الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانوا يتعظمون غزو الروم، لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب.
ثم أخبر الله سبحانه وتعالى أنه إذا رجع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الجهاد، يحلفون باللهِ، وهو قوله تعالى:{وَسَيَحْلِفُونَ} ؛ أي: المتخلفون عن الغزو عند رجوعك من غزوة تبوك، وهم عبد الله بن أبي وجُدُّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، كما قال:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} قائلين {بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا} الخروج إلى الجهاد بوجود الزاد والراحلة وانتفاء الأعذار المانعة منه {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إلى غزوة تبوك، فما كان تخلفنا إلا لاضطرار، وقال البيضاوي: هذه (1) الجملة سادة مسد جوابي القسم والشرط، وهذا من المعجزات؛ لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه اهـ.
{يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بإيقاعها في العذاب بامتهان اسم الله بالحلف الكاذب، لستر نفاقهم وإخفائه، تأييدًا للباطل بالباطل، وتقويةً للإجرام بالإجرام، فإن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع".
{وَاللهُ} سبحانه وتعالى {يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم وحلفهم بالله، وقولهم:{لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ، فهم كانوا للخروج مطيقين، إذ كانوا أصحاء الأبدان أقوياء الأجسام ذوي يسرة في المال، وقرأ الأعمش وزيد بن علي {لَوُ اسْتَطَعْنَا} بضم الواو، فرَّ من ثقل الكسرة على الواو، وشبهها بواو الجمع، عند تحريكها لالتقاء الساكنين، وقرأ (2) الحسن: بفتحها، كما جاء {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} بالأوجه الثلاثة،
43
- ثم عاتب الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن تخلف عنه من المنافقين، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، فقال:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يا محمَّد، ما وقع منك، من ترك الأولى والأكمل؛ أي: عما عنك ما أدَّاك إليه اجتهادك من الإذن لهم حين استأذنوك وكذبوا عليك في الاعتذار، والاستفهام في قوله:{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} للعتاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، حيث
(1) البيضاوي.
(2)
البحر المحيط.
وقع منه الإذن في القعود لمن استأذنه قبل أن يتبين له من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه ومن هو كاذب فيه، والعتاب: هو لوم الحبيب حبييه على أمر غير لائق به؛ أي: لأي سببٍ، ولأي شيء أذنت لهم في القعود والتخلف كما أرادوا، وهلا تأنيت في الإذن لهم وتوقفت عنه {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ}؛ أي: حتى ينجلي وينكشف لك {الَّذِينَ صَدَقُوا} في اعتذارهم بعدم الاستطاعة من جهة المال ، أو من جهة البدن {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيما يعتذرون به؛ أي: حتى يتبين لك الفريقان فتعامل كلًّا بما ينبغي أن يعامل به، فإن الكاذبين لا يخرجون أذنت لهم أو لم تأذن، فكان من الأجدر بك والأولى لك، أن تتلبث أو تمسك عنه اختبارًا.
والمعنى: عفا الله عنك يا محمَّد، ما كان منك من إذنك لهؤلاء المنافقين، الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك.
روي عن مجاهد في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} هم ناس قالوا: استأذنوا رسول الله، فإن أذن لكم، فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم، فاقعدوا. وقال ابن عباس، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذٍ، حتى نزلت سورة براءة، قيل (1): إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئين لم يؤمر بهما: أخذه للفداء صلى الله عليه وسلم وإذنه للمنافقين، فعاتبه الله عليهما، وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هذا العتاب المذكور هنا، يعارض ما رخص له صلى الله عليه وسلم في سورة النور، بقوله:{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} ؟
قلت: يمكن الجمع بين الآيتين، بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات، حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الاستثبات، والله أعلم.
(1) البيضاوي.