المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأَنَّوا؛ لعله أن يظهر - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأَنَّوا؛ لعله أن يظهر

مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأَنَّوا؛ لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي.

قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} هذه (1)، والتي في النور في قوله:{والخامسة أن لعنت الله عليه} ، يكتبان بالتاء المبسوطة، وما عداهما بالهاء على الأصل.

‌62

- {إنَّ هَذَا} المذكور الذي ذكرته لك يا محمَّد من الدلائل التي دلت على أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولم يكن إلهًا، ولا ولده، ولا شريكه، ومن الدعاء إلى المباهلة مع وفد نجران {لَهُوَ اَلقَصَصُ الْحَقُّ}؛ أي: لهو الخبر الصدق، والقول الحق الذي لا شك فيه دون أكاذيب النصارى، وافتراء اليهود {وَمَا مِنْ إِلَهٍ} بلا شريك، ولا ولد، ولا زوجة {إِلَّا اللَّهُ} سبحانه وتعالى. {وَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {لَهُوَ الْعَزِيزُ}؛ أي: الغالب الذي لا يُمنع، القادر على جميع المقدورات {الْحَكِيمُ}؛ أي: العالم بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمور، فذكر العزيز الحكيم ها هنا إشارة إلى الجواب عن النصارى في الشبهتين لعيسى: القدرة على الإحياء ونحوه، وإخبار الغيوب؛ أي: لا أحد سواه يساويه في القدرة التامة، والحكمة البالغة، ليشاركه في الإلهية.

‌63

- {فَإِنْ تَوَلَّوْا} ؛ أي: فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك، ولم يقبلوا عقيدة التوحيد التي جئت بها، ولم يجيبوك إلى المباهلة .. {فَإِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {عليم بـ} حال {المفسدين} في الدين، ونياتهم، وأغراضهم الفاسدة، فيجازيهم بخبيث سرائرهم وسيىء أعمالهم.

وخلاصة المعنى: فإن أبوا عن قبول الحق، وأعرضوا عما وصفت من أن الله هو الواحد، وأنه يجب أن يكون عالمًا قادرًا على جميع المقدورات، عالمًا بالنهايات، محيطًا بالمعلومات، مع اعترافهم بأن عيسى لم يكن كذلك، ومع قولهم: إن اليهود قتلوه .. فاعلم أن إباءهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد، فاقطع كلامك عنهم، وفوض أمرهم إلى الله، فإن الله عليم بفساد المفسدين،

(1) الجمل.

ص: 339

مطلِّع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادر على مجازاتهم.

الإعراب

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} .

{فَلَمَّا أَحَسَّ} الفاء استئنافية (لما): حرف شرط غير جازم {أَحَسَّ عِيسَى} : فعل وفاعل. {مِنْهُمُ} : متعلق بـ {أَحَسَّ} ، أو حال من {الكُفرَ} تقديره: أحسَّ الكفر حال كونه صادرًا منهم، كما قاله أبو البقاء. {الْكُفْرَ}: مفعول به لأحس، والجملة الفعلية فعل شرط لـ {لما} لا محل لها من الإعراب. {قَالَ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى} ، والجملة جواب {لما} لا محل لها من الإعراب، وجملة {لما} مستأنفة، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} مقول محكي لـ {قَالَ} ، وإن شئت قلتَ:{مَنْ} : اسم استفهام مبتدأ، {أَنْصَارِي}: خبر ومضاف إليه {إِلَى اللَّهِ} : جار ومجرور حال من ياء المتكلم متعلق بمحذوف تقديره: حالة كوني ملتجئًا إلى الله، والجملة الإسمية في محل النصب مقول {قَالَ} .

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} : فعل وفاعل، والجملة مستأنفة {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} إلى قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} مقول محكي لـ {قال} ، وإن شئت قلتَ:{نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ} : مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول {قالَ} ، {ءَامَنَّا}: فعل وفاعل. {بِاللَّهِ} : جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: الواو عاطفة {اشهد} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على {عِيسَى} ، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة {آمَنَّا بِاللَّهِ} على كونها مقول {قَالَ} {بِأَنَّا}: الباء حرف جر، أن: حرف نصب ومصدر، ونا: ضمير المتكلمين اسمها. {مُسْلِمُونَ} : خبرها، وجملة {أن} في تأويل مصدر مجرور بالباء المتعلقة بـ {أشهد} تقديره؛ وأشهد بكوننا مسلمين.

