المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من ضرار الكاتب والشهيد، أو - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من ضرار الكاتب والشهيد، أو

{وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من ضرار الكاتب والشهيد، أو من ضرار صاحب الحق ومن عليه الحق؛ أي: وإن تضاروا {فَإِنَّهُ} ؛ أي: فإن الضرار {فُسُوقٌ} ؛ أي: خروج عن الطاعة ومأثم ملتبس {بِكُمْ} ولاحق بكم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ؛ أي: خافوا عقاب الله، واحذروه فيما نهاكم عنه من المضارة وغيرها، أو المعنى: واتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما يكون إرشادًا واحتياطًا لكم في أمر الدنيا، كما يعلمكم ما يكون إرشادًا لكم في أمر الدين {وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {بِكُلِّ شَيْءٍ} من مصالح الدنيا والآخرة {عَلِيمٌ} ، فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم. وكرر لفظة (1) {اللَّهُ} في الجمل الثلاث لاستقلالها؛ فإن الأولى: حث على التقوى، والثانية: وعد بإنعامه، والثالثة: تعظيم لشأنه؛ ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية، وهذا آخر آية الدين، وقد حث الله سبحانه وتعالى فيها على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سببًا لمصالح المعاش والمعاد.

‌283

- و {على} في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} بمعنى: في، أو بمعنى: إلى؛ أي: وإن كنتم مسافرين، أو متوجهين إلى السفر، وتعاملتم بالمداينة {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} أو آلة الكتابة في سفركم {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}؛ أي: فالوثيقة رهان مقبوضة، أو فرهان مقبوضة بدل من الشاهدين والكتابة، أو فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه. قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما ثبت في "الصحيحين": أنه صلى الله عليه وآله وسلم: رهن درعا له من يهودي.

وقرأ الجمهور (2): {كَاتِبًا} بالإفراد. وقرأ أُبيٌّ ومجاهد وأبو العالية شذوذًا: {كتابًا} على أنه مصدر، أو جمع كاتب كصاحب وصحاب، ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة، ونفي الكتابة يقتضي أيضًا نفي الكتب.

(1) البيضاوي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 129

وقرأ ابن عباس والضحاك شذوذًا أيضًا: {كُتّابا} على الجمع اعتبارًا بأن كل نازلة لها كاتب. وروي عن أبي العالية شذوذًا أيضًا: {كُتبًا} جمع كتاب، وجمع اعتبارًا بالنوازل أيضًا.

وقرأ الجمهور: {فَرِهَانٌ} جمع رهن، نحو كَعْب وكِعَاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {فرُهُن} بضم الراء والهاء. وروي عنهما شذوذًا تسكين الهاء. وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما.

والرهن لغة (1): الثبوت والدوام، يقال: رهن الشيء إذا دام وثبت. وشرعًا: ما وضع عند الإنسان مما ينوب مناب ما أخذ منه دينًا، يُستوفى منه الدين عند تعذر الوفاء. واتفق العلماء على جواز الرهن في الحضر والسفر جميعًا، ومع وجود الكاتب وعدمه، والظاهر من قوله:{مَقْبُوضَةٌ} اشتراط القبض. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله مِثلًا.

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ؛ أي: فإن أمن الدائن فاستغنى عن الرهن ثقة بأمانة صاحبه {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ} ؛ أي: فليدفع المدين الذي اؤتمن على الدين {أَمَانَتَهُ} ؛ أي: حق صاحبه.

وحاصل المعنى: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن .. فليؤدِ الغريم أمانته؛ أي: ما ائتمنه عليه رب المال. وقرأ أُبي شذوذًا: {فإن أُومن} رباعيًّا مبنيًّا للمفعول؛ أي؛ آمِنه الناس، هكذا نقل عن أُبيّ هذه القراءة الزمخشري، وقال السجاوندي: وقرأ أُبي شذوذًا: {فإن ائتمن} افتعل من الأمن؛ أي: وثق بلا وثيقة صك ولا رهن. وقرأ ابن محيصن وورش بإبدال الهمزة ياء، كما أبدلت في بئر وذئب، وذلك شذوذًا أيضًا.

وأصل هذا الفعل: اؤتمن بهمزتين الأولى: همزة الوصل، وهي مضمومة والثانية: فاء الكلمة، وهي ساكنة. وقرأ عاصم في شاذِّه:{اللذتيمن} بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسًا على أشر في الافتعال من اليسر، ذكره أبو حيان في

(1) الخازن.

