْمِنُونَ} خبره، والجملة الاسمية معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين البدل والمبدل منه، أو معطوفةٌ على جملة الصلة، وعبارة أبي السعود هنا قوله:{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} هذا حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه، وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع، لا يلويهم صارف، ولا يثنيهم عاطف أصلًا، جيء به على وجه الاعتراض، لا أنه
عطفٌ على {كَفَرُوا} داخلٌ معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل. انتهت.
{الَّذِينَ} بدل من الموصول قبله بدل بعض من كل، أو عطف بيان له، أو خبر لمحذوف، تقديره: هم الذين. {عَاهَدْتَ} : فعل وفاعل. {مِنْهُمْ} : متعلق به، والجملة صلة الموصول. {ثُمَّ} حرف عطف وترتيب، {يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة الصلة {فِي كُلِّ مَرَّةٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَنْقُضُونَ} . {وَهُمْ} : مبتدأ، وجملة {لَا يَتَّقُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو {يَنْقُضُونَ} .
{فَإِمَّا} {الفاء} فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم المذكور من نقض العهد، وأردت بيان ما تفعل معهم .. فأقول لك:{إما تثقفنهم} . {إما} {إنْ} حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم {ما} الزائدة {ما} زائدة لتأكيد معنى الشرط. {تثقفن} فعل مضارع في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. {فِي الْحَرْبِ} متعلق به {فَشَرِّدْ} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية {شَرِّدْ}: فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {بِهِمْ}: متعلق بشرد. {مَنْ} اسم موصول في محل النصب مفعول شرِّد. {خَلْفَهُمْ} : ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {لَعَلَّهُمْ}: ناصب واسمه، وجملة {يَذَّكَّرُونَ} في محل الرفع خبر لعل، وجملة لعل في محل النصب مقولٌ لجواب إذا المقدرة على كونها مسوقةً لتعليل ما قبلها.
{وَإِمَّا} {الواو} عاطفة {إن} حرف شرط. {ما} زائدة. {تَخَافَنَّ} : فعل مضارع في محل الجزم بأن مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد {مِنْ قَوْمٍ}: متعلق به. {خِيَانَةً} : مفعول به. {فَانْبِذْ} {الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية {انبذ} فعل أمر في محل الجزم بإن مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: عهدهم. {إِلَيْهِمْ} متعلق بانبذ. {عَلَى سَوَاءٍ} : حال من الفاعل الذي هو ضمير انبذ، والمفعول الذي هو ضمير إليهم، تقديره. حالة كونك وكونهم مستوين في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به؛ لئلا يتهموك بالغدر، وجملة إن الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله:{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة. {إِنَّ} : حرف نصب {اللَّهَ} اسمها، وجملة {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} خبرها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال، على كونها مقولًا لجواب إذا المقدرة.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)} .
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، وجملة {سَبَقُوا} في محل النصب مفعول ثان لحسب، ومفعولها الأول محذوف، تقديره: أنفسهم، والمعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا. {إِنَّهُمْ} : ناصب واسمه، وجملة {لَا يُعْجِزُونَ} في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{وَأَعِدُّوا} فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، {لَهُمْ} متعلق به. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على المفعولية. {اسْتَطَعْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة صلةٌ لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما
استطعتموه. {مِنْ قُوَّةٍ} جار ومجرور حال من ما الموصولة، أو من العائد المحذوف، تقديره: حالة كونه بعض قوة. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} : جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله. {تُرْهِبُونَ} : فعل وفاعل. {بِهِ} : متعلق به {عَدُوَّ اللَّهِ} : مفعول به {وَعَدُوَّكُمْ} : معطوف عليه، وجملة {تُرْهِبُونَ}: في محل النصب حالٌ من فاعل {أعدوا} ، تقديره: حالة كونكم مرهبين لهم، ويجوز أن يكون حالًا من مفعوله وهو الموصول؛ أي: أعدوه حال كونه مرهبًا به.
