المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

حيث عرضوها للعقوبة بالكفر والتكذيب للأنبياء. والمعنى (1): وما كان من - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: حيث عرضوها للعقوبة بالكفر والتكذيب للأنبياء. والمعنى (1): وما كان من

حيث عرضوها للعقوبة بالكفر والتكذيب للأنبياء.

والمعنى (1): وما كان من سنة الله، ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب، وقد أعذرهم وأنذرهم، ليجتنبوه، ولكن كانوا يظلمون أنفسهم بجحودهم وعنادهم، وعدم مبالاتهم، بإنذار رسلهم، وقد ضرب هذا المثل للكافرين برسالته صلى الله عليه وسلم والمنافقين ليبين لهم أن سنة الله تعالى في عباده واحدة، لا ظلم فيها ولا محاباة، فلا بد أن يحل بهم من العذاب مثل ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا، وقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة، وهي غزوة بدر، ثم خذل من بعدهم في سائر الغزوات، وما زال المنافقون يكيدون له في السر، حتى فضحهم الله بهذه السورة، فتاب أكثرهم ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده، وبهذا التمحص كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرجت للناس، نشر الله بها أعلام دينه، حتى سادت العالم جميعه.

ولمَّا وصف الله سبحانه وتعالى المنافقين بالأعمال الخبيثة، والأحوال الفاسدة،

‌71

- ثم ذكر بعده ما أعد لهم، من أنوع الوعيد في الدنيا والآخرة .. عقبه بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة، وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة، فقال:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ؛ أي: والمصدقون بوحدانية الله ورسالة رسوله من الرجال، والمصدقات من النساء، بعضهم أنصار بعض آخر، وأصدقاؤه في الدين والمعاونة بتسديد الله وتوفيقه وهدايته، لا بمقتضى الطبيعة، وهوى النفس، بل قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف، بسبب ما جمعهم من أمر الدين، وضمهم من الإيمان بالله ورسوله.

والولاية: ضد العداوة، فتشمل ولاية النصرة، وولاية الأخوة والمودة، ونصرة النساء: تكون فيما دون القتال، من الأعمال المتعلقة بتعبئة الجيوش، من

(1) المراغي.

ص: 334

الأمور المالية والبدنية، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء أصحابه، يخرجن مع الجيش يسقين الماء، وبجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، قال حسان بن ثابت:

تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٌ

تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ

فإن قلت: لِمَ قال سبحانه وتعالى في وصف المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ، وقال في وصف المنافقين:{بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} فما الفائدة في التفرقة بينهما في الوصف؟

قلت: فرق بينهما لأن المؤمنين بينهم أخوة ومودة وتعاون وتراحم، حتى شبه النبي صلى الله عليه وسلم جماعتهم بالجسد الواحد، وبالبنيان يشد بعضه بعضًا، وبينهم ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل، وإعلاء كلمة الله تعالى، أما المنافقون فيشبه بعضهم بعضًا في الشكوك والذبذبة، وما يتبعها من الجبن والبخل، وهما يمنعان من التناصر ببذل النفس والمال، وقصارى أمرهم التعاون بالكلام، وما لا يشق من الأعمال، ومن ثم أكْذَبَ الله منافقي المدينة في وعدهم لليهود حلفائهم، بنصرهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا قاتلوهم، في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

} الآية، ثم بين أوصافهم الحميدة، كما بين أوصاف من قبلهم من المنافقين، فقال:{يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ أي: بما هو معروف في الشرع غير منكر، ومن ذلك توحيد الله سبحانه، وترك عبادة غيره؛ أي: يأمرون غيرهم بالإيمان بالله ورسوله، واتباع ما أمر به {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عما هو منكر في الدين والشرع، غير معروف فيه، من الشرك والمعاصي والبدع {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}؛ أي: يؤدون الصلاة المفروضة، بإتمام الأركان والشرائط {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}؛ أي: يؤدون الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وخصَّ (1) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر من بين جملة العبادات؛ لكونهما الركنين العظيمين فيما يتعلق بالأبدان والأموال

(1) الشوكاني.

ص: 335

{وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما يأمرهم به وينهاهم عنه في السر والعلن.

والحاصل (1): أن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين في هذه الآية بصفاتٍ خمسٍ، تفاد مثلها في المنافقين:

1 -

أنهم يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر.

2 -

أنهم ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف، وهاتان الخصلتان سياج الفضائل، ومنع فشوِّ الرذائل.

3 -

أنهم يؤدون الصلاة على أقوم وجه وأكمله بخشوع وإخبات لله، وحضور القلب في مناجاته، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة .. قاموا وهم كسالى، يراؤون الناس.

4 -

أنهم يعطون الزكاة المفروضة عليهم، وما وفقوا له من التطوع، والمنافقون يقبضون أيديهم، والمنافقون وإن كانوا يصلون لم يكونوا يقيمون الصلاة، وكانوا يزكون وينفقون، ولكن خوفًا أو رياءً لا طاعةً لله تعالى، كما قال سبحانه {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ

} الآية.

5 -

أنهم يستمرون على الطاعة، بترك ما نهوا عنه وفعل ما أمروا به، بقدر الطاقة وبضد ذلك المنافقون فإنهم فاسقون خارجون عن حظيرة الطاعة كما تقدم.

ثم ذكر ما يكون لهم من حسن العاقبة، وعظيم الجزاء على جميل أفعالهم فقال:{أُولَئِكَ} الموصفون بالصفات المذكورة من المؤمنين والمؤمنات {سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} سبحانه وتعالى؛ أي: يفيض عليهم آثار رحمته، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة باستمرارهم على طاعته، وطاعة رسوله، ويقابل هذا نسيانه تعالى للمنافقين ولعنه إياهم.

وزيدت (2) السين فيه للتأكيد والمبالغة؛ أي: للدلالة على تحقيق ذلك وتقرر

(1) المراغي.

(2)

الفتوحات.

ص: 336