المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لي ولدًا في غير حينه مع الكبر، وطمع في الولد، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لي ولدًا في غير حينه مع الكبر، وطمع في الولد،

لي ولدًا في غير حينه مع الكبر، وطمع في الولد، وذلك أن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد كبر وشاخ، وأيس من الولد، فذلك قوله عز وجل:

‌38

- {هُنَالِكَ} ؛ أي: في ذلك المكان الذي كان قاعدًا فيه عند مريم، وشاهد تلك الكرامات، أو في ذلك الوقت الذي رأى فيه خوارق العادات عندها {دَعَا} وسأل {زَكَرِيَّا رَبَّهُ} ، سبحانه وتعالى جوف الليل و {قَالَ} في مناجاته يا {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ}؛ أي: أعطني من عندك وبمحض قدرتك من غير سبب معتاد {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ؛ أي: ولدًا مباركًا تقيًّا صالحًا رضيًّا، كما وهبت لحنة العجوز العاقر مريم، وكان شيخًا كبيرًا، وامرأته عجوزًا عاقرًا، فإنه لما رأى حسن حال مريم ومعرفتها باللهِ .. تمنى أن يكون له ولد صالح مثلها هبة وفضلًا من عنده، فرؤية الأولاد النجباء مما تشوق نفوس الناظرين إليهم، وتجعلهم يتمنون أن يكون لهم مثلهم، والذرية تطلق على الواحد والجمع، والذكر والأنثى، والمراد بها هنا: الواحد، وإنما قال:{طَيِّبَةً} لتأنيث لفظ الذرية {إِنَّكَ} يا إلهي {سَمِيعُ الدُّعَاءِ} ، سماع قبول؛ أي: سامع دعاء من دعاه ومجيبه، وهذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط؛ لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر، وهو حكمة قوله تعالى:{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} ، فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءَه، وبعث إليه الملائكة مبشرين له

‌39

- {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)} [آل عمران: 39]{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} ؛ أي: نادى زكريا جبريل، كما قال به جمهور من المفسرين؛ كابن جرير عن السدي، وإنما أخبر عنه بلفظ الجمع تعظيمًا لشأنه، ولأنه رئيس الملائكة، وقلَّ أن يبعث إلا ومعه جمع من الملائكة، أو نادته جماعة من الملائكة؛ كما يروى عن ابن جرير مع جماعة آخرين، إذ لا ضرورة تدعو إلى التأويل، وبهذا القول قال قتادة وعكرمة ومجاهد، قيل: نادته بعد مضي أربعين سنة من دعوته.

وقرأ حمزة والكسائي: {فناداه} بالإمالة والتذكير، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود، وقرأ الباقون:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} . {وَهُوَ} ؛ أي: والحال أن زكريا {قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} ؛ أي: قائم في الموضع العالي الشريف من المسجد مصليًّا، والمحراب موقف الإِمام من المسجد، والظاهر أن المحراب هو

ص: 282

المحراب المذكور في قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} ، وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم، وقيل: المراد بالصلاة هنا: الدعاء، وفيه أيضًا دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات، وفيه إجابة الدعوات وقضاء الحاجات، وقال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب. {أنَّ اللَّهَ} تعالى {يُبَشِّرُكِ} بولادة ولد يسمى {بِيَحْيَى} منك ومن امرأتك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: تَسمَّى يحيى؛ لأن الله أحيا به عقر أمه، وقيل: لأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وقيل: لأن الله تعالى أحياه بالطاعة حتى لم يهتم بمعصية قط. روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون، فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خُلقت.

وقرأ ابن عامر وحمزة: {إنَّ} بكسر الهمزة على تأويل النداء بالقول، وقرأ الباقون:{أن} بفتح الهمزة على تقدير: بأن، وقرأ الجمهور:{يُبَشِركَ} بالتشديد وقرأ حمزة والكسائي {يَبْشُرك} ، وفي "المختار": بَشَره بالتخفيف من البشرى، وبابه نصر ودخل. وقرأ حميد بن قيس المكي شذوذًا:{يُبشِرك} بكسر الشين مع ضم حرف المضارعة، قال الأخفش: هي ثلاثة لغات بمعنى واحد، وقرأ عبد الله بن مسعود في رواية شاذة:{يا زكريا إن الله} .

حالة كون يحيى {مُصَدِّقًا} ومؤمنا بعيسى ابن مريم المخلوق بلا واسطة أب، بل {بِكَلِمَةٍ} كن الواقعة {مِنَ اللَّهِ} سبحانه وتعالى، لا بالسنة العامة في توالد البشر، وهي أن يكون الولد من أب وأم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن يحيى كان أكبر سنًّا من عيسى بستة أشهر، وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة لله، ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى بمدة يسيرة. {و} حالة كون يحيى {سيدًا}؛ أي: رئيسًا يسود ويفوق قومه، والناس جميعًا في الشرف والصلاح وعمل الخير، وفي العلم والحلم والورع، وقال ابن عباس: أي: حليمًا عن الجهل. وقال مجاهد: كريمًا على الله {و} حالة كونه {حصورًا} ؛ أي: مانعًا نفسه من النساء للعفة والزهد، لا للعجز عنها {و} حالة كونه {نبيًّا} مرسلًا يوحى إليه إذا هو بلغ سن النبوة، وحالة كونه ناشئًا {مِّنَ}

ص: 283