المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إثبات لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ٤

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: إثبات لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته

إثبات لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلهًا فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم.

‌7

- {هُوَ} سبحانه وتعالى الإله {أَنْزَلَ عَلَيْكَ} يا محمَّد {الْكِتَابَ} ؛ أي: القرآن العظيم منقسمًا إلى قسمين: قسم {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ؛ أي: واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، أو محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال قطعية الدلالة على المعنى المراد {هُنَّ}؛ أي: تلك المحكمات {أُمُّ الْكِتَابِ} ، أي: أصل القرآن الذي يرجع إليه عند الاشتباه، وعمدته التي ترد إليها الآيات المتشابهات، كقوله تعالى في شأن عيسى {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} وكقوله فيه:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله وعبد من عباده ورسول من رسل الله {و} قسم منه آيات {أخر} جمع أخرى {مُتَشَابِهَاتٌ} ؛ أي: محتملات لمعانٍ متشابهة لا يتضح مقصودها؛ لإجمال أو مخالفة ظاهرة إلا بنظر دقيق وتأمل أنيق.

أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد؛ كقوله تعالى في شأن عيسى:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} .

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ؛ أي: ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة وخروج عنه إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ؛ أي: فيتعلقون ويأخذون بالمتشابه من الكتاب الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم. عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ، فقال:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم"{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ؛ أي: طلب الإضلال لأتباعهم إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو

ص: 179

حجة عليهم لا لهم، أو طلب الفتنة في الدين وهي الضلال عنه فإنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفًا لبعض، وذلك يفضي إلى الهرج والتقاتل {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}؛ أي: وطلب تأويل المتشابه على ما ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان وطلب تحريفه على ما يريدون.

وذلك كاحتجاج النصارى على عقيدتهم الفاسدة بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} وبقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه عبد من عباد الله ورسول من رسله.

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} ؛ أي: والحال أنه ما يعلم تأويل المتشابه وتفسيره حقيقة {إِلَّا اللَّهُ} وحده، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: تفسير القرآن على أربعة أنحاء: تفسير لا يسع لأحد جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى. انتهى.

وقال المراغي قوله (1): {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} معناه: فأما الذين يميلون عن الحق ويتبعون أهواءَهم الباطلة، فينكرون المتشابه وينفِّرون الناس منه، ويستعينون على ذلك بما في غرائز الناس وطبائعهم من إنكار ما لم يصل إليه علمهم، ولا يناله حسهم؛ كالإحياء بعد الموت، وجميع شؤون العالم الأخروي، ويأخذونه على ظاهره بدون نظرٍ إلى الأصل المحكم؛ ليفتنوا الناس بدعوته إلى أهوائهم .. فيقولون: إن الله روح، والمسيح روح مثله، فهو من جنسه، وجنسه لا يتجزأ فهو هو، ومعنى ابتغاء تأويله: أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم، لا إلى الأصل المحكم الذي بُني عليه الاعتقاد، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها، ويصرفونها إلى معانٍ من أحوال الناس في الدنيا ليخرجوا الناس

(1) المراغي.

ص: 180