الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ؛ أي: يحفظه الله عليكم، فيجازيكم به {و} هو سبحانه وتعالى {يعلم} جميع {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} من الخير والشر والسر والعلانية، وهذه الجملة مستأنفة وليست بمعطوفة على جواب الشرط، وهي من إتمام التحذير، يعني: أنه تعالى إذا كان لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض .. فكيف يخفى عليه حالكم، وموالاتُكم الكفار، وميلكم إليهم بقلوبكم؟.
والمعنى: أنه تعالى يعلم ما تنطوي عليه قلوبكم إذ توالون الكفار، أو توادونهم، أو تتقون منهم ما تتقون. فإن كان ذلك يميل بكم إلى الكفر .. جازاكم عليه، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان .. غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جريمة فيه على الدين، ولا على أهله، وهو إنما يجازيكم بحسب علمه المحيط بما في السموات والأرض؛ لأنه الخالق لها، كما قال:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} .
{وَاللَّهُ} سبحانه وتعالى {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} من أهل السموات والأرض وثوابهم وعقابهم {قَدِيرٌ} ؛ أي: قادر، فهو يقدر على عقوبتهم، فلا تجترئوا على عصيانه وموالاة أعدائه؛ إذ ما من معصية خفيةً كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها، قادر على عقاب فاعلها، وقدرته نافذة في جميع ذلك، وهذا (1) تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته؛ لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم، فإنه عالم بجميع أمورهم، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة، وإن أنظر مَن أنظر منهم، فإنه يمهل، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، ولهذا قال بعد هذا:
30
- {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} ؛ أي: اذكروا واحذروا عقوبته {يَوْمَ تَجِدُ} ، وتصيب كل نفس فيه جزاء ما عملته وكسبته من خير؛ وهو يوم القيامة حال كونه محضرًا؛ أي: مكتوبًا في ديوانها لم ينقص منه شيء، وتسر به. وقرأ الجمهور:{مُحْضَرًا} - بفتح الضاد - اسم مفعول، وقرأ عبيد بن عمير شذوذًا:(محضِرًا) - بكسر الضاد - اسم فاعل؛ أي: محضرًا للجنة، أو محضرًا مسرعًا به إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس إذا جرى وأسرع. {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} مبتدأ، خبره جملة قوله:
(1) ابن كثير.
{تَوَدُّ} ؛ أي: والذي عملته وكسبته نفس من سوء وعصيان حالة كونه محضرًا ومكتوبًا في ديوانها تود وتتمنى وتحب {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} ؛ أي: تتمنى كون مسافة بعيدة طويلة بينها وبين ذلك السوء خوفًا من جزائه وعقوبته، قيل: كما بين المشرق والمغرب.
فما رأى (1) من عمله حسنًا .. سرَّه ذلك، وأفرحه، وما رأى من قبيحٍ .. ساءَه وغصه وود لو أنه تبرأ منه، وكان بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان قرينًا به في الدنيا، وهو الذي جرأه على فعل السوء:{يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} ، ثم قال تعالى مؤكدًا ومهددًا ومتوعدًا:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ؛ أي: يخوفكم عقابه، والعني: احذروا من سخط الله؛ بترجيح جانب الخير وعمله على ما يزينه لكم الشيطان من عمل السوء. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وكرر هذه الجملة؛ إما للتأكيد، والأحسن ما قاله سعد الدين التفتازاني: إن ذكره أولًا للمنع من موالاة الكافرين، وثانيًا للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر، ثم قال جل جلاله مرجيًا لعباده؛ لئلا ييئسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه:{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ؛ أي: شديد الرحمة بهم؛ حيث قطع عذرهم ببيان ذلك في زمن يسع التوبة والرجوع إليه فيه، ومن جملة رأفته بهم: كثرة التكرار والتأكيد في الكلام؛ لعله يصل إلى قلوب السامعين، فيعملوا بمقتضاه.
قال الحسن البصري: ومن رأفته أن حذرهم نفسه، وعرفهم كمال علمه وقدرته؛ لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة .. دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. انتهى.
ومن رأفته أيضًا أن جعل الفطرة الإنسانية ميَّالةً بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يعرض لها من الشر، وأن جعل أثر الشرِّ في النفس قابلًا للمحو بالتوبة والعمل الصالح.
(1) ابن كثير.