{وَآخَرِينَ} : معطوف على {عَدُوَّ اللَّهِ} . {مِنْ دُونِهِمْ} : جار ومجرور ومضاف إليه صفة لآخرين. {لَا تَعْلَمُونَهُمُ} : فعل وفاعل ومفعول به؛ لأنَّ علم هنا بمعنى عرف، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {آخرين}. {اللَّهُ}: مبتدأ. {يَعْلَمُهُمْ} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثالثة لآخرين. {وَمَا}:{الواو} استئنافية. {ما} : اسم شرط جازم في محل النصب مفعول مقدم لـ {تُنْفِقُوا} . {تُنْفِقُوا} : فعل وفاع مجزوم بما، على كونه فعل شرط لها. {مِنْ شَيْءٍ}: حال من {ما} . {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : متعلق بـ {تُنْفِقُوا} . {يُوَفَّ} : فعل مضارع مغيّر الصيغة في محل الجزم بـ {ما} ، على كونه جواب شرط لها، ونائب فاعله ضمير يعود على {ما}. {إِلَيْكُمْ}: متعلق به. {وَأَنْتُمْ} مبتدأ، وجملة {لَا تُظْلَمُونَ} خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير إليكم؛ أي: يوف إليكم حالة كونكم غير مظلومين فيه، وجملة ما الشرطية مستأنفة استئنافًا نحويًّا.
{وَإِنْ} {الواو} استئنافية. {إن} : حرف شرط. {جَنَحُوا} : فعل وفاعل في محل الجزم بإن، على كونه فعل شرط لها. {لِلسَّلْمِ}: متعلق به. {فَاجْنَحْ} :
{الفاء} رابطة لجواب إن الشرطية {اجنح} فعل أمر في محل الجزم بإن الشرطية، على كونها جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {لَهَا}: متعلق به، وجملة إن الشرطية مستأنفة. {وَتَوَكَّلْ}: فعل أمر معطوف على {فَاجْنَحْ} ، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {عَلَى اللَّهِ}: جار ومجرور متعلق به. {إِنَّهُ} : ناصب واسمه. {هُوَ} : ضمير فصل. {السَّمِيعُ} : خبر أول لإنَّ. {الْعَلِيمُ} : خبر ثانٍ لها، وجملة إنَّ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{وَإِنْ} {الواو} عاطفة. {إن} : حرف شرط. {يُرِيدُوا} : فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. {أن} : حرف نصب ومصدر. {يَخْدَعُوكَ} : فعل وفاعل ومفعول منصوب بإن المصدرية، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يُرِيدُوا} ، تقديره: وإن يريدوا خداعهم إياك، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فصالحهم ولا تخش منهم، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة قوله:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} {فَإِنَّ} {الفاء} تعليلية {إن} حرف نصب. {حَسْبَكَ} : اسمها ومضاف إليه. {اللَّهُ} : خبرها، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية؛ لأنَّ جملتها مسوقة لتعليل الجواب المحذوف، كما قدَّرناه آنفًا. {هُوَ الَّذِي}: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة. {أَيَّدَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. {بِنَصْرِهِ} جار ومجرور متعلق بـ {أَيَّدَكَ}. {وَبِالْمُؤْمِنِينَ}: معطوف على الجار والمجرور قبله.
{وَأَلَّفَ} : فعل ماض معطوف على {أَيَّدَكَ} ، وفاعله ضمير يعود على الله {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَلَّفَ} . {لَوْ} : حرف شرط. {أَنْفَقْتَ} : فعل وفاعل. {مَا} : موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول
{أَنْفَقْتَ} . {فِي الْأَرْضِ} : جار ومجرور صلةٌ لما، أو صفةٌ لها. {جَمِيعًا}: تأكيدٌ لما الموصولة، أو حال منها، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لو} لا محل لها من الإعراب. {مَا}: نافية. {أَلَّفْتَ} : فعل وفاعل، والجملة جواب لو الشرطية، وجملة لو الشرطية مستأنفة. {بَيْنَ قُلُوبِهِمْ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَلَّفْتَ} . {وَلَكِنَّ اللَّهَ} . ناصب واسمها. {أَلَّفَ} : فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله {بَيْنَهُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لكن، وجملة لكن معطوفة على جملة لو الشرطية. {إِنَّهُ}: ناصب واسمه. {عَزِيزٌ} : خبر أول لها. {حَكِيمٌ} : خبر ثان لها، وجملة إن مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} .