ص: 340

{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} .

{رَبَّنَا} منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ}. {آمَنَّا}: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء في محل النصب مقول {قَالَ} ، {بِمَاَ}: جار ومجرور متعلق بـ {آمَنَّا} ، {أَنْزَلْتَ}: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ {ما} ، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما أنزلته. {وَاتَّبَعْنَا} : الواو عاطفة، (اتبعنا) فعل وفاعل. {الرَّسُولَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا} على كونها مقول القول. {فَاكْتُبْنَا}: الفاء عاطفة تفريعية، {اكتبنا}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، والجملة معطوفة على جملة {آمَنَّا} ، {مَعَ الشَّاهِدِينَ}: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ {اكتبنا} ، أو حال من ضمير المفعول.

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} .

{وَمَكَرُوا} الواو استئنافية، {مكروا}: فعل وفاعل، والجملة مستئانفة {وَمَكَرَ اللَّهُ}: فعل وفاعل معطوف على {مكروا} ، {وَاللَّهُ}: الواو استئنافية، {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} .

{إذْ} : ظرف لما مضى من الزمان {قَالَ اَللَّهُ} : فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لإذ، والظرف متعلق بـ {مكر الله}؛ أي: مكرهم الله وقت قوله لعيسى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} : مقول محكي لـ {قالَ} ، وإن شئت قلتَ {يَا عِيسَى}: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول {قَالَ} ، {إِنِّي}: إنَّ: حرف نصب وتوكيد، والياء اسمها، {مُتَوَفِّيكَ}: خبرها ومضاف إليه {وَرَافِعُكَ} : معطوف على {مُتَوَفِّيكَ} {إلَيَّ} : جار ومجرور متعلق بـ {رافعك} ، وجملة {إن} من اسمها وخبرها في محل النصب مقول {قَالَ}. {وَمُطَهِّرُكَ}: معطوف على {مُتَوَفِّيكَ} . {مِنَ الَّذِينَ} :

ص: 341

متعلق بـ {مطهرك} {كَفَرُوا} : فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {وَجَاعِلُ}: معطوف على {مُتَوَفِّيكَ} ، وهو مضاف {الَّذِينَ} مضاف إليه {اتَّبَعُوكَ}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {فَوْقَ الَّذِينَ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بمحذوف مفعول ثانٍ لـ {جاعل} تقديره: ظاهرين فوقهم. {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {جاعل} يعني: أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم، ويجوز أن يتعلق بما تعلق به الظرف؛ أعني: فوق الذين كفروا.

{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} .

{ثُمَّ} : حرف عطف وترتب وتراخٍ، {إِلَيَّ}: جار ومجرور خبر مقدم لإفادة الحصر. {مَرْجِعُكُمْ} : مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} على كونها مقولًا لـ {قَالَ} . {فَأَحْكُمُ} : الفاء: حرف عطف وتعقيب، {أحكم}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهُ} ، فالجملة معطوفة على جملة قوله:{ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} على كونها مقول القول، {بَيْنَكُمْ}: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ {أحكم} ، {فِيمَا}: جار ومجرور متعلق بـ {أحكم} ، {كُنْتُمْ}: فعل ناقص واسمها {فِيهِ} متعلق بـ {تَخْتَلِفُونَ} وجملة {تَخْتَلِفُونَ} : خبر كان، وجملة كان صلة لـ {ما} ، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير فيه، والتقدير: فأحكم بينكم فيما كنتم مختلفين فيه.

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)} .

{فَأَمَّا الَّذِينَ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت رجوعكم إليّ وحكمي بينكم، وأردت بيان كيفية ذلك الحكم .. فأقول لك {ما}: حرف شرط وتفصيل. {الَّذِينَ} : مبتدأ {كَفَرُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {فَأُعَذِّبُهُمْ}: الفاء

