المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ففيه إشارة إلى كمال علمه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ففيه إشارة إلى كمال علمه

خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، ففيه إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات، فينزل لعباده من الكتب ما فيه صلاحهم إذا أقاموه، ويعلم سرهم وجهرهم، فلا يخفى عليه حال الصادق في إيمانه ولا حال الكافر ولا حال من استبطن النفاق وأظهر الإيمان، ولا حال من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وفي التعبير بعدم خفاء شيء عليه إشارة إلى أن علمه لا يوازن علم المخلوقين، بل هو الغاية في الوضوح وعدم الخفاء.

وعبر (1) عن الكون بالأرض والسماء؛ إذ الحس لا يتجاوزهما وإنما قدم الأرض ترقيًّا من الأدنى إلى الأعلى؛ ولأن المقصود بالذكر ما اقترف فيها، فهو كالدليل على كونه حيًّا.

‌6

- و {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} ؛ أي: يخلقكم في أرحام أمهاتكم {كَيْفَ يَشَاءُ} ويجعلكم على صور مختلفة متغايرة، وأنتم في الأرحام من النطف إلى العلق إلى المضغ، ومن ذكورة وأنوثة، ومن حسن وقبح، ومن طول وقصر، ومن سعادة وشقاوة، ومن بياض وسواد، وكمال ونقصان. والمعنى: هو الذي يصوركم في ظلمات الأرحام صورًا مختلفة في الشكل والطبع، وذلك من نطفة، وكل هذا على أتم ما يكون دِقَّة ونظامًا. ومستحيل أن يكون هذا من قبيل الاتفاق والمصادفة، بل هو من صنع عليم خبير بالدقائق، وهذه الجملة كالدليل على القيومية. وقرىء شذوذًا (2):"تصوَّركم"، أي: صوَّركم لنفسِه وعبادته، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملك بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون

(1) البيضاوي.

(2)

البيضاوي.

ص: 176

بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها". متفق عليه.

وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وكل الله بالرحم ملكًا، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فكتب له ذلك في بطن أمه". متفق عليه.

وقيل (1): إن هذه الآية واردة في الرد على النصارى، وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى بأمرين: بالعلم، والقدرة. فإن عيسى كان يخبر عن الغيوب، فيقول لهذا: أنت أكلت في دارك كذا، ووضعت في دارك كذا، وكان يحيي الموتى، ويبرِىء الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، ثم إنه تعالى استدل على بطلان قولهم في إلهية عيسى، وفي التثليث بقوله تعالى:{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فالإله يجب أن يكون حيًّا قيومًا، وعيسى لم يكن كذلك، فيلزم القطع بأنه لم يكن إلهًا، ولما قالوا إن عيسى أخبر عن الغيوب .. فوجب أن يكون إلهًا ردَّ عليهم بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} والمعنى: لا يلزم من كونه عالمًا ببعض المغيبات أن يكون إلهًا؛ لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى ذلك، ولما قالوا: إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلهًا ردَّ الله عليهم بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} والمعنى: إن حصول الإحياء على وفق قول عيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارًا لمعجزته وإكرامًا له.

ولما قالوا: أنتم أيها المسلمون توافقونا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر، فوجب أن يكون ابنًا لله .. أجاب الله تعالى عن ذلك أيضًا بقوله: {هُوَ

(1) المراح.

ص: 177

الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن هذا التصوير إذا كان من الله تعالى إن شاء صوَّره من نطفة الأب، وإن شاء صوَّره ابتداء من غير أب، ولما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله؟ أجاب الله عن ذلك: بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات، فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله، ولا بابن الإله، وأما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} .. فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ} جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه؛ لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه على زعم النصارى، فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلهًا، وهو جواب أيضًا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر .. وجب أن يكون ابنًا لله، فكأنه تعالى يقول: كيف يكون عيسى ولدًا لله وقد صوَّرهُ في الرحم والمصور لا يكون أبًا للمصور؟.

وأما قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ

} إلى آخر الآيات .. فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم .. أعاد كلمة التوحيد زجرًا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال:

{لَا إِلَهَ} ؛ أي: لا معبود موجود {إِلَّا هُوَ} ولا رب سواه منفرد بالألوهية والربوبية {الْعَزِيزُ} في ملكه {الْحَكِيمُ} في صنعه، فهو المنفرد بالإيجاد والتصوير، العزيز الذي لا يغلب على ما قضى به علمه، وتعلقت به إرادته، الحكيم المنزه عن العبث، فهو يوجد الأشياء على مقتضى الحكمة ومن ثَمَّ خلقكم على هذا النمط البديع الذي لا يتصور ما هو أدق منه وأحكم كما قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان.

فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهذا

ص: 178