ص: 130

"البحر". {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} ؛ أي: وليخشَ المدين ربه في أداء الدين عند حلول الأجل من غير مماطلة ولا إنكار، بل يعامل الدائن معاملة حسنةً، كما أحسن هو ظنه فيه {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} عند الحكم إذا دعيتم إلى أدائها بإنكار العلم بتلك الواقعة، أو بالامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وفي "الجمل": الخطاب للشهود والمديونين، وشهادة المديونين على أنفسهم: إقرارهم واعترافهم بالدين. وقرأ السلمي شذوذًا: {ولا يكتموا} بالياء على الغيبة. {وَمَنْ يَكْتُمْهَا} ؛ أي: الشهادة {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} ؛ أي: فاجر قلبه؛ لأن كتم الشهادة من معارض القلب؛ لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به، وهو من التعبير بالبعض عن الكل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلحتْ صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب".

{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشهادة وإقامتها، ومن الخيانة في الأمانة وعدمها {عَلِيمٌ} فيجازيكم على ذلك إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. وقرأ السلمي شذوذًا:{بما يعملون} بالياء جريًا على قراءته الشاذة: {ولا يكتموا} بالياء على الغيبة.

الإعراب

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} .

{يَا} : حرف نداء، أيُّ: منادى نكرة مقصودة ها: حرف تنبيه زائد. {الَّذِينَ} : اسم موصول في محل الرفع صفة لـ {أيُّ} ، وجملة النداء مستأنفة. {آمَنُوا}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. {إِذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان، والظرف متعلق بالجواب الآتي. {تَدَايَنْتُمْ}: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها على كونها فعل شرط لها:{بِدَيْنٍ} : جار ومجرور متعلق بـ {تَدَايَنْتُمْ} {إِلَى أَجَلٍ} : جار ومجرور متعلق بـ {تَدَايَنْتُمْ} ، أو متعلق بمحذوف صفة لـ {دين} تقديره: مؤجل إلى أجل. {مُسَمًّى} : صفة لـ {أَجَلٍ} . {فَاكْتُبُوهُ} الفاء رابطة لجواب {إِذَا} وجوبًا {اكتبوه} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب {إِذَا} لا محل لها من الإعراب، وجملة {إِذَا} جواب

ص: 131

النداء لا محل لها من الإعراب.

{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} .

{وَلْيَكْتُبْ} الواو: عاطفة، اللام: لام أمر وجزم، مبني على السكون؛ لوقوعها بعد الواو. {يكتب}: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر {بَيْنَكُمْ} : ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {يكتب} : {كَاتِبٌ} : فاعل، والجملة معطوفة على جملة {فَاكْتُبُوهُ} {بِالْعَدْلِ}: متعلق بقوله: {وَلْيَكْتُبْ} ؛ أي: وليكتب كاتب بالعدل، وهذه الجملة مبيِّنة لكيفية الكتابة المأمور بها أولًا ومعينة لمن يتولَّاها إثر الأمر بها إجمالًا، وذكر البَيْن للإيذان بأن الكاتب ينبغي له أن يتوسط في المجلس بين المتداينين.

{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} .

{وَلَا} {الواو} : استئنافية، {لا}: ناهية جازمة. {يَأْبَ كَاتِبٌ} : فعل وفاعل مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {أَنْ يَكْتُبَ}: فعل وناصب، وفاعله ضمير يعود على {كَاتِبٌ} ، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا يأب كاتب كتابته. {كَمَا} : {الكاف} حرف جر وتعليل {ما} مصدرية. {عَلَّمَهُ اللَّهُ} : فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: كتابة الوثائق، والجملة صلة {ما} المصدريةُ، {ما} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بكاف التعليل تقديره: لتعليم الله إياه كتابة الوثائق، الجار والمجرور متعلق بقوله:{وَلَا يَأْبَ} ؛ أي: يحرم عليه الإباء والامتناع من الكتابة؛ لأجل تعليم الله تعالى إياه إياها، ويحتمل أن تكون {ما} موصولة، أو موصوفة، وجملة {عَلَّمَهُ اللَّهُ} صلة لـ {ما} ، أو صفة لها، والضمير في {عَلَّمَهُ} عائد على {ما} والكاف صفة لمصدر محذوف تقديره: ولا يأب كاتب أن يكتب كتابًا مثل الكتاب الذي علَّمه الله في كتابة الوثائق.

{فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} .

{فَلْيَكْتُبْ} : {الفاء} عاطفة، {اللام} لام أمر وجزم. {يكتب}:

ص: 132

مجزوم بها، وفاعله ضمير يعود على {كَاتِبٌ} ، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} مؤكِّدة لها، أو معطوفة على جملة قوله؛ {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} مؤكِّدة للأمر اللازم للنهي. {وَلْيُمْلِلِ}:{الواو} : عاطفة، اللام: لام الأمر. {يملل} : مجزوم بها. {الَّذِي} : فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله:{فَلْيَكْتُبْ} . {عَلَيْهِ الْحَقُّ} : مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول، والعائد الضمير المجرور. {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}:{الواو} : عاطفة، اللام: لام الأمر {يتقِ الله} : فعل ومفعول مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلْيُمْلِلِ} . {رَبَّهُ} : بدل من لفظ الجلالة ومضاف إليه. {وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} : {الواو} : عاطفة {لا} : نافية جازمة. {يَبْخَسْ} : مجزوم بـ {لا} الناهية، وفاعله ضمير يعود على:{الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلْيُمْلِلِ} . {مِنْهُ} : جار ومجرور. إما متعلق بـ {يَبْخَسْ} ، و {مِنْ} لابتداء الغاية، والضمير للحق، ويجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقًا بمحذوف حال من شيئًا؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة، فلما قدم عليها .. نصب حالًا {شَيْئًا}: مفعول به لـ {يَبْخَسْ} ، أو منصوب على المفعولية المطلقة لـ {يَبْخَسْ}؛ أي: ولا يبخس منه بخسًا شيئًا.

{فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} .

{فَإِنْ} {الفاء} : فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره إذا عرفت حكم ما إذا كان المدين رشيدًا كاملًا، وأردت بيان حكم ما إذا كان سفيهًا أو ضعيفًا .. فأقول لك {إن كان}:{إن} : حرف شرط جازم {كاَنَ} : فعل ماضٍ ناقص في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {الَّذِي} : اسم موصول في محل الرفع اسم كان. {عَلَيْهِ الْحَقُّ} مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. {سَفِيهًا}: خبر كان {أَوْ ضَعِيفًا} : معطوف على {سَفِيهًا} . {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ} : {أَوْ} : حرف عطف وتنويع. {لَا} : نافية

ص: 133

{يَسْتَطِيعُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، والجملة في محل النصب معطوفة على {سَفِيهًا} على كونها خبرًا لـ {كاَنَ} تقديره: فان كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو غير مستطيع. {أَنْ يُمِلَّ هُوَ} ؛ {أَن} : حرف نصب ومصدر. {يُمِلَّ} : فعل مضارع منصوب بـ {أَن} ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازًا تقديره: هو، يعود على {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، {هُوَ}: توكيد للضمير المستتر في {يُمِلَّ} ، وجملة {يُمِلَّ} صلة أَن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ {يستطيع} تقديره: أو لا يستطيع الإملال. {فَلْيُمْلِلْ} : الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا لكون الجوب جملة طلبية. {اللام} : لام أمر وجزم {يملل وليه} : فعل وفاعل ومضاف إليه، مجزوم بلام الأمر. {بِالْعَدْلِ} متعلق بـ {يملل} ، وجملة {يملل} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لا محل لها من الإعراب.

{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} .

{وَاسْتَشْهِدُوا} {الواو} : عاطفة. {استشهدوا شهيدين} : فعل وفاعل ومفعول به {مِنْ رِجَالِكُمْ} ، صفة لـ {شَهِيدَيْنِ} ، أو متعلق بـ {استشهدوا} ، والجملة الفعلية معطوفة على جملة قوله:{فَاكْتُبُوهُ} في أول الآية {فَإِنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت أنه يستشهد الرجلان إن وجدا، وأردت بيان حكم ما إذا لم يوجدا .. فأقول لك:{إن لم يكونا} : {إن} ): حرف شرط، {لَمْ}: حرف نفي وجزم. {يَكُونَا} : فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لم} ، والألف اسمها، {رَجُلَيْنِ}: خبرها، والجملة في محل الجزم بـ {إن} على كونها فعل شرط لها. {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية، {رجل}: مبتدأ، {وَامْرَأَتَانِ}: معطوف عليه، والخبر محذوف جوازًا تقديره: فرجل وامرأتان

