المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

التفسير وأوجه القراءة   ‌ ‌67 - {مَا كَانَ} ينبغي {لِنَبِيٍّ} من الأنبياء، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: التفسير وأوجه القراءة   ‌ ‌67 - {مَا كَانَ} ينبغي {لِنَبِيٍّ} من الأنبياء،

التفسير وأوجه القراءة

‌67

- {مَا كَانَ} ينبغي {لِنَبِيٍّ} من الأنبياء، وما يليق به، ولكن المراد به: النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم بقرينة المقام. {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} من الكفار؛ أي: أن يحبس كافرًا قدر عليه وصار في يده أسيرًا، ويترك قتله للفداء والمنّ {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ}؛ أي: حتى (1) يبالغ ويكثر في قتال المشركين في نواحي الأرض ويغلبهم ويقهرهم، فإذا حصل ذلك .. فله أن يقدم على الأسر، فيأسر الأسارى، بل اللائق به الآن قتلهم بلا فداء؛ إظهارًا لقوة المسلمين وعزة الإِسلام. أخبر (2) الله سبحانه وتعالى أنَّ قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم وفدائهم، ثمَّ لما كثر المسلمون .. رخَّص الله في ذلك، فقال:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله تعالى.

والمعنى (3): ما كان من شأن نبي من الأنبياء ولا من سنته في الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المن والفداء، إلا بعد أن يثخن في الأرض؛ أي: إلا بعد أن يعظم شأنه فيها، ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه؛ لأن الملك والدولة إنَّما تقوى وتشتد بالقتال والقتل، كما قال:

لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ اَلرَّفِيْعُ مِنَ الأَذَى

حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ

مع أنَّ كثرة القتل توجد الرعب وشدة المهابة، وذلك يمنع من الجرأة والإقدام على ما لا ينبغي، ومن ثم أمر الله سبحانه به.

وخلاصة ذلك: أنَّ اتخاذ الأسرى إنَّما يكون خيرًا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل، ففي المعركة الواحدة بإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفي الحالة العامة - التي تعم كلَّ معركة وكل قتال - فبإثخانهم في الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.

(1) الخازن.

(2)

الشوكاني.

(3)

المراغي.

ص: 90

{تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون بما قبضتم من الفداء {عَرَضَ} الحياة {الدُّنْيَا} الفاني الزائل ونفعها، وسمي عرضًا؛ لأنَّه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر، أي: تريدون بأسركم عرض الدنيا، وهو المال الذي تأخذونه من الأسرى فداءً لهم {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {يُرِيدُ} ويرضى لكم {الْآخِرَةَ}؛ أي: ثواب الآخرة الباقي بما يشرِّعه لكم من الأحكام الموصلة إليه ما دمتم تعملون بها، التي منها الإثخان بالقتل، ويدخل في ذلك: الاستعداد للقتال بقدر الاستطاعة على إرادة الإثخان في الأرض والسيادة فيها؛ لإعلاء كلمة الحق، وإقامة العدل.

وفي ذلك إنكارٌ لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله سبحانه وتعالى بما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضًا.

{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَزِيزٌ} ؛ أي: غالب لا يغالب، يغلب أولياءه على أعدائه، وينصرهم عليهم، ويجعل الغلبة لهم، ويمكنهم من أعدائهم قتلًا وأسرًا {حَكِيمٌ} فيما دبَّره لخلقه، يعلم ما يليق بكل حال، كما أمر بالإثخان، ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخير بين أخذ الفداء وبين المنِّ لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين، ولا تتم لهم العزة .. إلا بتقديم الإثخان في الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية، بمثل فداء الأسرى من المشركين، وهم في عنفوان قوتهم وشوكتهم وكثرتهم.

وعلى هذه القاعدة (1): جرت الدول العسكرية في العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة .. نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرِّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف عن قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات، ولكنَّ الإِسلام -

(1) المراغي.

ص: 91

وهو دين الرحمة والعدل - لا يبيح شيئًا من ذلك.

وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة (1): {ما كان للنَّبي} معرفًا، والمراد به في التعريف والتنكير: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينًا، وهو هنا على حذف مضاف؛ أي: ما كان لأصحاب نبيٍّ، أو لأتباع نبي، فحذف اختصارًا، ولذلك جاء الجمع بعده في قوله: تريدون عرض الدنيا، ولم يجىء التركيب: تريد أو يريد عرض الدنيا؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد عرض الدنيا قط، وإنَّما فعله جمهور مباشري الحرب. وقرأ أبو عمرو:{أن تكون} على تأنيث لفظ الجمع، وباقي السبعة والجمهور على التذكير على المعنى، لكن في قراءة (2) التاء الفوقية .. تتعين الإمالة في {أسرى} ، وعلى قراءة الياء التحتية تجوز الإمالة وتركها. اهـ.

وقرأ الجمهور والسبعة. {أَسْرَى} على وزن فعلى، وهو قياس فعيل بمعنى مفعول إذا كان آفةً، كجريح وجرحى. وقرأ يزيد بن القعقاع والمفضل عن عاصم:{أسارى} وشبَّه فعيلٌ بفعلان، نحو كسلان وكسالى، كما شبهوا كسلان بأسير فقالوا فيه جمعًا: كسلى، قاله سيبويه، وهما شاذَّان، وزعم الزجاج أنَّ أسارى جمع أسرى، فهو جمع جمع.

وقرأ أبو جعفر ويحيى بن يعمر ويحيى بن وثَّاب: {حتى يثخِّن} مشدَّدًا، {عدوه} بالتضعيف، والجمهور بالتخفيف، وعدوه بالهمزة؛ إذ كان قبل التعدية ثخن. وقرىء:{يريدون} بالياء من تحت، وقرأ الجمهور:{الآخرة} بالنصب، وقرأ سليمان بن جمَّاز المدني بالجر، واختلفوا في تقدير المضاف المحذوف، فمنهم من قدره: عرض الآخرة، قال: وحذف لدلالة عرض الدنيا عليه، قال بعضهم: وقد حذف العرض في قراءة الجمهور، وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، فنصب. وممن قدره عرض الآخرة: الزمخشريُّ قال: على التقابل، يعني: ثوابها. انتهى.

(1) البحر المحيط.

(2)

الفتوحات.

ص: 92

فصل فيما يتعلق بعصمة الأنبياء

قد استدل بهذه الآية من يقدح في عصمة الأنبياء، وبيانه من وجوه:

الأول: أنَّ قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} صريح في النهي عن أخذ الأسارى، وقد وجد ذلك يوم بدر.

الوجه الثاني: أنَّ الله سبحانه وتعالى أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقومه بقتل المشركين يوم بدر، فلمَّا لم يقتلوهم، بل أسروهم .. دلَّ ذلك على صدور الذنب منهم.

الوجه الثالث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء، وهو محرمٌ، وذلك ذنب.

الوجه الرابع: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قعدا يبكيان لأجل أخذ الفداء، وخوف العذاب، وقرب نزوله.

والجواب عن الوجه الأول: أنَّ قوله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} .. يدل على أنَّه كان الأسر مشروعًا، ولكن بشرط الإثخان في الأرض، وقد حصل؛ لأنَّ الصحابة رضى الله تعالى عنهم قتلوا يوم بدر سبعين رجلًا من عظماء المشركين وصناديدهم، وأسروا سبعين، وليس من الإثخان في الأرض قتل جميع الناس، فدلَّت الآية على جواز الأسر بعد الإثخان، وقد حصل.

والجواب عن الوجه الثاني: أنَّ الأمر بالقتل إنما كان مختصًا بالصحابة، لإجماع المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بمباشرة قتال الكفار بنفسه، وإذا ثبت أنَّ الأمر بالقتل كان مختصًا بالصحابة .. كان الذنب صادرًا منهم، لا من النبي صلى الله عليه وسلم.

والجواب عن الوجة الثالث: - وهو أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأخذ الفداء وهو محرَّم - فنقول: لا نسلم أن أخذ الفداء كان محرَّمًا، وأما قوله سبحانه وتعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} .. فهو عتاب لطيف على أخذ الفداء من الأسارى والمبادرة إليه، ولا يدل على تحريم الفداء؛ إذ لو كان حرامًا في علم الله تعالى .. لمنعهم من أخذه مطلقًا.

ص: 93