المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

التفسير وأوجه القراءة   ‌ ‌36 - {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ}؛ أي: إن عدد - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١١

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: التفسير وأوجه القراءة   ‌ ‌36 - {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ}؛ أي: إن عدد

التفسير وأوجه القراءة

‌36

- {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} ؛ أي: إن عدد الشهور التي تتكون منها السنة القمرية {عِنْدَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى؛ أي: في حكمه وتقديره وعلمه، لا عند الناس أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يجعلونه ثلاثة عشر شهرًا أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت، وفي قوله:{عِنْدَ اللَّهِ} رد عليهم؛ أي إن عدد شهور السنة في حكمه تعالى، لا بالنظر إلى ما ابتدعه الناس {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} من غير زيادة ولا نقصان، مثبتة {فِي كِتَابِ اللَّهِ}؛ أي: في اللوح المحفوظ {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ؛ أي: مرتبة على هذا الترتيب المعروف فيها أول ما خلق الله السموات والأرض فقوله (1): {فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقوله: {يَوْمَ خَلَقَ} بدل من قوله: {عِندَ اللهِ} والتقدير: إن عدد شهور السنة عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرًا، هي المحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر، وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة.

وفائدة الإبدالين: تقرير الكلام في الأذهان؛ لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله تعالى في كتاب الله، وثابت في علمه من أول ما خلق الله هذا العالم.

ويجوز أن يكون {فِي كِتَابِ اللَّهِ} صفة اثنا عشر؛ أي: اثنا عشر شهرًا مثبتة في كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ، وفي هذه الآية بيان أن الله سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السموات والأرض، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء، ونزلت به الكتب، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط، من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يومًا وبعضها أكثر وبعضها أقل.

والمعنى: أن (2) مبلغ عدة الشهور اثنا عشر شهرًا فيما كتبه الله وأثبته من نظام سير القمر، وتقديره: منازل منذ خلق السموات والأرض على هذا الوضع

(1) الشوكاني.

(2)

المراغي.

ص: 239

المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن، والمراد بقوله: يوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه، ونهايته في جملته، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله، وخلق كل منهما وما فيهما، وقال "البيضاوي": والمعنى أن هذا الأمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة اهـ. والمراد بها شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل، وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم، وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم كالعدد ومدة الحمل والرضاع وآجال الدين.

وأيام هذه المشهور (1) ثلاث مئة وخمسة وخمسون يومًا، والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورةً تامةً، وهي ثلاث مئة وخمسة وستون يومًا وربع يوم، فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية، فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء، وتارة في الصيف.

قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية، من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية، فكان يقع حجهم تارة في وقته، وتارة في المحرم، وتارة في صفر، وتارة في غير ذلك من سائر الشهور، فأعلم الله عز وجل أن عدة شهور سنة المسلمين التي يعتدون به اثنا عشر شهرًا على منازل القمر وسيره فيها، وهو قوله:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} يعني: في علمه وحكمه اثنا عشر شهرًا اهـ "خازن".

{مِنْهَا} ؛ أي: من تلك الشهور الاثني عشر {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ؛ أي: محترمةٌ ثلاثةٌ سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد رجب، كما ورد ذلك في السنة المطهرة، وإنما سميت (2) حرمًا: لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال، حتى إن أحدهم لو لقي قاتل أبيه أو ابنه أو أخيه في هذه

(1) الخازن.

(2)

الخازن.

ص: 240

الأربعة أشهر .. لم يزعجه، ولما جاء الإِسلام .. لم يزدها إلا حرمة وتعظيمًا، ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف، وكذلك السيئات أيضًا أشد فيها من غيرها، فلا يجوز انتهاك حرمتها {ذَلِكَ}؛ أي: تحريم الأشهر الأربعة هو {اَلدِّينُ الْقَيِّمُ} ؛ أي (1): الدِّين القويم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب وَرِثوه منهما، فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها، حتى أحدثت النسيء فغيروا، وقيل: أراد بالدين القويم: الحكم الذي لا يغير ولا يبدل، والقيِّم هنا بمعنى الدائم الذي لا يزول، وقيل: المعنى ذلك؛ أي: كون شهور السنة اثني عشر شهرًا هو الدين القيم، أي: الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوفى، فالدين إذًا بمعنى الحساب، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"الكيس من دان نفسه - يعني حاسب نفسه - وعمل لما بعد الموت".

فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبيعاتهم وأجل ديونهم، وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} ، أي: في هذه الأشهر الحرم الأربعة {أَنْفُسَكُمْ} بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها، وقيل: الضمير يعود إلى الأشهر كلها الحرم وغيرها.

والمعنى: فلا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات؛ لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقًا في جميع الأوقات إلى الممات.

والقول الأول أولى، وهو قول أكثر المفسرين، وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم، والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا.

فإن قلت: لِمَ خص هذه الأربعة بالتحريم؟

قلت: إن الأنفس (2) مجبولة بطبعها على الظلم والفساد، والامتناع عنه على

(1) البيضاوي.

(2)

الخازن.

ص: 241

الإطلاق شاق على النفس، فخص الله سبحانه وتعالى بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام، ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات، فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة، سببًا لترك الظلم والمعاصي في غيرها من الأشهر، فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض، بمزيد التشريف والتعظيم، وكذلك الأمكنة أيضًا.

وقد ذهب (1) جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ، لهذه الآية ولقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ولقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية.

وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بآية السيف، ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم، كما في الآية المذكورة، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه، وأما ما استدلوا به من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام، وهو ذو القعدة، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما .. فقد أجيب عنه بأنه لم يبتدىء محاصرتهم في ذي القعدة، بل في شوال، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، وبهذا يحصل الجمع.

وعبارة "المراغي" هنا قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (2)؛ أي: فلا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها، وقد خص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تقتضي ترك المحرمات فيها، تنشيطًا للنفوس على زيادة العناية بما يزكيها ويطهرها، فقد جرت عادة الإنسان أن يسأم الاستمرار على حال واحدة تشق عليه، ومن ثم جعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة، كالصلوات الخمس، وخص يوم الجمعة

(1) الشوكاني.

(2)

المراغي.

ص: 242

بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين تذكيرًا وموعظة حسنة تقوي في المؤمن حب الخير والتعاون على البر والتقوى، وخص رمضان بوجوب صيامه في كل سنة، وخص أيامًا معدودات من ذي الحجة بأداء مناسك الحج، وجعل ما قبلها وما بعدها من الأيام الحرم استعدادًا للسفر لأداء النسك، وحرم مكة وما حولها في جميع السنة، لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت، وحرم رجب في وسط السنة، لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه، انتهت.

{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} ؛ أي: قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم {كمَا} أنهم {يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ؛ أي: بأجمعهم مجتمعين على قتالكم.

والمعنى (1): تعاونوا وتناصروا على قتالهم، ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم، وكونوا عباد الله مجتمعين، متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة.

وفيه (2) دليل على وجوب قتال المشركين، وأنه فرض على الأعيان، إن لم يقم به البعض.

والمعنى: أي (3) قاتلوهم جميعًا، وكونوا يدًا واحدةً على دفع عدوانهم وكف أذاهم، كما يقاتلونكم كذلك، ذاك أنهم إنما يقاتلونكم لدينكم وإطفاء نوره، لا للانتقام ولا للعصبية ولا لكسب المال، كما هو دأبهم في قتال قويهم لضعيفهم، فأنتم حينئذٍ أجدر وأولى بالاتحاد لدفع العدوان، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى، والله عزيز حكيم.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مَعَ الْمُتَّقِينَ} ، أي: مع أوليائه، الذين يخشونه في أداء المأمورات واجتناب المنهيات بنصرهم ومعونتهم وتوفيقهم، لما

(1) الخازن.

(2)

الشوكاني.

(3)

المراغي.

ص: 243