ص: 134

يشهدون، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}:{مِمَّنْ} : جار ومجرور صفة لـ {رجل وامرأتين} ، وهذا الشرط (1)، وإن كان مشترطًا في الرجُلين أيضًا بالأحاديث والآيات الأخَر كآية:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، لكن اقتصر على التنصيص عليه في جانب الرجل والمرأتين؛ لقلة اتصاف النساء به غالبًا. وقيل: هو متعلق بـ {استشهدوا} المتعلق بالصورتين، {تَرْضَوْنَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره ممن ترضونه، {مِنَ الشُّهَدَاءِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من العائد المحذوف في {تَرْضَوْنَ} تقديرهُ: ممن ترضونه حال كونه بعض الشهداء.

{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} .

{أَنْ} : حرف نصب ومصدر. {تَضِلَّ} : فعل مضارع منصوب بـ {أَن} . {إِحْدَاهُمَا} : فاعل ومضاف إليه، {فَتُذَكِّرَ}: الفاء عاطفة. {تذكر} : معطوف على {تَضِلَّ} . {إِحْدَاهُمَا} : فاعل ومضاف إليه. {الْأُخْرَى} : مفعول به، وجملة {تَضِلَّ} من الفعل والفاعل صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما اشترط تعدد النساء؛ لأجل تذكير إحداهما الأخرى إذا ضلت ونسيت تلك الأخرى، والمعول عليه في التعليل: التذكير؛ لأنه المقصود من الجملة، ولكن لما كان الإضلال سببًا فيه .. قدم عليه؛ كقولهم: أعددتُ الخشبة أن يميل الجدار، فأدعمه بها. فالإدعام علة في إعداد الخشبة، والميل علة الإدعام.

{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .

{وَلَا} {الواو} : استئنافية {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} : فعل وفاعل وجازم، ومفعوله محذوف تقديره: إقامة الشهادة، والجملة مستأنفة {إِذَا}: ظرف مجرد

(1) الجمل.

ص: 135

عن معنى الشرط. {مَا} : زائدة {دُعُوا} : فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة {إِذَا} إليها، والظرف متعلق بقوله:{وَلَا يَأْبَ} تقديره: ولا يأب الشهداء، ويمتنع من إقامة الشهادة وقت دعائهم إليها.

{وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} .

{وَلَا} {الواو} : عاطفة. {وَلَا تَسْأَمُوا} : فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ} . {أَنْ تَكْتُبُوهُ} : فعل وفاعل ومفعول وناصب، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ولا تسأموا كتابته. {صَغِيرًا} : حال من ضمير المفعول. {أَوْ كَبِيرًا} : معطوف عليه. {إِلَى أَجَلِهِ} : جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من الهاء في تكتبوه تقديره: حالة كونه مستقرًا في الذمة إلى حلول أجله، أو متعلق بـ {تَكْتُبُوهُ} .

{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} .

{ذَلِكُمْ} : مبتدأ، {أَقْسَطُ}: خبر، والجملة مستأنفة. {عِنْدَ اللَّهِ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {أَقْسَطُ} ؛ لأن اسم التفضيل يعمل في الظروف والمجرورات. {وَأَقْوَمُ} : معطوف على {أَقْسَطُ} . {لِلشَّهَادَةِ} : متعلق به. {وَأَدْنَى} : معطوف على {أَقْسَطُ} . {أَلَّا تَرْتَابُوا} {أن} : حرف نصب ومصدر {لا} : نافية {تَرْتَابُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة {أن} المصدرية، {أن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإلى المقدَّرة المتعلِّقة بأدنى تقديره: وأدنى وأقرب إلى عدم ارتيابهم في جنس الدين ونوعه وقدره وشهوده.

{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} .