{يَا أَيُّهَا} {يا} حرف نداء، {أيُّ} منادى نكرة مقصودة، و {الهاء} حرف تنبيه زائد. {النَّبِيُّ}: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفةٌ. {حَسْبُكَ}: مبتدأ ومضاف إليه. {اللَّهُ} خبره، والجملة الاسمية جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وقال (1) قوم:{حَسْبُكَ} : مبتدأ، و {اللَّهُ}: فاعله؛ أي: يكفيك الله. {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} : في {مِنَ} ثلاثة أوجه من الإعراب:
أحدها: جره عطفًا على الكاف في {حَسْبُكَ} ؛ أي: حسبك يا محمَّد وحسب من اتبعك من المؤمنين .. الله. وهذا الوجه في المعنى أوضح وأظهر وأسلم من الإشكال، ولكن هذا الوجه من حيث العربية لا يجوز عند البصريين؛ لأنَّ العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار لا يجوز عندهم، كما قال ابن مالك:
وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى
…
ضَمِيْرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلَا
والثاني: موضعه نصب بعامل محذوف دلَّ عليه الكلام، تقديره: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين، وهذا الوجه واضح أيضًا.
(1) العكبري.
والثالث: موضعه رفع، وهو على وجهين:
أحدهما: أنَّه معطوف على لفظ الجلالة، فيكون خبرًا آخر للمبتدأ، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يثن حسبك؛ لأنه مصدر. وقال قوم: هذا الوجه ضعيف من حيث المعنى؛ لأنَّ الواو للجمع، ولا يحسن ههنا، كما لا يحسن في قولهم: ما شاء الله وشئت، وثم هنا أولى، إلا أن يقال: إن الواو هنا بمعنى ثم.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وحسبك من اتبعك من المؤمنين من حيث النصر، ولا يلزم على هذا الوجه التشريك بين الله وبين غيره؛ لأنَّ الكلام جملتان.
وليس فيه اعتماد على غير الله؛ لأنَّ المؤمنين ما التفت إليهم إلا لإيمانهم وكونهم حزب الله، فرجع الأمر فيهم إلى الله. انتهى أبو البقاء مع زيادة وتصرف.
{اتَّبَعَكَ} فعل ومفعول، وفعله ضمير يعود على {مَنِ} ، والجملة صلة الموصول. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: جار ومجرور حال من فاعل اتبعك.
{يَا أَيُّهَا} : منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة. {النَّبِيُّ}: صفة لـ {أي} . {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على النبي، والجملة الفعلية جواب النداء. {عَلَى الْقِتَالِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَرِّضِ} {إن} : حرف شرط. {يَكُنْ} : فعل مضارع تام بمعنى يوجد، مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها. {مِنْكُمْ}: متعلق به. {عِشْرُونَ} فاعل. {صَابِرُونَ} : صفة لـ {عِشْرُونَ} ، ويصح أن تكون {يَكُنْ} ناقصة. {يَغْلِبُوا}: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جواب الشرط لها. {مِائَتَيْنِ} : مفعول به، وجملة إن الشرطية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
{وَإِنْ} : {الواو} عاطفة {إِنْ يَكُنْ} : جازم. ومجزوم. {مِنْكُمْ} : متعلق
به {مِائَةٌ} : فاعل. {يَغْلِبُوا} : فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابًا لها. {أَلْفًا} . مفعول به، وجملة إن الشرطية معطوفة على جملة إن الأولى {مِنَ الَّذِينَ}: جار ومجرور صفة لِـ {أَلْفًا} ، وجملة {كَفَرُوا} صلة الموصول، {بِأَنَّهُمْ} {الباء} حرف جر وسبب {أنَّ} حرف نصب، و {الهاء} اسمها. {قَوْمٌ}: خبر أنَّ، وجملة {لَا يَفْقَهُونَ} صفة لـ {قَوْمٌ} ، وجملة أنَّ في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب عدم فقههم. الجار والمجرور متعلق بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين.