ص: 342

رابطة لجواب {أما} {أعذبهم} : فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله {عَذَابًا}: مفعول مطلق. {شَدِيدًا} صفة {عَذَابًا} . {فِي الدُّنْيَا} : جار ومجرور متعلق بـ (أعذبهم){وَالْآخِرَةِ} : معطوف على {الدُّنْيَا} ، وجملة (أعذبهم) في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنها خبر سيِّىءٌ تقديره: فأما الذين كفروا .. فمعذب أنا إياهم، والجملة الإسمية جواب {أما} لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا في محل النصب مقول {قالَ} {وَمَا لَهُمْ}: الواو عاطفة، (ما): حجازية أو تميمية (لهم): جار ومجرور خبر (ما) الحجازية، أو خبر المبتدأ المؤخر. {مِنْ}: زائدة {نَاصِرِينَ} : اسم (ما) الحجازية، أو مبتدأ مؤخر تقديره: وما ناصرون كائنين أو كائنون لهم، والجملة معطوفة على جملة {ما} ) على كونها مقولًا لـ {قَالَ} .

{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} .

{وَأَمَّا الَّذِينَ} الواو عاطفة {ما} ): حرف شرط {الذين} : مبتدأ {آمَنُوا} : فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة {آمَنُوا} ، {فَيُوَفِّيهِمْ}: الفاء رابطة لجواب (أما)(يوفيهم): فعل مضارع ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على {الله} {أُجُورَهُمْ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سيِّئ، والجملة الإسمية جواب (أما) لا محل لها من الإعراب، وجملة (أما) في محل النصب معطوفة على جملة (أما) الأولى {وَاللَّهُ}: الواو عاطفة (الله): مبتدأ {لَا} : نافية {يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} : فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على {الله} ، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة (أما).

{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)} .

{ذَلِكَ} مبتدأ {نَتلُوُهُ} : فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {الله} ،

ص: 343

والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب {عَلَيْكَ} متعلقان بـ {نتلوه} {مِنَ الْآيَاتِ}: جار ومجرور حال من ضمير {نَتلُوُه} {وَالذكِرِ} : معطوف على {الْآيَاتِ} {الْحَكِيمِ} ؛ صفة لـ {ذكر} .

{إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} .

{إِنَّ} حرف نصب {مَثَلَ} : اسمها، {عِيسَى}: مضاف إليه {عِنْدَ اللَّهِ} : ظرف ومضاف إليه، والظرف حال من الضمير المستكن في خبر {إِنَّ} الآتي، وقال أبو حيان (1): والعامل في {عِندَ} العاملُ في كاف التشبيه. {كَمَثَلِ آدَمَ} : جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة {خَلَقَهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله {مِنْ تُرَابٍ}: جار ومجرور متعلق بـ (خلق)، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ {مثل آدم} لا محل لها من الإعراب، وقيل: حال من {آدَمَ} على تقديره: قد، قال أبو حيان (2): وهذه الجملة تفسيرية لـ {مثل آدم} ، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقد مع {خَلَقَهُ} مقدرةٌ، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية؛ ولا يجوز أن يكون {خَلَقَهُ} صفة لآدم، ولا حالًا منه إذ الماضي لا يكون حالًا أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه، مُضَمَّنه تفسير المثل. انتهى كلامه، وفيه نظر اهـ.

{ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

{ثُمَّ} : حرف عطف وترتيب {قَالَ} : فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} {لَهُ}: جار ومجرور متعلق بـ {قالَ} ، وجملة {قَالَ} معطوفة على جملة {خَلَقَهُ} ، {كُن}: مقول محكي لـ {قَالَ} ، وإن شئت قلت:{كُن} : فعل أمر من كان التامة، وفاعله ضمير يعود على {آدَمَ} ، والجملة معطوفة على جملة

(1) البحر المحيط.

(2)

البحر المحيط.

ص: 344

{قَالَ} {فَيَكُونُ} الفاء استئنافية {يكون} فعل مضارع تام مرفوع بالضمة والفاعل هو والجملة مستأنفة.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} .

{الْحَقُّ} : خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا هو الحق، والجملة مستأنفة {مِنْ رَبِّكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من {الْحَقُّ} تقديره: حال كونه كائنًا من ربك. {فَلَا تَكُنْ} : الفاء عاطفة تفريعية {لا} : ناهية جازمة {تَكُنْ} : فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر {تكن} تقديره: فلا تكن كائنًا من الممترين، والجملة معطوفة على جملة قوله:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} .

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا} .