{إِلَّا} : أداة استثناء من عام الأحوال. {أَنْ تَكُونَ} : {أَن} حرف نصب {تَكُونَ} : فعل مضارع ناقص منصوب بـ {أَن} ، واسمها ضمير يعود على المعاملة {تِجَارَةً}: خبرها منصوب. {حَاضِرَةً} : صفة لـ {تِجَارَةً} ، وجملة

ص: 136

{تَكُونَ} من اسمها وخبرا صلة {أَن} المصدرية، {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقديره: ولا تسأموا كتابته في جميع الأحوال إلا حالة كون المعاملة تجارة حاضرة. {تُدِيرُونَهَا} : فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ {تِجَارَةً} ، ولكنها سببية، {بَيْنَكُمْ} ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {تديرونها} {فَلَيْسَ}: الفاء تعليلية، {ليس}: فعل ماضٍ ناقص {عَلَيْكُمْ} : خبر مقدم لـ {ليس} ، {جناح}: اسمها مؤخر، وجملة {ليس} في محل الجر بلام التعليل المقدرة المتعلقة بمعلول محذوف تقديره: وإنما استثنينا تجارة حاضرة لعدم ثبوت الجناح عليكم في عدم كتابتها، وإنما جعلنا الفاء تعليلية؛ لأن الفاء بعد الاستثناء للتعليل غالبًا. وفي "الجمل": أنها عاطفة. ولا معنى للعطف هنا. {أَلَّا تَكْتُبُوهَا} : {أن} : حرف نصب {لا} : نافية {تَكْتُبُوهَا} : فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ {أن} ، وجملة {أن} المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ {في} المحذوفة تقديره: فليس عليكم جناح في عدم كتابتها، والجار المقدر متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر {ليس} .

{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} .

{وَأَشْهِدُوا} {الواو} : استئنافية. {أشهدوا} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. {إذَا}: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. {تَبَايَعْتُمْ} : فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه، والظرف متعلق بـ {أشهدوا}؛ أي: وأشهدوا وقت مبايعتكم. {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ} الواو عاطفة، أو استئنافية. {لا}: نافية {يُضَارَّ كَاتِبٌ} : فعل وفاعل، أو فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله:{وَأَشْهِدُوا} {وَلَا شَهِيدٌ} : معطوف على {كَاتِبٌ} : {وَإِنْ تَفْعَلُوا} الواو استئنافية، {إن}: حرف شرط جازم. {تَفْعَلُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {إن} . {فَإِنَّهُ} : الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية {إِنَّهُ} : حرف نصب وتوكيد، والهاء اسمها. {فُسُوقٌ}: خبرها. {بِكُمْ} : جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة

ص: 137

لـ {فُسُوقٌ} : تقديره: فسوق لاحق بكم، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)} .

{وَاتَّقُوا اللَّهَ} {الواو} استئنافية. {اتقوا الله} ؛ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} الواو استئنافية. {يعلمكم الله}: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: مصالح أموركم. والجملة مستأنفة. {وَاللَّهُ} : مبتدأ. {بِكُلِّ شَيْءٍ} : جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {عَلِيمٌ}. {عَلِيمٌ}: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} .

{وَإِنْ} {الواو} : استئنافية. {إن} : حرف شرط جازم {كُنْتُمْ} : فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إن} الشرطية. {عَلَى سَفَرٍ}: جار ومجرور خبر {كان} ، {وَلَمْ تَجِدُوا}: الواو عاطفة. {لم تجدوا} : فعل وفاعل وجازم، والجملة معطوفة على جملة الشرط {كَاتِبًا}: مفعول به؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب، يتعدى لمفعول واحد. وفي "الفتوحات": في هذه الجملة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها عطف على فعل الشرط؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا. فتكون في محل جزم تقديرًا.

والثاني: أن تكون معطوفة على خبر كان؛ أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا.

والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محل نصب. اهـ "سمين". {فَرِهَانٌ}: الفاء رابطة لجواب {إن} الشرطية {رِهَانٌ} : مبتدأ، {مَقْبُوضَةٌ} صفةٌ له، والخبر محذوف تقديره: وثيقة لدَينكم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة.

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

ص: 138

{فَإِنْ} الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا كنتم على سفر، ولم تجدوا كاتبًا، ولم يأمن بعضكم بعضًا، وأردتم بيان حكم ما إذا أمن بعضكم بعضًا .. فأقول لكم:{إن أمن بعضكم} : إن: حرف شرط {أَمِنَ بَعْضُكُمْ} : فعل وفاعل ومضاف إليه، في محل الجزم بـ {إن} على كونه فعل شرط لها. {بَعْضًا}: مفعول به، {فَلْيُؤَدِّ}: الفاء رابطة لجواب الشرط، اللام: لام أمر وجزم، {يؤدِ الذي}: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. {اؤْتُمِنَ}: فعل ماضٍ مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير النائب {أَمَانَتَهُ}: مفعول به، لـ {يؤد} ، وهو مضاف، والهاء مضاف إليه.

