المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة آل عمران - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: ‌سورة آل عمران

‌سورة آل عمران

مدنية، ومما يدل (1) على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نصارى نجران، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة، كما سيأتي بيان ذلك عند تفسير آية المباهلة منها.

وآياتها: مئتان باتفاق العادِّين. وكلماتها: ثلاث آلاف وأربع مئة وستون كلمة. وحروفها: أربعة عشر ألفًا وخمس مئة وخمس وعشرون حرفًا.

المناسبة: ومناسبة (2) هذه السورة لما قبلها واضحة؛ لأنه لما ذكر آخر البقرة: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .. ناسب أن يذكر نصره تعالى على الكافرين؛ حيث ناظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردَّ عليهم بالبراهين الساطعة والحجج القاطعة، فقص تعالى أحوالهم، وردَّ عليهم في اعتقادهم، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون، وبداءةَ خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردَّ عليهم.

ولما كان مفتتح آية آخر البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} فكان في ذلك الإيمان بالله وبالكتب .. ناسب ذكر أوصاف الله تعالى، وذكر ما أنزل على رسوله، وذكر المنزل على غيره صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهم.

وذكر المراغي (3) في وجه مناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها خمسة أوجه:

الأول منها: أن كلًّا منهما بدىء بذكر الكتاب وحال الناس في الاهتداء، فقد ذكر في الأولى من آمن به ومن لم يؤمن به والمذبذبين بين ذلك، وفي الثانية

(1) شوكاني وابن كثير.

(2)

أبو حيان.

(3)

المراغي.

ص: 166

طائفة الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وطائفة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ويقولون: كلّ من عند ربنا.

والثاني منها: أن في الأولى تذكيرًا بخلق آدم، وفي الثانية تذكيرًا بخلق عيسى، وتشبيه الثاني بالأول في أنه جرى على غير سنة سابقة في الخلق.

والثالث منها: أن في كل منهما محاجَّة لأهل الكتاب، لكن في الأولى إسهاب في محاجة اليهود واختصار في محاجة النصارى، وفي الثانية عكس هذا؛ لأن النصارى متأخرون في الوجود عن اليهود، فليكن الحديث معهم تاليًا في المرتبة للحديث الأول.

والرابع منها: أن في آخر كلٍّ منهما دعاء إلا أن الدعاء في الأولى ينحو نحو طلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها ورفع التكليف بما لا يطاق، وهذا مما يناسب بداءة الدين، والدعاء في الثانية يرمي إلى قبول دعوة الدين، وطلب الجزاء على ذلك في الآخرة.

والخامس منها: أن الثانية ختمت بما يناسب بدء الأولى؛ كأنها مُتَمِّمة لها؛ فبُدئت الأولى بإثبات الفلاح للمتقين، وختمت هذه بقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

فائدة: قال محمَّد بن حزم في كتابه "الناسخ والمنسوخ"(1): سورة آل عمران كلها محكمة إلا خمس آيات:

الأولى منها: قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} فإنها منسوخة وناسخها آية السيف في سورة التوبة: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} .

والثانية والثالثة والرابعة: قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} فهذه ثلاثة آيات نزلت في ستة رهط ارتدوا عن الإِسلام بعد أن أظهروا الإيمان، ثم استثنى واحدًا من الستة وهو سويد بن الصامت، فقال:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} فهذه - أعني آية الاستثناء -

(1) الناسخ والمنسوخ.

ص: 167

ناسخة لتلك الثلاث.

والخامسة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} لما نزلت .. لم يعلم ما تأويلها، فقالوا يا رسول الله، ما حق تقاته؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يكفر" فقالوا: يا رسول الله، ومَنْ يطيق ذلك؟ فانزعجوا لنزولها انزعاجًا عظيمًا، ثم أنزل الله بعد مدة يسيرة آية تؤكد حكمها، وهي قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} في سورة الحج، فكانت هذه أعظم عليهم من الأولى، ومعناها: اعملوا لله حق عمله، فكادت عقولهم تذهل، فلما علم الله ما قد نزل بهم في هذا الأمر العسير .. خفف فنسخها بالآية التي في التغابن، وهي قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وهي مدنية، فكان هذا تيسيرًا من التعسير الأول وتخفيفًا من التشديد الأول انتهى.

ومما ورد في فضلها وفضل البقرة: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة". قال معاوية بن سلام: من رواته بلغني أن البطلة: السحرة.

وروى مسلم أيضًا: عن النواس بن السمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تَقْدُمه سورة البقرة وآل عمران". وضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعدُ. قال "لأنهما غمامتان أو ظلَّتان سودوان بينهما شرق - أي: ضوء - أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما".

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 168

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} .

المناسبة

المناسبة بين هذه الآيات وبين السورة السابقة: فقد مرَّ بيانها آنفًا، فلا عود.

أسباب النزول

فقد روى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر أن هذه الآيات وما بعدها إلى نحو ثمانين آية نزلت في نصارى نجران، إذ وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا نحو ستين راكبًا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ثلاثة منهم أكابرهم: عبد المسيح أميرهم، والأيهم مشيرهم، وأبو حارثة بن علقمة حبرهم. فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصموه، فتكلم منهم أولئك الثلاثة معه صلى الله عليه وسلم، فقالوا تارة: عيسى هو الله؛ لأنه كان يحي الموتى، وتارة هو ابن الله؛ إذ ليس له أب، وتارة إنه ثالث ثلاثة؛ لقوله تعالى: فعلنا وقلنا، ولو كان واحدًا لقال: فعلتُ وقلتُ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت، وأن عيسى يموت"؟ قالوا: بلى، قال:"ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه"؟ قالوا: بلى، قال:"ألستم تعلمون أن ربنا قائم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه، فهل يملك عيسى شيئًا"

ص: 169