المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عليهم رحمة، وإنْ العباد عصوني .. جعلتهم عليهم عقوبة، فلا - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: عليهم رحمة، وإنْ العباد عصوني .. جعلتهم عليهم عقوبة، فلا

عليهم رحمة، وإنْ العباد عصوني .. جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشغلوا بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم. وهو معنى قوله عليه السلام:"كما تكونوا يولى، عليكم" وقيل معنى: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي: يرزقه بلا تكلف ولا تعب ولا ضيق؛ أي: ومن غير توقف على عمل منا، وإلا فلو توقف رزقه على عمل منا .. لما أعطانا شيئًا أبدًا، فسبحان الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه.

وقال أبو العباس المقري (1): ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه: بمعنى: التعب، كما في هذه الآية، وبمعنى: العدد، كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، وبمعنى: المطالبة؛ كما في قوله تعالى: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وشدد حفص ونافع وحمزة والكسائي (2): {الْمَيِّتِ} في هذه الآية. وفي الأنعام والأعراف ويونس والروم وفاطر زاد نافع تشديد الياء في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} في الأنعام، {والأرض الميتة} في يونس، و {لحم أخيه ميتًا} في الحجرات، وقرأ الباقون بتخفيف ذلك، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال؛ كما نقول: لَيْن ولَيِّن وهيْن وهيّن، ومن زعم أن المخفف لما قد مات، والمشدد لما لم يمت .. فيحتاج إلى دليل.

‌28

- {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} ؛ أي: لا يجعل المؤمنون {الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} ؛ أي: أصدقاءً وأنصارًا وأعوانًا {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ؛ أي: من غير المؤمنين وسواهم؛ أي (3): لا يوال المؤمنون الكافرين لا استقلالًا ولا اشتراكًا مع المؤمنين، وإنما الجائز لهم قصر الموالاة والمحبة على المؤمنين بأن يوالي بعضهم بعضًا فقط، فقوله:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حال من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين بموالاتهم المؤمنين؛ أي: تاركين قصر الولاية عليهم، وذلك الترك يصدق

(1) المراح.

(2)

البحر المحيط.

(3)

المراح.

ص: 254

بصورتين كونها مشتركة بين الكفار والمؤمنين، وكونها مخصصة بالكفار؛ أي: لا يصطف (1) المؤمنون الكافرين، فيكاشفوهم بالأسرار الخاصة بالشؤون الدينية، ويقدموا مصلحتهم على مصلحة المؤمنين؛ إذ في هذا تفضيل لهم عليهم وإعانة للكفر على الإيمان.

وخلاصة هذا: نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين لقرابة أو صداقة جاهلية أو جوار، أو نحو ذلك من أسباب المصادقة والمعاشرة، بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه مما يقتضيه الإِسلام من الحب والبغض لمصلحة الدين فحسب. ومن ثَمَّ تكون موالاة المؤمنين أجدى لهم في دينهم من موالاة الكافرين.

فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المؤمنين .. فلا مانع منها، فقد حالف النبي صلى الله عليه وسلم خزاعة وهم على شركهم، كما لا مانع من ثقة المسلم بغيره وحسن معاملته في أمور الدنيا.

واعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا ممنوع؛ لأن الرضا بالكفر كفر.

وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، وذلك غير ممنوع.

وثالثها: الركون إلى الكفار والمعونة لهم والنصرة، إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهيٌّ عنه؛ لأن المُوالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان دينه والرضا بطريقته، وذلك يخرجه عن الإِسلام، فهذا هو الذي هَدَّد الله فيه بقوله الآتي:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} ، وقرأ الضبي شذوذًا: لا يتخذُ برفع الذال على النفي، والمراد به: النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي وذلك شذوذًا كما سبق بيانه، قال أبو حيان (2): وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فسح

(1) المراغي.

(2)

البحر المحيط.

ص: 255

لنا فيه من اتخاذهم عبيدًا، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم، فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه. انتهى.

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ؛ أي: اتخاذ الكافرين أولياء بالاستقلال، أو بالاشتراك مع المؤمنين فيما يضر مصلحة الدين؛ بنقل الأخبار إليهم وإظهار عورة المسلمين لهم، أو يودهم ويحبهم {فَلَيْسَ} ذلك الموالي {مِنَ اللَّهِ}؛ أي: من ولاية الله ودينه {فِي شَيْءٍ} قليل ولا كثير؛ أي: فليس بمطيع لله ولا ناصر لدينه، وصلة الإيمان بينه وبين ربه تكون منقطعة، ويكون من الكافرين كما جاء في آية أخرى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، وهذا أمر معقول من أن ولاية المولى معاداة أعدائه، وموالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}؛ أي: إلا أن تخافوا أيها المؤمنون من الكفار مخافة وضررًا؛ أي: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه والاحتراز منه؛ بأن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك، أو مالك، فحينئذٍ يجوز إظهار الموالاة وإبطان المعاداة؛ أي: لا تتخذوا الكفار أولياء ظاهرًا أو باطنًا في حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم وخوفكم من جهتهم اتقاءً ومخافةً.

والمعنى: نهى (1) الله سبحانه وتعالى المؤمنين من موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعًا عن نفسه، من غير أن يستحل دمًا حرامًا ومالًا حرامًا، أو غير ذلك من المحرمات، ومن غير أن يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع صحة النية.

وخلاصة الكلام (2): أن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شي تتقونه منهم، فلكم حينئذٍ أن تتقوهم بقدر ما يُتقى ذلك الشيء؛ إذ القاعدة الشرعية أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح،

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

ص: 256

وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر، فأولى أن تجوز لمصلحة المؤمنين، وإذًا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إما بدفع خطر، أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شيء يضر بالمسلمين، ولا تخص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت.

وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية؛ بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق؛ لأجل توقي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس أو العرض أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهًا وقايةً لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان .. لا يكون كافرًا، بل يُعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر .. فوافقها مكرهًا وقلبه مليء بالإيمان، وفيه نزلت الآية:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} .

وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: نعم، حين أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه، ودعا الآخر فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ فقال: إني أصمُّ ثلاثًا، فقدمه وقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئًا له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تَبِعة عليه". وهي من الرخص لأجل الضرورات العارضة، لا من أصول الدين المتبعة دائمًا، ومن ثمَّ وجب على المسلم الهجرة من المكان الذي يخاف فيه من إظهار دينه ويضطر فيه إلى التقية، ومن كمال الإيمان أن لا يخاف في الله لومة لائم كما قال تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، قال:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحملون الأذى في سبيل دعوة الدين، ويصبرون عليه.

ص: 257