المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لله عز وجل، وأن كل ما يراه كمالًا من نفسه، - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: لله عز وجل، وأن كل ما يراه كمالًا من نفسه،

لله عز وجل، وأن كل ما يراه كمالًا من نفسه، أو من غيره، فهو من الله وبالله وإلى الله .. لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرص على مطاوعته، قاله القاضي.

وقال بعضهم: إن محبة العبد لله عبارة عن: إعظامه وإجلاله وإيثار طاعته واتباع أمره ومجانبة نهيه، ومحبة الله للعبد عبارة عن: ثنائه عليه ورضاه عنه وثوابه له وعفوه عنه، فذلك قوله تعالى:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، وقيل (1): محبة الله: معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به بذكره ودوام الأنس به. وقيل: علامة المحبة أن يكون دائم التفكر، كثير الخلوة، دائم الصمت، لا يبصر إذا نظر، ولا يسمع إذا نودي، ولا يحزن إذا أُصيب، ولا يصرخ إذا أصاب، ولا يخشى أحدًا، ولا يرجوه. وروي أنه لما نزل قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية قال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين لأصحابه: إن محمدًا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه؛ كما أحبت النصارى عيسى بن مريم. فأنزل الله عزّ

‌32

- وجلّ أمرًا لكل أحد من خاص وعام {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ؛ أي: قل لهم يا محمَّد: أطيعوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وأطيعوا رسوله باتباع سنّته، والاهتداء بهديه.

وفي هذا إرشاد إلى أن الله إنما أوجب عليكم متابعته؛ لأنه رسوله، لا كما تقول النصارى في عيسى.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا} ؛ أي: فإن أعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورًا بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم على ملة إبراهيم {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آياته، وعما أنزله على رسوله، فلا يرضى عنهم، بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظيرة عزته، ويسخط عليهم يوم يرضى عن المؤمنين به، المطيعين لنبيه، المتبعين لما جاء به من عند ربه، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ

(1) النسفي.

ص: 262

الْكَافِرِينَ} فيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم ولا يرضى فعلهم ولا يغفر لهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني .. دخل الجنة، ومن عصاني .. فقد أبى" أخرجه البخاري في "صحيحه".

وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني .. فقد أطاع الله، ومن عصاني .. فقد عصى الله، ومن يطع الأمير .. فقد أطاعني ومن يعصِ الأمير .. فقد عصاني" متفق عليه.

وروى مسلم في "صحيحه" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله إذا أحبَّ عبدًا .. دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا، فأحبَّه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا، فأحبُّوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا .. دعا جبريل، فيقول: إني أبغض فلانًا، فأبغضْه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء؛ إن الله يبغض فلانًا، فأبغِضُوه، فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض.

وقرأ الجمهور (1): {تُحبون} و {يحببكم} - بضم التاء والياء - من: أحبَّ الرباعي، وقرأ أبو رجاء العطاردي شذوذًا:{تَحبون ويَحببكم} - بفتح التاء والياء - من: حبَّ الثلاثي، وهما لغتان، وذكر الزمخشري: أنه قرئ: {يحبكم} - بفتح الياء، والإدغام - وهو شاذ أيضًا وقرأ الزهري شذوذًا:{فاتبعوني} - بتشديد النون - أَلحق بفعل الأمر نون التوكيد، وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو؛ شبهًا بـ {تحاجوني} ، وهذا توجيه شذوذ، وروي عن أبي عمرو إدغام راء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} في لام {لَكُمْ}. وذكر ابن عطية عن الزجاج: أن ذلك خطأ وغلط، ولكن رؤساء الكوفة كأبي جعفر الرؤاسي والكسائي والفراء رووا ذلك عن العرب، ورأسان من أهل البصرة - وهما أبو

(1) البحر المحيط.

ص: 263

عمرو ويعقوب - قرآ بذلك وروياه، فلا التفات لمن خالف في ذلك.

الإعراب

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} .

