المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار، لا يزاد على الدينار - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: وقال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار، لا يزاد على الدينار

وقال أصحاب الشافعي: أقل الجزية دينار، لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضي أهل الذمة بالزيادة .. ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير.

وقال العلماء: إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل، بخلاف أهل الشرك، حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوارة والإنجيل، قبل النسخ والتبديل، وأيضًا فإن بأيديهم كتبًا قديمة، فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته، فأمهلوا لهذا المعنى، وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب، إقرارهم على كفرهم، بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم، رجاء أن يعرفوا الحق، فيرجعوا إليه، بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه.

‌30

- ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق .. بيَّن في هذه الآية الآتية ما أجمله في تلك فأخبر عنهم أنهم أثبتوا لله ولدًا، ومن جوز ذلك على الله .. فقد أشرك به؛ لأنه لا فرق بين من يعبد صنمًا وبين من يعبد المسيح، فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} لعائن الله تعالى عليهم؛ أي: قال بعضهم وهم يهود المدينة؛ لأن قول بعضهم لازم لجميعهم وهم سلام ابن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، أو فنحاص بن عازوراء {عُزَيْرٌ} بن شرخيا {ابْنُ اللَّهِ} تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

روى (1) ابن إسحاق وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وأبو أنس وشاس بن قيس ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك، وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله؟ كما مر بيان ذلك في الأسباب، وإسناد هذا القول إليهم جملة، وإن كان قد صدر من بعضهم مَبنيٌّ على أن الأمة تعد متكافلة في شؤونها

(1) المراغي.

ص: 208

العامة فما يفعله بعض الفرق أو الجماعات يكون له تأثير في جملتها، والمنكر الذي يفعله بعضهم إذا لم ينكره عليه جمهورهم ويزيلوه .. يؤاخذون به كلهم، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} .

وسبب هذا القول منهم أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فرفع الله عنهم التابوت الذي فيه التوراة، وأنساهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى ودعاه أن يرد إليه التوراة، فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله تعالى، إذ نزل نور من السماء، فدخل جوفه فعادت التوراة إليه، فأعلم قومه، وقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة، وردها علي، فتعلموا منه عن ظهر لسانه، ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت، عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت .. فوجدوه مثله، فقالوا: ما جمع التوراة في صدر عزير وهو غلام إلا لأنه ابنه.

{وَقَالَتِ النَّصَارَى} ؛ أي: قال بعضهم: {الْمَسِيحُ} عيسى بن مريم {ابْنُ اللَّهِ} تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وهذا قول القدماء منهم، كانوا يريدون به المحبوب أو المكرم، ثم سرت إليهم وثنية الهنود، فاتفقت كلمتهم على أنه ابن الله حقيقةً وعلى أن ابن الله بمعنى {اللَّهِ} وبمعنى روح القدس إذ هذه الثلاثة عندهم واحد حقيقة.

روي أن أتباع عيسى كانوا على الدين الحق، بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة، يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له: بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام، ثم قال بولس لليهود: إن كان الحق مع عيسى .. فقد كفرنا، والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلنا النار، ودخلوا الجنة، فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا، ثم إنه أتى إلى النصارى. فقالوا: له من أنت؟ قال: أنا عدوكم بولس، قد نوديت من السماء: إنه ليست لك توبة حتى تتنتصر وقد تبت، فأدخله النصارى الكنيسة، ومكث سنة في بيت فيها، ولم يخرج منها حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، وقال: قد نوديت: إن الله قد قبل توبتك،

ص: 209

فصدقوه وأحبوه، وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عهد إلى أربعة رجال، اسم واحد منهم: نسطور، والآخر يعقوب، والثالث ملكان، والرابع، من أهل الروم، فعلَّم نسطورًا أن عيسى ومريم والله آلهة ثلاثة، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان، وأنه ابن الله، وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال عيسى، وعلم رجلًا آخر من الروم اللاهوت والناسوت، وقال: ما كان عيسى إنسانًا ولا جسمًا ولكنه الله، ثم دعا كل واحد منهم في الخلوة، وقال له: أنت خليفتي فادع الناس لما علمتك، وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وأني غدًا أذبح نفسي لمرضاة ربي ثم دخل المذبح فذبح نفسه، فتفرقوا ودعوا الناس إلى مذاهبهم، واختلفوا، ووقع القتال بينهم، فكان ذلك سبب قولهم: المسيح ابن الله {ذَلِكَ} المذكور الذي قالوه في عزير وفي المسيح {قَوْلُهُمْ} ؛ أي: قول صادر واقع من غير فائدة ولا برهان، يقولونه {بِأَفْوَاهِهِمْ} وتلوكه ألسنتهم مجرد عن المعنى، خال عن الفائدة، لا يؤيده برهان، ولا يتجاوز حركة اللسان، بل البرهان دال على عكسه، لاستحالة إثبات الولد لمن هو برىءٌ عن الحاجة، واتخاذ الصاحبة.

ووجه (1) تقييده بأفواههم مع العلم بأن القول لا يكون إلا من الفم: أن هذا القول لما كان ساذجًا ليس فيه بيان، ولا عضده برهان، كان مجرد دعوى لا معنى تحتها، فارغة صادرة عنهم صدور المهملات، التي ليس فيها إلا كونها خارجةً من الأفواه، غير مفيدة لفائدة يعتد بها، وقيل: إن ذكر الأفواه لقصد التأكيد، كما في كتبت بيدي، ومشيت برجلي، ومنه قوله تعالى:{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} وقوله: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وقال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه، لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان قولًا زورًا، كقوله:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} وقوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} وأشباه ذلك.

(1) الشوكاني.

ص: 210