{فَمَنْ} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن هذا المذكور في شأن عيسى هو الحق من ربك، وأردت بيان كيفية المعارضة مع من حاجك فيه .. فأقول لك {مَنْ}: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما، أو موصولة بمعنى الذي في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة قوله:{فَقُلْ تَعَالَوْا} ، ودخلت الفاء في خبره لشبه الموصول بالشرط في العموم {حَاجَّكَ}: فعل ماضٍ ومفعول في محل الجزم بـ (مَنْ) الشرطية، وفاعله ضمير يعود على (من) {فِيهِ}: جار ومجرور متعلق بـ {حَاجَّكَ} ، {من بعد ما} ؛ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ {حَاجَّكَ}. {جَاَءَكَ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {مَا} ، والجملة صلة لـ {مَا} أو صفة لها {مِنَ الْعِلْمِ}: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل {جَاَءَكَ} تقديره: حال كونه كائنًا من العلم. {فَقُلْ} : الفاء رابطة لجواب (من) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية (قل): فعل أمر في محل الجزم بـ (من) الشرطية على كونه جوابًا لها مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، وجملة {من} الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا الشرطية، وجملة إذا الشرطية مستأنفة. {تَعَالَوْا} إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت

ص: 345

قلتَ: {تَعَالَوْا} : فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول {قل} .

{نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} .

{نَدْعُ} : فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى، والجملة في محل النصب مقول {قل} {أَبْنَاءَنَا}: مفعول به ومضاف إليه {وَأَبْنَاءَكُمْ} : معطوف على {أَبْنَاءَنَا} ، وكذلك معطوف عليه قوله:{وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} . {ثُمَّ} : حرف عطف وتراخٍ. {نَبْتَهِلْ} : فعل مضارع معطوف على {نَدْعُ} على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه من النصارى {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ} فعل مضارع ومفعول أول ومضاف إليه، معطوف على {نَدْعُ} على كونه مجزومًا بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على النبي، ومن يخاصمه {عَلَى الْكَاذِبِينَ}: جار ومجرور في محل النصب مفعول ثانٍ لـ {نجعل} .

{إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

{إِنَّ} : حرف نصب {هَذَا} : اسمها {لَهُوَ} : اللام حرف ابتداء {هو} : ضمير فصل {اَلقَصَصُ} : خبر {إنَّ} {الْحَقُّ} : صفة لـ {قصص} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}: الواو عاطفة أو استئنافية {ما} : نافية، {من}: زائدة زيدت لإفادة الاستغراق والعموم {إِلَهٍ} : مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النافي عليه {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ {اللَّهُ} : خبر المبتدأ، والجملة عاطفة على جملة {إِنَّ} ، أو مستأنفة. وفي "الفتوحات الإلهية" قوله (1):{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن {مِنْ إِلَهٍ} : مبتدأ، و {مِنْ} مزيدة فيه، وإلا الله خبره تقديره: ما إله إلا الله، وزيدت {مِنْ} للاستغراق والعموم.

(1) الجمل.

ص: 346

الثاني: أن يكون الخبر مضمرًا تقديره: وما من إله لنا إلا الله و {إلّا اللَّهُ} : بدل من موضع {مِنْ إِلَهٍ} ؛ لأن موضعه رفع بالابتداء اهـ. "سمين". انتهى. {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : الواو عاطفة أو استئنافية (إن): حرف نصب {اللهَ} : اسمها {لَهُوَ} : اللام حرف ابتداء {هو} : ضمير فصل {الْعَزِيزُ} : خبر أول لـ {إنَّ} {الْحَكِيمُ} : خبر ثانٍ لها، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة {إِنَّ} الأولى.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} .

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدَّر تقديره: إذا عرفت كيفية المحاجة معهم، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن قبول الحق بعد المحاجة .. فأقول لك. {إنْ} حرف شرط جازم {تَوَلَّوْا}: فعل ماضٍ، وفاعل، في محل الجزم بـ (إن) على كونه فعل شرط لها {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطةٍ لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إن): حرف نصب {اللَّهَ} : اسمها {عَلِيمٌ} ؛ خبرها. {بِالْمُفْسِدِينَ} : متعلق بـ {عَلِيمٌ} ، وجملة (إنَّ) في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة (إنْ) الشرطية من فعل شرطها وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، والله أعلم.

