المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة - ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها - جـ ٣

[جمال بن محمد السيد]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الثالث: دراسة جملة من الأحاديث المختارة مما تكلم عليه ابن القيم

- ‌من كتاب الطلاق

- ‌1 ـ باب ما جاء في المحلل والمحلل له

- ‌2- باب المبتوتة: هل تجب لها السكنى والنفقة

- ‌3- باب من قال: إن لها السكنى والنفقة

- ‌4- باب في عدة أم الولد

- ‌ من كتاب البيوع

- ‌1 - باب ما جاء في أداء الأمانة واجتناب الخيانة

- ‌2- باب ما جاء من الرخصة في ثمن الكلب

- ‌3- باب ما جاء في بيع الْمُغنيات

- ‌4- باب ما جاء في النهي عن العينة

- ‌5- باب في بيع أمهات الأولاد

- ‌ من كتاب الأطعمة والصيد والذبائح

- ‌1- باب في الطافي من صيد البحر

- ‌2- باب الفأرة تقع في السمن فتموت فيه

- ‌3- باب في الأكل مع المجذوم

- ‌ من كتاب الأيمان والنذور

- ‌1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة

- ‌ من كتاب العتق

- ‌1 - باب ما جاء فيمن ملك ذا رحم محرم

- ‌ من كتاب الحدود والديات

- ‌1 - باب الشفاعة في الحدود

- ‌2 - باب في قطع جاحد العارية

- ‌3 - باب ما جاء في الرجل يزني بجارية امرأته

- ‌4- باب فيمن تزوج بامرأة أبيه

- ‌5- باب في أنه لا يقتل المسلم بالكافر

- ‌6 - باب البدء في القسامة بأيمان المدعي

- ‌من كتاب الأدب

- ‌1 ـ باب كم مرة يشمت العاطس

- ‌2 - باب هل يجزئ عن الجماعة أن يسلم أو يرد أحدهم

- ‌3 - باب ما جاء في المصافحة

- ‌4 ـ باب الرجل يدعى إلى طعام، هل يكون ذللك إذنا له

- ‌5 - باب ما جاء في التنفير من الكذب

- ‌6 - باب ما جاء في ذَم الغناء

- ‌7 - باب في الأمر بتحسين الأسماء

- ‌8 - باب ما جاء في الديك

- ‌ من كتاب الفرائض

- ‌1- باب ما جاء في ميراث ذوي الأرحام

- ‌2 - باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي الرجل

- ‌ من كتاب الأذكار

- ‌1 - باب ما يقول من نسي التسمية في أول طعامه

- ‌2 - باب ما يقول إذا دخل السوق

- ‌3 - باب من قال: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند العطاس

- ‌ من كتاب الفضائل

- ‌1 - باب في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ من كتاب التفسير

- ‌1 - باب في تفسير قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}

- ‌ من كتاب التوحيد والأسماء والصفات

- ‌1 - باب في علو الله - عزوجل - واستوائه على عرشه

- ‌2 - باب آخر منه

- ‌3 ـ باب ما جاء في نهي النبي صلى الله عليه عن اتخاذ قبره عيدا

- ‌4 - باب ما جاء في أطفال المشركين

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة

13-

‌ من كتاب الأيمان والنذور

‌1 - باب النذر في المعصية، ومن رأى أن عليه الكفارة

89 -

(1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نَذْرَ في مَعْصِيَةٍ، وكَفَّاَرُتُه كَفَّاَرُة يَمَيٍن"1.

استدل ابن القَيِّم رحمه الله بهذا الحديث للقائلين بوجوب الكفارة في نذر المعصية، وذهب إلى صِحَّةِ الحديثِ بطرقهِ وشواهِدِهِ كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وذكر رحمه الله عند كلامه على حكم طلاق الغضبان حديث:

90-

(2) عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ".

قال ابن القَيِّم: "وهو حديث صحيحٌ، وله طرقٌ"2.

وقد أورده رحمه الله للاستدلال به على أنَّ طلاق الغضبان لا يقع، وذلك بطريق الأولى، فقال: "فإذا كان النذر – الذي أثنى الله على من أوفى به، وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة – قد أَثَرَّ الغضب في انعقاده، لكون الغضبان لم يقصده

فالطلاق بطريق الأولى والأحرى"3.

1 تهذيب السنن: (4/373 – 376) .

2 الإغاثة الصغرى: (ص 39 – 40) .

3 الإغاثة الصغرى: (ص 41) .

ص: 115

قلت: أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد أخرجه: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في (سننهم) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والبيهقي في (سننه) 3، من طرق:

عن يونس بن يزيد4، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة به.