{الْآنَ} ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الفتح؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا؛ لتضمنه معنى حرف التعريف، والظرف متعلق بـ {خَفَّفَ} الآتي. {خَفَّفَ اللَّهُ}: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {عَنْكُمْ}: متعلق بـ {خَفَّفَ} {وَعَلِمَ} : فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {خَفَّفَ} {أَنَّ}: حرف نصب. {فِيكُمْ} : جار ومجرور خبر مقدم لأن {ضَعْفًا} اسم أنَّ مؤخر، وجملة أنَّ في تأويل مصدر ساد مسدَّ مفعولي {علم} ، تقديره: وعلم كون ضعف فيكم {فَإِنْ} {الفاء} حرف عطف وتفصيل. {إن} حرف شرط جازم. {يَكُنْ} : فعل مضارع تام مجزوم بـ {إن} {مِنْكُمْ} : متعلق به {مِائَةٌ} : فاعل {يَكُنْ} . {صَابِرَةٌ} : صفة مئة. {يَغْلِبُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} على كونه جوابًا لها. {مِائَتَيْنِ} : مفعول به، وجملة إن الشرطية من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة {خَفَّفَ} على كونها مفصلة لها. {وَإِنْ يَكُنْ}: جازم ومجزوم. {مِنْكُمْ} : متعلق به. {أَلْفٌ} : فاعلٌ. {يَغْلِبُوا} : فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه جوابًا لها. {أَلْفَيْنِ} : مفعول به، وجملة {إن} الشرطية معطوفة على جملة {إن} الأولى على كونها تفصيلًا لـ {خَفَّفَ}. {بِإِذْنِ اللَّهِ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {يَغْلِبُوا} في الموضعين. {وَاللَّهُ} : مبتدأ. {مَعَ الصَّابِرِينَ} : ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
{وَأَدْبَارَهُمْ} ؛ أي: ظهورهم وأقفيتهم. {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} والذوق: قد يكون محسوسًا، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار، وأصله من الذوق بالفم. والحريق: بمعنى المحرق - فعيل بمعنى مفعل - {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ؛ أي: بذي ظلم، ففعال صيغة نسب، على حد قول ابن مالك:
وَمَعَ فَاعِلٍ فِعَالٌ وَفُعِلْ
…
فِيْ نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ اليَا فَقُبِلْ
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} : وفي "المصباح": ثقفت الشيء ثقفًا - من باب تعب - أخذته، وثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل ثقيفٌ، وبه سمي حيٌّ من اليمن اهـ. {فَشَرِّدْ بِهِمْ}؛ أي: نكل بهم تنكيلًا يشرد غيرهم من ناقضي العهد، يقال: شرد إذا فرق وطرد، والمشرد: المفرق المبعد. {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} : والنبذ: الطرح والرمي. {عَلَى سَوَاءٍ} ؛ أي: على طريق واضح، لا خداع فيه ولا خباءة ولا ظلم. {سَبَقُوا}؛ أي: أفلتوا من الظفر بهم {لَا يُعْجِزُونَ} ؛ أي: لا يجدون الله عاجزًا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم.
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ} : الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل. {مِنْ قُوَّةٍ} : والمراد بالقوة: جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو، فكل ما هو آلة يستعان به في الجهاد .. فهو من جملة القوة المأمور بإعدادها. {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}: والرباط - بكسر أوله في الأصل -: مصدر سماعي لرابط؛ لأنَّ فعالا لا يكون مصدرًا قياسيًّا إلا إذا كان الفعل يقتضي الاشتراك، كقاتل وخاصم، وهنا ليس كذلك، وفي "السمين": وقال الزمخشري: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط بمعنى مربوط، كفصيلٍ وفصالٍ، والمصدر هنا مضافٌ لمفعوله اهـ. والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها. وفي "المصباح": ربطته رباطًا من باب ضرب، ومن باب قتل لغة - شددته. والرباط: ما تربط به القربة وغيرها، والجمع ربط، مثل: كتاب وكتب، ويقال للمصاب: ربط الله على قلبه بالصبر، كما يقال: أفرغ الله عليه الصبر؛ أي: ألهمه.