التصريف ومفردات اللغة

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} : الإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس، وهي: الذوق والشم واللمس والسمع والبصر، يقال: أحسست الشيء وبالشيء وحسست به، ويقال: حسيت به بإبدال سينه الثانية ياءً، وأحست بحذف سينه الأولى، وقال سيبويه: وما شذَّ من المضاعف - يعني: في الحذف - فشبيه بباب أقمت، وذلك قولهم: أحست وأحسن، يريدون أحسست وأحسسن، والمراد بالإحساس هنا: الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة.

{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} : والأنصار جمع: نصير، نحو شريف وأشراف.

ص: 347

{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} : جمع حواري، وهو الناصر، وهو مصروف وإن ماثل المفاعل؛ لأن ياء النسب فيه عارضة، وهو مشتق من الحور، وفعله من باب طَرِب يقال: حورت العين إذا صفا بياض بياضا وسواد سوادها، فسموا حواريين لخلوص بياض ألوانهم ونياتهم وسرائرهم، فعلى هذا القول الحَوَر وهو البياض قائمٌ بذواتهم وقلوبهم، وقيل: مأخوذ من التحوير وهو: التبييض؛ لأنهم يحورون الثياب، ويقصرونا؛ أي: يبيضونها. {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} والمكر (1): الخداع والخبث، وأصله: الستر، يقال: مكر الليل وأمكر إذا أظلم، واشتقاقه من: المكر، وهو: شجر ملتف، فكأن المذكور به يلتف به المكر ويشتمل عليه ويقال: امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق، والمكر أيضًا ضرب من النبات، وفسره بعضم بأنه: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان:

محمود: وهو أن يتحرى به فعلَ جميلَ، ومن ذلك قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .

ومذموم: وهو أن يتحرى به فعل قبيحٍ؛ نحو: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} . اهـ. "سمين".

{فَقُلْ تَعَالَوْا} : العامة على فتح اللام؛ لأنه أمر من: تعالى يتعالى؛ كترامى يترامى، وأصل ألفه ياء، وأص هذه الياء واو؛ وذلك لأنه مشتق من العلو وهو: الارتفاع، والواو متى وقعت رابعة فصاعدًا قلبت ياءً، فصار تعالى فتحرك حرف العلة - وهو الياء -، وانفتح ما قبله، فقُلب ألفًا، فصار: تعالى كترامى، فإذا أمرتَ منه الواحد .. قلت: تعالَ يا زيد؛ بحذف الألف؛ لبناء الأمر على حذفها، وكذا إذا أمرت الجمع المذكر .. قلت: تعالَو!؛ لأنك لما حذفت الألف لأجل الأمر .. أبقيتَ الفتحة مشعرة بها، وإنْ شئت قلت: الأصل: تعاليوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم -، ثم استثقلت الصفة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين، وتركت الفتحة على حالها، وإنْ

(1) الجمل.

ص: 348

شئت قلت: لما كان الأصل: تعاليوا .. تحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله - وهو الياء -، فقلبت ألفًا، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالة عليها.

والفرق بين هذا وبين الوجه الأول: أن الألف في الوجه الأول حذفت لأجل الأمر، وإن لم يتصل به وأو ضمير، وفي هذا حُذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وكذلك إذا أمرت الواحدة .. تقولُ لها: تعالي، فهذه الياء هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف فيه كما تقدم في أمر جماعة المذكور، فتأتي هنا الوجوه الثلاثة، فيقال: حذفت الألف لالتقائها ساكنة مع ياء المخاطبة، وبقيت الفتحة دالة عليها، أو يقال: استثقلت الكسرة على الياء التي هي من أصل الكلمة، فحذفت، فالتقى ساكنان، وهما الياءَان فحذفت الأولى، أو يقال: تحركت الياء الأولى وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفًا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وأما إذا أمرت المثنى .. فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا أيضًا؛ يستوي فيه المذكران والمؤنثان، وكذلك أمر جماعة الإناث، تثبت فيه الياء فتقول: يا نسوة تعالَين، قال تعالى:{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} ؛ إذ لا مقتضى للحذف، ولا للقلب، وهو ظاهر بما تمهد من القواعد الصرفية.

وقرأ الحسن شاذًا: {تعالُوا} بضم اللام، والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسوا الحرف المحذوف، حتى كأنهم توهموا أن الكلمة بُنيت على ذلك، وأن اللام هي الآخر في الحقيقة، فلذلك عوملت معاملة الآخر حقيقة، فضمت قبل واو الضمير، وكسرت قبل يائه. وتعال: فعل أمر صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة به.