{قُلِ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} مقول محكي لـ {قُلِ} ، وإن شئت قلت:{اللَّهُمَّ} : منادى مفرد العلم في محل النصب على المفعولية مبني على الضم؛ لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والميم المشددة عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان، وهذا التعويض خاص بالاسم الجليل؛ كما اختص بجواز الجمع فيه بين (يا) و (أل) وبقطع همزته ودخول تاء القسم عليه. {مَالِكَ الْمُلْكِ}: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء تقديره: يا مالك الملك، وجملة النداء في النصب جزء المقول، وفي "الفتوحات": قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فيه (1) أربعة أوجه: أحدهما: أنه بدل من {اللَّهُمَّ} . الثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادى ثانٍ حذف منه حرف النداء، أي؛ يا مالك الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابع. الرابع: أنه نعت لقوله: {اللَّهُمَّ} على الموضع؛ فلذلك نُصب. انتهى باختصار. {تُؤْتِي الْمُلْكَ} : فعل ومفعول ثانٍ، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ولكنها الآن في محل النصب جزء المقول. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول أول، {تَشَاءُ}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: تشاؤه. {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ} : الواو عاطفة (تنزع الملك): فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله:{تُؤْتِي الْمُلْكَ} . {مِمَّنْ} جار ومجرور متعلق بـ {تنزع} ، وجملة {تَشَاءُ} صلة {مَن} الموصولة.

{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

(1) الجمل.

ص: 264

{وَتُعِزُّ} الواو عاطفة. {تعز} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي الْمُلْكَ}. {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلة لها، والعائد محذوف تقديره: من تشاء إعزازه. {وَتُذِلُّ} : الواو عاطفة. (تذل): فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي} ، {مَن}: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلته. {بِيَدِكَ}: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر مقدم. {الْخَيْرُ}: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة {تُؤْتِي} ، {إِنَّكَ}: إنَّ حرف نصب، الكاف اسمها. {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بقوله:{قَدِيرٌ} ، وهو خبر {إن} ، والجملة مستأنفة.

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} .

{تُولِجُ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. {اللَّيْلَ}: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة {تُؤْتِي} {فِي النَّهَارِ}: متعلق بـ {تُولِجُ} . {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} : إعرابها مثل ما قبلها. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : الواو عاطفة. {تخرج} فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله:{تُؤْتِي الْمُلْكَ} . {الْحَيَّ} : مفعول به. {مِنَ الْمَيِّتِ} : متعلق بـ {تخرج} . {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} هذه الجملة مثل ما قبلها إعرابًا. {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ} : الواو عاطفة. {ترزق} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة قوله:{تُؤْتِي الْمُلْكَ} . {مَن} : اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة {تَشَاءُ} صلته. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه، يجوز (1) أن يكون حالًا من المفعول المحذوف تقديره: ترزق من تشاؤه غير محاسب، وأن يكون حالًا من ضمير الفاعل تقديره: غير محاسب له، أو غير مُضيِّق له، ويجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف تقديره: رزقًا غير قليل.

(1) العكبري.

ص: 265

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

{لَا} : ناهية جازمة، أو نافية، {يَتَّخِذِ}: مرفوع والمعنى: لا ينبغي أن يتخذوهم أولياء {الْمُؤْمِنُونَ} : فاعل {الْكَافِرِينَ} : مفعول أول، والجملة مستأنفة، {أَوْلِيَاءَ}: مفعول ثانٍ. {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} : جار ومجرور ومضاف إليه، حال (1) من الفاعل؛ أي: حال كون المؤمنين متجاوزين للمؤمنين؛ أي: متجاوزين الاستقلال بموالاة المؤمنين؛ أي؛ تاركين قصر الموالاة على المؤمنين، وقال (2) أبو البقاء:{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في موضع نصب صفة لأولياء.

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} .

{وَمَنْ يَفْعَلْ} الواو استئنافية. {من} : اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر؛ إما جملة الشرط، وهو الراجح، أو جملة الجواب، أو هما كما مرَّ مِرارًا. {يَفْعَلْ}: فعل مضارع مجزوم بـ (من)، وفاعله ضمير يعود على {من} {ذَلِكَ}: مفعول به. {فَلَيْسَ} : الفاء رابطة لجواب {مِنَ} الشرطية وجوبًا. {ليس} ؛ فعل ماضٍ ناقص، واسمها ضمير يعود على {مِنَ} {مِنَ اللَّهِ}: جار ومجرور حال من {شَيْءٍ} الآن؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا. {في شَيءٍ} : جار ومجرور خبر {ليس} ، وجملة {ليس} في محل الجزم بـ {مِنَ} على كونها جوابًا لها، وجملة {مِنَ} الشرطية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.

{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .

{إلّا} : أداة استثناء مفرغ من المفعول لأجله، والعامل فيه {لَا يَتَّخِذِ} ، {أَنْ}: حرف نصب ومصدر {تَتَّقُوا} : فعل وفاعل منصوب بـ {أَن} المصدرية {مِنْهُمْ} : جار ومجرور متعلق بـ {تَتَّقُوا} {تُقَاةً} : منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الفعلية صلة {أَن} المصدرية {أَن} مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام التعليل المقدرة المتعلقة بقوله:{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} ، والتقدير: لا

(1) الجمل.