وهذا الإسناد رجاله ثقاتٌ، إلا أنه معلولٌ، كما قال الحافظ ابن حجر5 رحمه الله. وقد بَيَّنَ الأئمة عِلَّتَهُ، فقال الترمذي عقبه:"هذا حديث لا يصحُّ؛ لأنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة". وقال النسائيُّ: "وقد قيل: إنَّ الزهريَّ لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة" وقال البيهقي مثل ذلك.

قلت: فيكون هذا الإسناد منقطعاً.

ودليلهم على عدم سماع الزهري هذا الحديث من أبي سلمة: أنه قد روى عن الزهري على غير هذا الوجه.

1 د: (3/594) ح 3290، 3291، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. ت:(4/103) ح 1524، باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. س:(7/26- 27)، باب كفارة النذر. جه:(1/686) ح 2125، باب النذر في المعصية. كلهم في كتاب الأيمان والنذور، إلا ابن ماجه، فهو عنده في (الكفارات) .

(6/247) .

(10/69) .

4 ابن النَّجَّاد الأيلي، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، إلا أنَّ في روايته عن الزهري وهماً قليلاً، وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة، مات سنة 159هـ على الصحيح/ ع. (التقريب 614) .

5 انظر: فتح الباري: (11/587)، والتلخيص الحبير:(4/175) .

ص: 116

فرواه عبد الله بن أبي عتيق1، وموسى بن عقبة، كلاهما عن الزهري، عن سليمان بن أرقم2، عن يحيى بن أبي كثير3، عن أبي سلمة، عن عائشة به.

أخرجه بهذا الإسناد: أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في (سننهم) 4. قال البخاريُّ – بعد أن ساقه من طريق سليمان بن أرقم هذه-:"والحديث هو هذا"5. وكذا صححه الدارقطني فقال – بعد أن ساق وجوه الاختلاف فيه -: "والصحيح: حديث ابن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، عن الزهري"6.

فَتَبَيَّنَ من ذلك: أن الزهريَّ – رحمه الله – إنما سمع الحديث من سليمان بن أرقم، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، "فَدَلَّسَهُ بإسقاط اثنين" - كما قال ابن حجر7- ورواه عن أبي سلمة مباشرة.

ونازع الشيخ الألباني في القول بتدليس الزهريِّ هنا، وأنه يحتمل

1 عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أبو بكر، صدوقٌ فيه مزاحٌ، من الثالثة/ خ م س ق. (التقريب 321) .

2 البصري، أبو معاذ، ضعيفٌ، من السابعة/ د ت س. (التقريب 250) .

3 أبو نصر اليمامي.

4 د: (3/595) ح 3292، ت:(4/103) ح 1525، س:(7/27)، هق:(10/69) .

5 جامع الترمذي: (4/103)، وانظر العلل له:(2/651 – 652) .

6 علل الدارقطني: ج5 (ق 72) .

7 فتح الباري: (11/587) . وانظر: جامع التحصيل: (ص 331) .

ص: 117

أن يكون له فيه إسنادان، أحدهما: عن سليمان بن أرقم، عن يحيى، عن أبي سلمة، والآخر: عن أبي سلمة مباشرة قال: "ويؤيد هذا أنه قد صَرَّحَ بالتحديث في رواية له" فذكر رواية عند النسائي1 وفيها قول الزهري: "حدثنا أبو سلمة"2.

قلت: وما ذكره الشيخ الألباني – رحمه الله – لو صحَّ لكانَ دليلاً على سماع الزهريَّ الحديث من أبي سلمة، لكن يبدو أنَ كلمة "حَدَّثَنا" مُصَحَّفَةٌ، وصوابها:"حَدَّثَ"، كذا نقله المزِّي في (تحفة الأشراف) 3، ونقله الدارقطني في (علله) 4 فقال: "

وقال أبو ضمرة: عن يونس، عن ابن شهاب قال: حدث أبو سلمة". وحينئذٍ تكونُ هذه اللفظة من الزهري دليلاً على عدم سماعه منه لا العكس.

وَيُؤَكِّدُ ذلك: أنَّ أبا داود قال عقب رواية الزهري عن أبي سلمة هذه: "وسمعت أحمد بن شبويه يقول: قال ابن المبارك - يعني في هذا الحديث -: حَدَّثَ أبو سلمة. فدلَّ على أن الزهريَّ لم يسمعه من أبي سلمة"5. والله أعلم.

على أن طريق سليمان بن أرقم المتصلة هذه معلولة - أيضاً - بأمور:

1 سنن النسائي: (7/27) .

2 إرواء الغليل: (8/216) .

(12/367) .