{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .

{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} : الواو عاطفة، واللام لام الأمر، {يتقِ الله}: فعل ومفعول به، مجزوم بلام الأمر، وفاعله ضمير يعود على {الَّذِي اؤْتُمِنَ}. {رَبَّهُ}: بدل من لفظ الجلالة، ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة قوله:{فَلْيُؤَدِّ} على كونها جوابًا لـ {إن} الشرطية. {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} : الواو استئنافية. لا: ناهية {تكتموا الشهادة} : فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ {لا} الناهية، والجملة مستأنفة. {وَمَن}: الواو عاطفة {من} : اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. {يَكْتُمْهَا}: فعل ومفعول به مجزوم بـ {من} على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على {من} ، {فَإِنَّهُ}: الفاء رابطة لجواب {من} الشرطية، {إنّ} حرف نصب، والهاء اسمها، {آثِمٌ}: خبرها. {قَلْبُهُ} : فاعل {آثِمٌ} ، ومضاف إليه، وجملة {إنَّ} في محل الجزم بـ {من} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {من} الشرطية معطوفة على جملة قوله:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية.

ص: 139

{الله} : مبتدأ، {بِمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {عَلِيمٌ} ، وجملة {تَعْمَلُونَ} صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: تعملونه {عَلِيمٌ} : خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة

{إِذَا تَدَايَنْتُمْ} : يقال: تداين - من باب تفاعل - من الدَّين. يقال: داينت الرجل عاملته بدين معطيًا أو آخذًا؛ كما يقال: بايعته إذ بعته أو باعك. قال رؤبة:

دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُوْن تُقْضَى

فَمَطَلَتْ بَعْضًا وَأَدَّتْ بَعْضَا

{إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} : وألف {مُسَمًّى} منقلبة عن ياء؛ لأنه من التسمية، وكذا كل ألف وقعت رابعة فصاعدًا .. تكون منقلبة عن ياء ثم ينظر في أصل الياء، فالياء هنا منقلبة عن واو؛ لأنه من: سما يسمو.

{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} : هو من أبى يأبى؛ كسعى يسعى، إذا امتنع. {وَلْيُمْلِلِ}؛ أي: وليسمع {الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} : الكاتب الألفاظ التي يكتبها ويلقيها عليه، أملَّ وأملى لغتان فصيحتان معناهما واحد، الأولى: لأهل الحجاز وبني أسد، والثانية: لتميم، يقال: أمليت وأمللت على الرجل؛ أي: ألقيت عليه ما يكتبه، وأصل المادتين في اللغة: الإعادة مرة بعد أخرى، قال الشاعر:

أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيِّ بِالسَّبُعَانِ

أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ

وقيل: الأصل: أمللت، أبدل من اللام ياء؛ لأنها أخف، والإدغام في مثل ذلك جائز لا واجب، كما قال في "الخلاصة":

نَحْوِ حَلَلْتُ مَا حَلَلْتُهُ وَفي

جَزمٍ وَشِبْهِ الْجَزْمِ تَخْيِيرٌ قُفِيْ

فلذلك ترك الإدغام هنا، ويأتي الإدغام في {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} .

{وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ} : والبخس: النقص، يقال منه: بخس زيد عمرًا حقه يبخسه بخسًا إذا نقصه، وبابه: قطع، وأصله من: بخست عينه، فاستعير لبخس

ص: 140

الحق، كما قالوا: عورت حقه استعارة عن عور العين، ويقال: بخصته بالصاد، ويقال للبيع إذا كان قصدًا لا بخس فيه ولا شطط.

{وَلَا تَسْأَمُوا} : السأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه، يقال: سَئِم يسأم من باب: تعب مهموز، ويقال: سَئِمته أسأمه، وسئمت منه، وفي التنزيل:{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} فهو يتعدى بنفسه، وبواسطة حرف الجر، ومنه قول الشاعر:

سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الْحَيَاةِ وَمَنْ يَعِشْ

ثَمَانِيْنَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ

{صَغِيرًا} : الصغير اسم فاعل من صغر يصغر، ومعناه: قلة الجرم، ويستعمل في المعاني أيضًا.