والرباط: اسم من رابط مرابطة - من باب قاتل - إذا لازم ثغر العدو، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد، ويجمع في القياس على رُبُط - بضمتين - ورباطات اهـ.
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} : والإرهاب والترهيب: الإيقاع في الرهبة، وهي الخوف المقترن بالاضطراب. {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}: يقال: جنح للشيء وإليه: إذا مال، يقال: جنحت الشمس إذا مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه، يقال: جنح - من باب دخل وخضع - جنوحًا، والجنوح: الميل، وجنحت الإبل: أمالت أعناقها، ويقال: جنح الليل إذا أقبل، قال النضر بن شميل: جنح الرجل إلى فلان ولفلان إذا خضع له، والجنوح: الاتباع أيضًا لتضمنه الميل، ومنه الجوانح للأضلاع لميلها على حشوة الشخص، والجناح من ذلك؛ لميلانه على الطائر اهـ. "سمين". {إِلَى السَّلْمِ}: وفي "المصباح": والسلم - بكسر السين وفتحها -، ويذكَّر ويؤنَّث، الصلح وضد الحرب، والإِسلام دين السلم والسلام، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} .
{حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : التحريض في اللغة: الحث على الشيء بكثرة الترغيب وتسهيل الخطب فيه، كأنه في الأصل إزالة الحرض، وهو الهلاك اهـ. "الخازن". وفي "البيضاوي": الحرض: أن ينهكه المرض حتى يشرف على الموت اهـ. وفي "المصباح": حرض حرضا - من باب تعب - إذ أشرف على الهلاك، فهو حرض - بفتح الراء - تسميةً بالمصدر مبالغةً، وحرّضته على الشيء تحريضًا اهـ. وفي "المختار": والتحريض على القتال: الحث عليه اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع: فمنها: المجاز المرسل في قوله: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} ؛ لأنه كناية عن ضرب أجسادهم، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل. وفي قوله:{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ؛ لأن المعنى: بما قدمته أنفسكم، فاليد هنا عبارة عن القدرة، وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل، والقدرة هي المؤثرة، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة اهـ "كرخي".
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ؛ لأنَّ الذوق حقيقة في المطعومات، فشبه مباشرة العذاب بذوق الطعام بجامع الوصول إلى المقصود في كل.
ومنها: الاعتراض التذييليُّ المقرر لمضمون ما قبله في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} .
ومنها: التشبيه في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} .
ومنها: التكرار في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} ، وفي قوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} ، وفي قوله:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} ، وفي قوله:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ} {يَغْلِبُوا} .
ومنها: الاستعارة التصريحية التخييلية في قوله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} لأن النبذ حقيقة في الطرح، وهو هنا مجاز عن إعلامهم بأن لا عهد بعد اليوم، فشبه العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه، وأثبت النبذ له تخييلًا.
ومنها: الاحتباك الذي هو من المحسنات البديعية في قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} والاحتباك هو أن يحذف من كلّ من المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر. وفي "الكرخي": وأثبت في الشرطية الأولى قيدًا - وهو {صَابِرُونَ} - وحذفه من الشرطية الثانية، وأثبت في الثانية قيدًا - وهو {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} - وحذفه من الأولى، والتقدير: مئتين من الذين كفروا، ومئة صابرة، فحذف من كل منهما ما أثبت في الآخر، وهو غاية الفصاحة، وهذا الاحتباك جارٍ في الجمل المذكورة بعد قوله:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} .
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع منها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
المناسبة
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
…
}: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى (1) لمَّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها .. أردف ذلك بذكر أحكام الأسرى، لأنَّ أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبًا، كما وقع في وقعة بدر، كما يقع في كل زمان.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى
…
} الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّه لما أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الفداء من الأسرى .. شقَّ عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية؛ استمالةً لهم وترغيبًا في الإِسلام، ببيان ما فيه
(1) المراغي.
من خير الدنيا والآخرة، وتهديدًا وإنذارًا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته، وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
…
} الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى .. ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، ثم أمر بالمحافظة على العهود والمواثيق مع الكفار ما دام العهد محفوظًا غير منبوذ ولا منكوث.