4 ج 5 (ق 72) .

5 سنن أبي داود: (3/595) .

ص: 118

أولها: اتِّفَاقُهم على ضعف "سليمان بن أرقم": قال البخاريُّ - عقب حكايته هذه الطريق -: "وسليمان بن أرقم متروكٌ، ذاهب الحديث"1. وكذا قال النسائي - عقب روايته الحديث -: "سليمان ابن أرقم متروك الحديث"، وقال ابن حجر: "ضعيف باتفاقهم"2.

ثانيها: أنَّ سليمان بن أرقم - مع ضعفه - قد وَهِمَ في هذا الحديث؛ فإنَّ غير واحدٍ من أصحاب يحيى بن أبي كثير خالفوه في إسناده، فرووه عن: محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو داود – عقب إخراج حديث سليمان بن أرقم -: "قال أحمد بن محمد المروزي: إنما الحديث حديث على بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين" قال أبو داود: "أراد: أن سليمان بن أرقم وَهِمَ فيه، وحمله عنه الزهري، وأرسله عن أبي سلمة، عن عائشة"3. ثم قال أبو داود: "روى بقية، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن محمد بن الزبير، بإسناد علي بن المبارك مثله".

قلت: والحديث من طريق علي بن المبارك، ومن طريق الأوزاعي

1 علل الترمذي: (2/652) .

2 فتح الباري: (11/587) . وينظر كلام العلماء عليه مُفَصَّلاً في تهذيب التهذيب: (4/168 – 169) .

3 سنن أبي داود: (3/596) .

ص: 119

أخرجه: النسائي في (سننه) 1، وأخرجه البيهقي من طريق الأوزاعي2 فقط.

وحديث يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير هذا: هو الذي ساقه ابن القَيِّم رحمه الله بلفظ "لا نَذْرَ في غضبٍ

". وسيأتي بيان هذا اللفظ.

فَرَجَعَ بذلك حديث أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، إلى حديث: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.

إلا أنَّ حديث عمران هذا معلوٌلٌ - أيضاً - بثلاث علل، وهي:

1-

ضعف إسناده. 2- انقطاعه. 3- اضطرابه سنداً ومتناً. وبيان ذلك:

أولاً: ضعف إسناده: فإنَّ "محمدَ بن الزبير الحَنْظَلِيّ" ضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ من العلماء، حتى قال البخاريُّ:"منكر الحديث"، وقال أبو حاتم:"في حديثه إنكار"3. وقال الحافظ ابن حجر: "متروك"4.

وكذلك أبوه الزبير: لم يرو عنه إلا ابنه محمد، وذكره أبو العرب

(7/27 – 28) .

2 سنن البيهقي: (10/70) .

3 تنظر أقوال العلماء فيه في (تهذيب التهذيب) : (9/167) .

4 التقريب: (ص 478) .

ص: 120

في كتابه (الضعفاء)1. وقال ابن حجر: "لَيِّنُ الحديث"2.

ثانياً: انقطاعه: فقال النسائي: "قيل: إن الزبير لم يسمع هذا الحديث من عمران بن حصين"3. وقال البيهقي مثل ذلك، ثم ساق بإسناده إلى يحيى بن معين أنه قال: "قيل لمحمد بن الزبير الحنظلي: سمع أبوك من عمران بن حصين؟ قال: لا"4.

ومما يدلُّ على انقطاعه: ما أخرجه النسائي5، والبيهقي6 من حديث محمد بن إسحاق، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن رجل صَحِبَهُ، عن عمران به. هذا سياق البيهقي، وعند النسائي:"عن أبيه، عن رجل من أهل البصرة قال: صحبت عمران بن حصين، وفيه قصة، ولفظه: "لا نذر في غضب

".

وأخرج النسائي7 من حديث عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، أن رجلاً حَدَّثَهُ: أنه سأل عمران. ولفظه: "لا نَذْرَ في غَضَبٍ

".

1 انظر: تهذيب التهذيب: (3/320 – 321) .

2 التقريب: (ص 214) .

3 سنن النسائي: (7/28) .

4 سنن البيهقي: (10/70) . وانظر: تهذيب التهذيب: (3/320) .

(7/28) .

(10/70) .

(7/29) .

ص: 121

قال أبو حاتم الرازي - بعد أن بَيَّنَ وجوهَ الاختلاف فيه على محمد بن الزبير-: "حديث عبد الوارث أشبه، لأنه قد بَيَّنَ عورة الحديث"1.