{ثُمَّ نَبْتَهِلْ} : والابتهال: افتعال من البهلة - بفتح الباء وضمها - وهي: اللعنة، هذا أصله، ثم استعمل في كل دعاء مجتهد فيه، وإن لم يكن التعانًا، وفي "القاموس": والبهل: اللعن، والترك، والاجتهاد في الدعاء، وإخلاصه، وفي "المصباح": بهله بهلًا من باب نفع إذا لعنه، واسم الفاعل باهل، والأنثى: باهله، وبها سميت قبيلة، والاسم البُهْلة بالضم وزان: الغرفة، وباهله مباهلةً من

ص: 349

باب قاتل إذا لَعَن كل واحد منهما الآخر، وابتهل إلى الله إذا تضرع إليه. اهـ.

{لَهُوَ الْقَصَصُ} : والقصَص: مصدر قولهم: قصَّ فلانٌ الحديثَ، يقصه قصًّا قصصًا، وأصله: تتبع الأثر، يقال: فلان خرج يقص أثر فلان؛ أي: يتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} ؛ أي: اتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام؛ لأنه يتتبع خبرًا بعد خبر.

البلاغة

{فَلَمَّا أَحَسَّ} : فيه استعارة تصريحية تبعية؛ إذ لا يحس إلا ما كان متجسدًا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس، إلا إذا كان أحس بمعنى: رأى أو سمع منهم كلمة الكفر، فيكون أَحسَّ لا استعارة فيه؛ إذ يكون المعنى: أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن.

ومن ضروب البلاغة أيضًا في هذه الآيات:

منها: السؤال والجواب في قوله: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} .

ومنها: التكرار في قوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، وقوله:{نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ، وفي قوله:{آمَنَّا بِاللَّهِ} ، وفي قوله:{آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} ، وفي قوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} و {الْمَاكِرِينَ} .

ومنها: جناس الاشتقاق بين لفظ {مكروا} و {الْمَاكِرِينَ} .

ومنها: إسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى} ، والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة.

ومنها: الاستعارة في قوله: {مُتَوَفِّيكَ} ، وفي قوله:{فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} .

ومنها: التفصيل لِمَا أجمل في قوله: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} بقوله: {فَأَمَّا} ، {وأما} .

ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} ، {وَأَمَّا

ص: 350

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.

ومنها: الالتفات في قوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} على قراءة الياء من ضمير المتكلم، وفي قوله:{فَأُعُذبُهُمْ} إلى ضمير الغيبة.

ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: {نَتلُوهُ} ، وفي قوله:{فَيَكُونُ} .

ومنها: تشبيه الغريب بالأغرب في قوله: {كَمَثَلِ آدَمَ} ؛ لأن فاقد الأبوين أغرب من فاقد الأب، فكان أشد خرقًا للعادة من الموجود من غير أب، وأقطع الخصم، وأحسم لمادة شبهته، والجامع: كون كل منهما من غير أب.

ومنها: الإلهاب والتهييج في قوله: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} . إلى غير ذلك من ضروب البلاغة.

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

ص: 351

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)} .

المناسبة

لما (1) بين الله سبحانه وتعالى فيما سلف أحوال عيسى عليه السلام، وما يعتوره من الأطوار المنافية للألوهية، ثم ذكر دعوته صلى الله عليه وسلم الناس إلى التوحيد والإِسلام، وظهور عناد أهل الكتاب حتى اضطر إلى دعوتهم إلى المباهلة فأعرضوا، وبذلك انقطعت حججهم، ودلَّ ذلك على أنهم ليسوا على يقين من اعتقاد ألوهية المسيح، ومن يفقد اليقين يتزلزل حينما يدعى إلى شيء مما يخاف عاقبته .. دعاهم هنا إلى أمر آخر هو أصل الدين، وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء جميعًا، وهو سواء وعدل بين الفريقين لا يرجح فيه طرف على طرف،

(1) المراغي.