أسباب النزول
قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
…
} الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الحاكم (ج 3/ ص 339) قال: أخبرنا أبو العباس محمَّد بن أحمد المحبوبي حدثنا سعيد بن مسعود حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسارى أبا بكر، فقال: قومك وعشيرتك، فخلِّ سبيلهم. فاستشار عمر، فقال: اقتلهم. قال: ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} ، قال: فلقي النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر قال: "كاد أن يصيبنا بلاءٌ في خلافك"، هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وقال الذهبي: قلت على شرط مسلم.
وروى (1) ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر .. جيء بالأسارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة:
(1) المراغي.
أنت في وادٍ كثير الحطب، فأضرمه عليهم نارًا، فقال العباس - وهو يسمع ما يقول - أقطعت رحمك؟ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئًا، فقال أناسٌ: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناسٌ: يأخذ بقول عمر: وقال أناس: يأخذ: بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إنَّ الله ليلين قلوب رجالٍ حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}، ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام؛ إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}، وإنَّ مثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}. أنتم عالةٌ، فلا يفلتن أحدٌ إلا بفداء أو ضرب عنق" فقال عبد الله رضي الله عنه: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء؛ فإني سمعته يذكر الإِسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليَّ الحجارة منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
…
} إلى آخر الآيتين.
وروى (1) أحمد من حديث ابن عباس قال: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فديةً فتكون قوةً لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يا ابن الخطاب؟ "، قال: لا والله، لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل - أخيه - فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٌ لعمر -، فأضرب عنقه، ومكن فلانًا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان الغد .. جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدان يبكيان،
(1) المراغي.
قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء .. أبكي، وإن لم أجد بكاءً .. تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرةٍ قريبةٍ منه - وأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} .
وفي هذا الحديث تصريحٌ بأنَّ الذين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر في أكثر الرويات أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنَّه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقامًا، وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمدٍ الفداء يوم بدر، ففادوهم بأربعة آلاف "أربعة آلاف درهم".
قوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} سبب نزولها (1): ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم تحلَّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها"، فلمَّا كان يوم بدر .. وقعوا في الغنائم قبل أن تحل لهم، فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} إلى آخرِ الآيتين.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى
…
} الآية، روى الحاكم والبيهقي في "سننه" وغيرها عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرًا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس: كنت مسلمًا إلا أنهم أكرهوني، فقال عليه الصلاة والسلام:"إن يكن ما تذكره حقًّا .. فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك .. فقد كان علينا" قال العباس: فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب عليَّ، فقال:"أمَّا شيء أخرجت لتستعين به علينا .. فلا"، قال وكلَّفني رسول الله فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن
(1) المراغي.
الحارث، فقال العباس: تركتني يا محمَّد أتكفف قريشًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الذهب الذي دفعته إلى أمِّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حادث .. فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؟ "، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، قال: فإني أشهد أنَّك صادقٌ، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابًا في أمرك، وأما إذ أخبرتني بذلك .. فلا ريب.
قال العباس: فأبدلني الله خيرًا من ذلك إلى الآن عشرون عبدًا، وإنَّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا، وأعطاني زمزم، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموال مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
…
} الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (1) ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي عن أبي مالك قال: قال رجل: نورِّث أرحامنا المشركين، فنزلت هذه الآية:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} .
قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
…
} الآية، سبب نزولها ما أخرجه ابن جرير عن ابن الزبير قال: كان الرجل يعاقد الرجل، ترثني وأرثك، فنزلت هذه الآية:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .
وأخرج ابن سعد من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك، قال الزبير: لقد رأيت كعبًا أصابته الجراحة بأُحد، فقلت: لو مات فانقطع عن الدنيا وأهلها .. لورثته، فنزلت هذه الآية: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
…
} الآية، فصارت المواريث - بعد - للأرحام والقرابات، وانقطعت تلك المواريث في المؤاخاة.
(1) لباب النقول.