{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : من أقسط الرباعي على غير قياس، وكذلك قوله:{وَأَقْوَمُ} ؛ إذ القياس أن يكون بناء أفعل التفضيل من المجرد لا من المزيد. وفي "المختار": القسوط: الجور والعدول عن الحق، وبابه: جلس، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . انتهى. والقِسط (1) بكسر القاف: العدل، يقال منه: أقسط الرجل إذا عدل، وبفتح القاف: الجور، ويقال منه: قسط الرجل إذا جار. والقسط بالكسر أيضًا النصيب.

{فَرِهَانٌ} : جمع رهن بمعنى مرهون من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، يقال: رهن يرهن رهنًا من باب فتح، والرهن: ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه.

البلاغة

وفي الآية من ضروب الفصاحة (2):

منها: التجنيس المغاير في قوله: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} ، وفي قوله: {وَلْيَكْتُبْ

(1) البحر المحيط.

(2)

البحر المحيط.

ص: 141

بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ}، وفي قوله:{وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} ، وفي قوله:{وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وفي قوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وفي قوله:{اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} .

ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا} .

ومنها: التأكيد في قوله: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} ، وفي قوله:{وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ} ، إذ يفهم من قوله {تداينتم}: الدينُ، ومن قوله {فليكتب}: الكاتبُ.

ومنها: الطباق في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ} ؛ لأن الضلال هنا بمعنى: النسيان، وفي قوله:{صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} .

ومنها: التشبيه في قوله: {أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} .

ومنها: الاختصاص في قوله: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} ، وفي قوله:{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ، وفي قوله:{أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} ، وفي قوله:{تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} .

ومنها: الإطناب في قوله: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ} ، وفي قوله:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ؛ كرر الحق للدعاء إلى اتباعه، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالًا واستعلاء.

ومنها: الإظهار في مقام الإضمار أيضًا في قوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} لزيادة الكشف والبيان، لا لأن الأمر والنهي لغيره كما ذكره أبو السعود.

ومنها: التكرار في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، وفي قوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وفائدة تكرار لفظ الجلالة في الجمل الثلاث: إدخال الروع في القلب، وتربية المهابة في النفوس، والتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله، فإن:

الأولى: حثٌّ على التقوى.

والثانية: وعد بالإنعام بالتعليم.

ص: 142

والثالثة: تعظيم لشأنه تعالى.

وفي على في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} استعارة تبعية، حيث شبَّه تمكنهم من السفر بتمكن الراكب من مركوبه، وجمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل في قوله:{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} مبالغة في التحذير.

وفي الآية أيضًا: الإيجاز بالحذف، وذلك كثيرٌ، ومن أمثلته قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} حذف متعلِّق الإيمان، وقوله:{مُسَمًّى} ؛ أي: بينكم، وقوله:{كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} ، أي: الكتابة والخط، وقوله:{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ؛ أي: ما عليه من الدين، وقوله:{وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} ؛ أي: في إملائه، إلى غير ذلك من الأمثلة المذكورة في الآية كما بيَّنها أبو حيان في "البحر".

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 143

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} .

المناسبة

قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ..} مناسبة (1) هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم .. ذكر ما انطوى عليه الضمير، فكتمه أو أبداه، فإن الله يحاسبه به، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة، ولما علق الإثم بالقلب .. ذكر هنا الأنفس فقال:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} . وناسب ذكر هذه خاتمة لهذه السورة؛ لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع: من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والصلاة والزكاة والقصاص والصيام والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والخلع والإيلاء والرضاعة والربا والبيع وكيفية المداينة، فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السموات وما في الأرض، فهو يُلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته، ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس وما تنطوي عليه من النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة .. نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخرة بقوله:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فصفة الملك تدل

(1) البحر الم

ص: 144

على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين.

قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. إلى آخر السورة، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما نزل قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ

} الآية، أشفقوا منه، ثم أمروا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، فكشف عنهم ذلك الكرب، ورفع عنهم المشقة في أمر الخواطر.

ولما كان ابتداء هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول، وإلى من قبله .. كان مختمها بذكر الكتاب، ومن آمن به؛ ليتوافق الابتداء والاختتام، وذلك من أبدع الفصاحة؛ حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، فبيَّن تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم.

أسباب النزول

قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ

} إلى آخر السورة، سبب نزولها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} الآية، قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم .. أنزل الله تعالى في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُ

ص: 145