ص: 352

وهو عبادة الله وَحْده لا شريك له، فلما أعرضوا .. أمر بأن يقول لهم:{اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

ولما بين أيضًا أن من دأب أهل الكتاب أن يعرضوا عن الحق بعد ما تبين لهم، ولا يجدي معهم الدليل ولا البرهان، فدعوتهم إلى دين الإِسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء بعده، لا تجد منهم أذنًا صاغية، ولا قلوبًا واعية .. ذكر شأنًا آخر لهم، وهو أنهم كانوا أشد الناس حرصًا على إضلال المؤمنين، فلا يَدعون فرصة إلا انتهزوها بالتفنن في إلقاء الشبه في نفوس المؤمنين، وقد كان النزاع بالغًا أشده بين الفريقين، فإذا تمسكنا نحن وأنتم بها، وصدَّقناها .. كنا على السواء والاستقامة، وفي قراءةٍ شاذةٍ لابن مسعود:{إلى كلمة عدل بيننا وبينكم} .

ثم فسر الكلمة بقوله هي: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} ؛ أي تلك الكلمة: عدم عبادتنا سوى الله سبحانه وتعالى {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} ؛ أي: وعدم إشراكنا به سبحانه وتعالى شيئًا من المخلوقات في العبادة {وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: وعدم اتخاذ وجعل بعض منا بعضًا آخرنا ربًّا ومعبودًا ومطاعًا من دون الله سبحانه وتعالى؛ أي لا يطع أحد منا أحدًا من الرؤساء في معصية الله، وفيما أحدثوا من التحريم والتحليل، ولا نقول عُزيرٌ ابنُ الله ولا المسيح ابن الله؛ لأنهما بشران مثلنا، ولا نطيع الأحبار والرهبان فيما أحلوا أو حرموا.

روي أنه لما نزلت هذه الآية .. قال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:"أما كانوا يحلون لكم، ويحرمون عليكم، فتأخذون بقولهم"؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو ذاك".

وتفسير الكلمة بهذه الجمل؛ لأن العرب تسمي كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر: كلمة.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} ؛ أي: فإن أعرضوا عن التوحيد، ورفضوا قبول تلك الكلمة العادلة، وأَبَو إلا الإصرار على الشرك .. {فَقُولُوا} أنتم؛ أيها النبي والمؤمنون

ص: 353

لأهل الكتاب {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ؛ أي: اعترفوا لنا يا معشر أهل الكتاب بأنَّنا منقادون لأوامر الله، مُقِرُّون لله بالوحدانية، مخلصون لهُ بالعبادة دُونكم، فقد لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا بذلك، وبأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وفي قوله (1): {بَعْضُنَا بَعْضًا} إشارة لطيفة وهي أنَّ البعضية تنافي الإلهية؛ إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهًا لك، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم:{إنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا أشد استبعادًا فيه، وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضًا؛ إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك، ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام.

والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة: عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم: ثالث ثلاثة، واتخذوا أحبارهم أربابًا في الطاعة في تحليل وتحريم، وفي السجود لهم.

وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهو بإلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دِحية الكلبي إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا غرابة في ذلك فإن الدعوة إلى هذا الدين الجديد وجدت مقاومة من أهل الكتاب، ومن المشركين.

أما أهل الكتاب: فلأن فيه هدمًا لدينهم كما يزعمون، وأما المشركون؛ فلأن للإلف والعادة سلطانًا على النفوس، وهذه الدعوة دكت حصون المعتقدات

(1) البحر المحيط.

ص: 354

التي توارثوها عن أسلافهم الغابرين، ووجدوا عليها آباءهم من قبل، كما حكى الله - تعالى - عنهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} .

أسباب النزول

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ

} قيل (1): نزلت هذه الآية في شأن نصارى نجران كما قاله ابن عباس، وقيل: نزلت في شأن الفريقين اليهود والنصارى، وذلك أنه لما قَدِم وفد نجران المدينة، والتقوا مع اليهود .. اختصموا في دين إبراهيم، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيًّا، وأنهم على دينه، وأولى الناس به، وقالت اليهود: بل كان يهوديًّا، ونحن على دينه، وأولى الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه، بل كان إبراهيم حنيفًا مسلمًا، وأنا على دينه، فاتبعوا دينه الإِسلام"، فقالت اليهود: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نتخذك ربًّا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمَّد، ما تريد إلا أن نقول فيك كما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ

}.

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ..} الآية (2)، روى ابن إسحاق بسنده المتصل إلى ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ} . الآية أخرجه البيهقي في "الدلائل".

قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

} الآية، روى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمَّد وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنع،

(1) المراح.

(2)

لباب النقول.

ص: 355