(2)

العكبري.

ص: 266

يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين لشيء من الأشياء، ولا لغرض من الأغراض إلا لأجل اتقائكم منهم تقاة. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ}: الواو استئنافية. {يحذركم الله} : فعل ومفعول أول وفاعل، {نَفْسَهُ}: مفعول ثانٍ ومضاف إليه. وفي "السمين": قوله: {نَفْسَهُ} مفعول ثانٍ لـ {يحذر} ؛ لأنه في الأصل متعدٍ بنفسه إلى مفعول واحد، فازداد بالتضعيف آخر. انتهى، والجملة الفعلية مستأنفة {وَإِلَى اللَّهِ}: جار ومجرور خبر مقدم. {الْمَصِيرُ} : مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية، أو مستأنفة.

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت:{إن} : حرف شرط {تُخْفُوا} : فعل وفاعل مجزوم بـ {إِن} الشرطية. {مَا} : موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به {فِي صُدُورِكُمْ}: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ {مَا} ، أو صفة لها. {أَوْ}: حرف عطف وتفصيل {تُبْدُوهُ} : فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على {تُخْفُوا} مجزوم على كونه فعل الشرط. {يَعْلَمْهُ اللَّهُ}: فعل ومفعول به وفاعل، مجزوم بـ {إِن} على كونه جواب الشرط لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ} .

{وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

{وَيَعْلَمُ} الواو استئنافية، {يعلم}: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. {فِي السَّمَاوَاتِ}: جار ومجرور صلة لـ {مَا} : أو صفة لها. {وَمَا} : الواو عاطفة {مَا} : موصولة أو موصوفة في محل النصب معطوفة على {مَا} الأولى. {فِي الْأَرْضِ} : جار ومجرور صلة لـ {ما} أو صفة لها. {وَاللَّهُ} : الواو استئنافية أو عاطفة. {الله} : مبتدأ، {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ {قَدِيرٌ} ، وهو خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة أو معطوفة على الجملة الفعلية المذكورة قبلها.

ص: 267

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} .

{يَوْمَ} : منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره: اذكروا يوم، والجملة المحذوفة مستأنفة {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ}: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ {يَوْمَ} ، {مَا}: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ {تَجِدُ}؛ لأن وجد هنا بمعنى: أصاب فيتعدَّى إلى مفعول واحد. {عَمِلَتْ} : فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: عملته. {مِنْ خَيْرٍ} : جار ومجرور متعلق بـ {عَمِلَتْ} ، أو حال من ضمير المفعول المحذوف. {مُحْضَرًا} حال من {مَا} الموصولة.

{وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} .

{وَمَا عَمِلَتْ} الواو استئنافية {مَا} : موصولة، أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ. {عَمِلَتْ}: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة صلة لـ {مَا} ، أو صفة لها. {مِنْ سُوءٍ}: جار ومجرور حال من ضمير المفعول المحذوف {تَوَدُّ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النفس، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. {لَوْ}: زائدة. {أَنَّ} : حرف نصب ومصدر {بَيْنَهَا} : ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر {أَنَّ} مقدَّم على اسمها. {وَبَيْنَهُ}: معطوف عليه {أَمَدًا} اسم {أَنَّ} مؤخر {بَعِيدًا} صفة لـ {أمدًا} ، وجملة {أَنَّ} من اسمها وخبرها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لـ {تَوَدُّ} تقديره: وما عملته من سوء تود كون أمد بعيد بينها وبينه. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} تقدم إعرابها قريبًا، فلا عود ولا إعادة فراجعه. {وَاللَّهُ رَءُوفٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة {بِالْعِبَادِ} جار ومجرور متعلق بـ {رَءُوفٌ} .

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} .

ص: 268

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. {إِنْ كُنْتُمْ} إلى آخر الآية مقول محكي لـ {قُلْ} ، وإن شئت قلت:{إِن} : حرف شرط {كُنْتُمْ} : فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ {إِنْ} على كونه فعل شرط لها، {تُحِبُّونَ اللَّهَ}: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر {كان} تقديره: محبين الله {فَاتَّبِعُونِي} : الفاء رابطة لجواب {إِن} الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة طلبية. {اتبعوني} : فعل أمر وفاعل ومفعول به ونون وقاية، مبني على حذف النون، والجملة في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة {إن} الشرطية في محل النصب مقول لـ {قُلْ}. {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}: فعل مضارع ومفعول به وفاعل، مجزوم بالطلب السابق، والجملة في محل النصب مقول القول لـ {قُل}. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}: الواو عاطفة {يغفر} : معطوف على {يُحْبِبْكُمُ} مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله. {لَكُمْ} جار ومجرور متعلق بـ {يغفر} {ذُنُوبَكُمْ}: مفعول به، ومضاف إليه. {وَاللَّهُ غَفُورٌ}: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، لكنها في محل النصب مقول القول. {رَحِيمٌ}: خبر ثانٍ.

