المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر

مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة .. دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة، فاستفتاه، فأنزل الله عز وجل:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

وأخرج (1) الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم عليُّ بن أبي طالب مكة، فقال للعباس: أي عم، ألا تهاجر، ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أعمر المسجد وأحجب البيت، فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية وقال لقوم سماهم: ألا تهاجروا ألا تلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ

} الآية كلها، وأخرج عبد الرزاق، عن الشعبي نحوه، وأخرج ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي، قال: افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعليُّ بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال عليُّ: لقد صليت إلى القبلة قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ

} الآية كلها.

التفسير وأوجه القراءة

‌13

- {أَلَا تُقَاتِلُونَ} ؛ أي: هلَّا تقاتلون أيها المؤمنون {قَوْمًا} من كفار مكة {نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} ؛ أي: نقضوا عهودهم التي عاهدوكم يوم الحديبية، حيث نقضوها بإعانتهم لبني بكر، الذين هم حلفاؤهم، بإعطاء السلاح لهم على خزاعة، الذين هم حلفاؤكم، وألا هنا: للتحضيض، كما قاله السيوطي في "تفسير الجلالين" وهو الطلب بحثٍّ وإزعاج، ودخول (2) حرف التحضيض على مستقبلٍ حث على الفعل وطلبٌ له، وعلى الماضي توبيخٌ على ترك الفعل، وأدواته خمسةٌ: ألا بالتخفيف، وألا بالتشديد، وهلَّا، ولولا، ولوما، كما ذكرته

(1) لباب النقول.

(2)

الفتوحات القيومية على الآجرومية.

ص: 160

في "الفتوحات القيومية".

وقال أبو حيان (1): وألا هنا حرف عرض وهو الطلب برفق ولين ومعناه هنا: الحض على قتالهم، وزعموا أنها مركبةٌ من همزة الاستفهام ولا النافية، فصار فيها معنى التحضيض اهـ وليس هذا الزعم بشيءٍ يعتد.

فالمعنى: (2) قاتلوا قومًا اجتمعت فيهم أسبابٌ ثلاثةٌ، كل منها يقتضي قتالهم، فما بالكم باجتماعها؟ وهي نقض العهد، وإخراج الرسول، وقتال حلفائكم {وَهَمُّوا}؛ أي: أرادوا {بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، من مكة، لكن لم يخرجوه، بل خرج باختياره بإذن الله تعالى له في الهجرة {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} أيها المؤمنون بالقتال {أَوَّلَ مَرَّةٍ}؛ أي: والحال أنهم بدؤوكم بالقتال يوم بدر أول مرة؛ لأنهم حين سلمت العير، قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا ومن معه، أبو بدؤوا بقتال خزاعة، حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن إعانة بني بكر عليهم بالسلاح قتالٌ معهم، فالإعانة على القتال تسمى قتالًا وقرأ زيد بن عليّ {بدوكم} بوزن رموكم: بغير همزٍ ووجهه: أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياءً، كما قالوا في قرأت قريت، فصار كرميت، فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كرموكم، ذكره أبو حيان في "البحر" والاستفهام في قوله:{أَتَخْشَوْنَهُمْ} للتوبيخ والتقريع؛ أي: أتخافون أيها المؤمنون أن ينالكم منهم مكروه، حتى تتركوا قتالهم لهذه الخشية، ثم بين ما يجب أن يكون الأمر عليه فقال:{فَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {أَحَقُّ} وأجدر وأولى {أَنْ تَخْشَوْهُ} في ترك أمره، وقوله:{أَنْ تَخْشَوْهُ} بدل اشتمال من لفظ الجلالة الواقع مبتدأً؛ أي: فخشية الله تعالى أحق وأولى لكم من خشيتهم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ؛ أي: مذعنين بأنه تعالى هو الضار النافع فاخشوه، ومن خشيتكم له أن تقاتلوا من أمركم بقتالهم.

وحاصل المعنى: أي قاتلوا هؤلاء المشركين لأسبابٍ ثلاثة:

1 -

أنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيد عهدهم الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم

(1) البحر المحيط.

(2)

الفتوحات.

ص: 161

وأصحابه على ترك القتال عشر سنين، يأمن فيها الفريقان على أنفسهم، ويكونون فيها أحرارًا في دينهم، لكنهم لم يلبثوا أن ظاهروا حلفاءهم بني بكر على خزاعة - حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ليلًا بالقرب من مكة، على ماءٍ يسمى الهجير، وكان هذا من أفظع أنواع الغدر، ولمَّا علم بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم .. قال:"لا نُصِرت إن لم أنصركم" وتجهز إلى مكة سنة ثمان من الهجرة.

2 -

أنهم هَمُّوا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من وطنه، أو حبسه حتى لا يبلِّغ رسالته، أو قتله بأيدي عصبةٍ من بطون قريش، ليتفرق دمه في القبائل فتتعذَّر المطالبة به، إلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .

3 -

أنهم بدؤوا بقتال المؤمنين في بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة عيرهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا وأصحابه، ونقيم في بدر أيامًا نشرب الخمر، وتعزف على رؤوسنا القيان، وكذا في أحد والخندق وغيرهما. وبعد أن أورد البراهين والحجج الموجبة لقتالهم، قال:{أَتَخْشَوْنَهُمْ} ؛ أي: أبعد هذا كله تتركون قتالهم خوفًا منكم وجبنًا {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} ؛ أي: فالله أحق أن تخشوا مخالفة أمره، وترك مخالفة عدوه، إذ المؤمن حق الإيمان لا يخشى إلا الله؛ لأنه يعلم أنه هو الذي بيده النفع والضر، ولا يقدر أحد على مضرة أو نفع إلا بمشيئته، فإن خشي غيره بمقتضى سننه تعالى في أسباب الضر والنفع .. فلا ترجح خشيته على خشية الله، بأن تحمله على عصيانه ومخالفة أمره، بل يرجح خشيته تعالى على خشية غيره.

وخلاصة ما سلف: أنه بعد تلك الحجج التي تقدم ذكرها، لم يبق من سببٍ يمنع قتالهم إلا الخشية لهم والخوف من قتالهم، وخشية الله أحق وأجدر إن كنتم مؤمنين حقًّا، كيف وقد نصركم الله عليهم في مواطن كثيرة مع ضعفكم وقوتهم، وقلتكم وكثرة عددهم، وفي الآية إيماءٌ إلى أن المؤمن يجب عليه أن يكون أشجع الناس، وأعلاهم همةً، ولا يخشى إلا الله.

وبعد أن أقام الأدلة على وجوب قتالهم وفند الشبه المانعة من ذلك ..

ص: 162