{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} .

{قُلْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة {أَطِيعُوا اللَّهَ} إلى آخر الآية أو إلى قوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} مقول محكي، وإن شئت قلتَ:{أَطِيعُوا اللَّهَ} : فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول. {وَالرَّسُولَ}: معطوف على لفظ الجلالة. {فَإِنْ} : الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا أمرتهم بطاعة الله والرسول، وأردت بيان حكم ما إذا تولوا عن طاعة الله .. فأقول لك، {إن تولوا}:(إن): حرف شرط جازم. (تولوا): يحتمل أن يكون من تمام مقول القول، فيكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين؛ أي: تتولوا، فيكون مجزومًا بحذف النون، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، فيكون ماضيًا في محل الجزم على كونه فعل الشرط لـ (إنْ)، والواو فاعل، {فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة

ص: 269

لجواب (إن) الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب جملة اسمية (إنَّ): حرف نصب وتوكيد، ولفظ الجلالة اسمها. {لَا}: نافية. {يُحِبُّ} : فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، {الْكَافِرِينَ}: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر (إن)، وجملة (إن) من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ (إن) الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة:{إن} ) الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب جزء المقول، أو مستأنفة.

التصريف ومفردات اللغة

{تنزع} : يقال: نزع الله عنه الشر، أو الملك ينزع - من باب ضرب - إذا أزاله عنه، وسلبه منه. ونزع الشيء من مكانه: إذا قلعه منه.

{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} : من مزيد عَزَّ يعز عزًّا بكسر العين فيهما إذا قوي بعد ذله أو غلب، ومنه:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} .

{وَتُذِلُّ} : من مزيد ذلَّ يذل - بالكسر - ذلًّا وذلةً إذا غلب وقهر. {تُولِجُ} : يقال: ولج يلج - من باب: وعد - ولوجًا ولِجَة كعِدَة، والولوج: الدخول، والإيلاج الإدخال.

{تُقَاةً} : مصدر على وزن فعلة؛ لأنه مصدر تقَيته - بفتح القاف - كرميته رمية، وأصله: وقية؛ لأنه من الوقاية، فأبدلت الواو تاء، والياء ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وفي "المختار": تقى يتقي كقضى يقضي، والتقوى والتقى واحد، والتقاة: التقية يقال: اتقى تقية وتقاة، وفي "القاموس": وتقيت الشيء أتقيه من باب ضرب اهـ.

{مَا فِي صُدُورِكُمْ} جمع: صَدْر، كفَلْس وفُلُوس، والصَّدْر معروف. {أَمَدًا}: الأمد: غاية الشيء ومنتهاه، يجمع على آماد، والفرق بين الأمد والأبد: أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان: أن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية.

ص: 270

البلاغة

وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة، وضروبًا من البلاغة (1):

منها: التكرار للتفخيم والتعظيم في قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ} وتكرار: {مَنْ تَشَاءُ} .

ومنها: التجنيس المماثل في قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ} .

ومنها: الطباق في قوله: {تُؤْتِي} ، {وَتَنْزِعُ} ، {وَتُعِزُّ} {وَتُذِلُّ} ، وفي قوله:{اللَّيْلَ} و {النَّهَارِ} ، وفي قوله:{الْحَيَّ} و {الْمَيِّتِ} ، وفي قوله:{تُبْدُوهُ} و {تُخْفُوا} ، وفي:{خَيْرٍ} و {سُوءٍ} و {مُحْضَرًا} و {بَعِيدًا} .

ومنها: الجناس المماثل في قوله: {تُحِبُّونَ} و {يُحْبِبْكُمُ} .

ومنها: التجنيس المغاير في قوله {تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} وفي قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ، و {غَفُورٌ} .

ومنها: التعبير بالمحل عن الشيء في قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ} عبر بها عن القلوب قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} الآية.

ومنها: الإشارة في قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الآية، أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله.

ومنها: الاختصاص في قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ} ، وفي قوله:{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .

ومنها: التأنيس بعد الإيحاش في قوله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} .

ومنها: الحذف في عدة مواضع قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} ؛ أي: من تشاء إيتاءَه، ومثله و {تنزع} . و {تعز} و {تذل} .

ومنها: الخطاب العام الذي سببه خاص في قوله: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ

(1) البحر المحيط.

ص: 271

الْكَافِرِينَ}.

ومنها: التكرار في قوله: {الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وفي قوله:{مِنَ اللَّهِ} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ} ، وفي قوله:{يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ} وفي قوله: {يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {وَاللَّهُ عَلَى} ، وفي قوله:{مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ} ، وفي قوله:{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ} ، وفي قوله:{تُحِبُّونَ اللَّهَ} و {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} و {وَاللَّهُ غَفُورٌ} وفي قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ} ، {فَإِنَّ اللَّهَ} .

ومنها: الاستعارة في قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} ، وهو عبارة عن إدخال هذا على هذا، وهذا على هذا، فما ينقصه من الليل .. يزيده في النهار، والعكس، ولفظ الإيلاج أبلغ؛ لأنه يفيد إدخال كل منهما في الآخر بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة.

ومنها: ذكر العام بعد الخاص تأكيدًا له وتقريرًا في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بعد قوله: {مَا فِي صُدُورِكُمْ} .

ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} ، ولو جرى على سنن الكلام الأول .. لجاء بالكلام غيبة.

فائدة: وروي في الحديث (1): "أن من أراد قضاء دينه، قرأ كل يوم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى {بِغَيْرِ حِسَابٍ}، ويقول: يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أنت تعطي منهما من تشاء، فاقضِ عني دَيْني، فلو كان ملء الأرض ذهبًا .. لأدَّاه الله عنه".

والله سبحانه وتعالى أعلم

* * *

(1) البحر المحيط.

ص: 272

قال الله سبحانه جلَّ وعلا:

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)} .

المناسبة

مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى أن الدين الحق هو دين الإِسلام والتوحيد، وأن اختلاف أهل الكتاب فيه إنما هو للبغي والحسد، وأن الفوز والفلاح منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته .. ذكر هنا من أحبهم واصطفاهم، ورفع درجاتهم، وجعل منهم الرسل الذين يبينون للناس طريق محبته وهي: الإيمان به مع طاعته، والعمل بما يرضيه، فبدأ بآدم أولهم، وهو أبو البشر، اصطفاه واجتباه؛ كما قال تعالى:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} ، وثنَّى بنوحٍ وهو الأب الثاني للبشر، فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم، فانقرض من السلاسل البشرية من انقرض، ونجا هو وأهله في الفلك العظيم، وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين، ثم تفرقت ذريته، وانتشرت في البلاد، وفشت فيهم الوثنية، ثم ثلَّث بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من ولد إسماعيل، ثم ربَّع بآل عمران، فاندرج فيهم عيسى عليه السلام، وأعقب ذلك

ص: 273

بذكر ثلاث قصص: قصة ولادة مريم، وقصة ولادة يحيى، وقصة ولادة عيسى.

وكلها خوارق للعادة تدل على قدرة العلي القدير.

وقال أبو حيان (1): مناسبة هذه الآيات لما قبلها: لما قدم قبل {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، وأردفه بقوله:{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، وختمها بأنه لا يحب الكافرين .. ذكر المصطفين الذين يجب اتباعهم، فبدأ أولًا بأولهم وجودًا وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام؛ إذ هو آدم الأصغر، ليس أحد على وجه الأرض إلا من نسله، ثم أتى ثالثًا بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعًا بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعل هؤلاء صفوة؛ أي: مختارين نَقاوة (2)، والمعنى: أنه نَقَّاهم من الكَدَر، وهذا من تمثيل المعقول بالمحسوس.

أسباب النزول

قال ابن عباس رضي الله عنهما (3): قالت اليهود: نحن من أبناء إبراهيم إسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم، فأنزل الله هذه الآية، والمعنى: إن الله اصطفى هؤلاء بالإِسلام، وأنتم يا معشر اليهود على غير دين الإِسلام.

وقيل (4): نزلت في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه ابن الله تعالى واتخذوه إلهًا .. نزلت ردًّا عليهم وإعلامًا أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو.

(1) البحر المحيط.

(2)

نقاوة الشيء - بضم النون -: خياره ومختاره.

(3)

الخازن.

(4)

البحر المحيط.

ص: 274