ثالثاً: اضطرابه سَنَدَاً وَمَتْنَاً: أما اضطراب إسناده: فإنه رُوِيَ عن محمد بن الزبير على أوجه مختلفة، وقد ذكرنا بعضها فيما مضى، ونضيف إليها هنا:

- أنه رواه سفيان الثوري، عن محمد بن الزبير، عن الحسن، عن عمران بن حصين به، أخرجه النسائي2، وأحمد3، والحاكم4، والبيهقي5. ولفظه: "لا نذر في معصية ولا غضب

".

- وأخرجه النسائي6 من طريق: منصور بن زاذان، عن الحسن، عن عمران بن حصين، لم يذكر محمد بن الزبير.

قال البيهقي: "وهذا - أيضاً - منقطعٌ، ولا يصحُّ عن الحسن عن عمران سماع من وجه صحيح يثبت مثله"7. ثم ساق بإسناده

1 علل ابن أبي حاتم: (1/440) .

2 السنن: (7/29) .

3 المسند: (4/443) .

4 المستدرك: (4/305) .

5 السنن: (10/70) .

(7/29) .

7 سنن البيهقي: (10/70 – 71) .

ص: 122

إلى علي بن المديني رحمه الله القول بعدم صحة ذلك1.

- وخالف هؤلاء - أيضاً - علي بن زيد بن جدعان، فجعله عن الحسن، عن عبد الرحمن بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي2، ثم قال:"عليُّ بن زيد ضعيف، وهذا الحديثُ خطأ، والصواب: عمران بن حصين".

وأما اضطراب متنه: فقد جاء لفظه مرةً: "لا نذر في معصية

"، ومرة جاء: "لا نذر في غضب

"، وجاء مرةً: "لا نذر في معصية ولا غضب

". وتقدمت كل هذه الألفاظ.

وقد أشار الحافظ العراقيُّ إلى الاضطراب في حديث محمد بن الزبير هذا3. وقال الشيخ الألباني - بعد أن ذكر بعض وجوه الاختلاف في إسناده -: "وهذا اضطراب شديد يسقط الحديث بمثله لو كان من رواية ثقة؛ لأنَّ الاضطراب في روايته يدل على أنه لم يحفظه، فكيف إذا كان الراوي واهياً، وهو محمد بن الزبير؟ "4.

ونعود الآن إلى موقف ابن القَيِّم رحمه الله من هذين الحديثين، وما استند إليه في تصحيحهما:

1 وانظر: المراسيل لابن أبي حاتم: (ص 38) .

2 السنن: (7/29 – 30) .

3 كما في فيض القدير: (6/437) .

4 إرواء الغليل: (8/213) .

ص: 123

قال ابن القَيِّم رحمه الله: "هذه الآثار قد تَعَدَّدَتْ طرقها، ورواتها ثقاتٌ"1. كذا قال رحمه الله.

قلت: أما تعدد طرقها: فقد تَبَيَّنَ مما مضى أن طرق هذه الأحاديث وإن تعددت، فإنها مختلفة مضطربة، فلم يزدد الحديث بها إلاّ اضطراباً، كما ظهر لنا أن الحديثين – بكل طرقهما – إنما يرجعان إلى طريق واحدٍ هو: محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين.

وأما ثقة رواتها: فقد وُجِدَ الأمر على خلاف ذلك، ففي طريق عائشة:"سليمان بن أرقم" المتروكُ الذي لا تقوم به حجة، وفي طريق عمران بن حصين:"محمد بن الزبير" الضعيفُ، "وأبوه" المجهول.

ثم قال ابن القَيِّم: "وإن كان الزهريُّ لم يسمعه من أبي سلمة، فإنَّ له شواهدَ تُقَوِّيِهِ"2 وذكر من هذه الشواهد حديث عمران بن حصين.

قلت: قد تقدم ضعف حديث عمران وشدة اضطرابه، وعلمنا أن حديث عائشة هو نفسه حديث عمران بن حصين، وإنما غَلِطَ فيه سليمان ابن أرقم، وخالفه غيره. فكيف يكون أحد الحديثين شاهداً للآخر؟!

ثم أشار ابن القَيِّم رحمه الله إلى شاهدٍ آخر، وهو: ما أخرجه

1 تهذيب السنن: (4/374) .

2 تهذيب السنن: (4/374) .

ص: 124

ابن الجارود في (المنتقى) 1 من طريق: موسى بن أعين، ثنا خطاب2، ثنا عبد الكريم، عن عطاء بن أبي رباح:

91-

(3) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النذرُ نَذْرَان: فما كان لله كفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين".

قال الشيخ الألباني: "وهذا إسناد صحيحٌ، رجاله كلهم ثقات رجال البخاريِّ، غير خَطَّاب، وهو ابن القاسم الحراني، وهو ثقة كما قال ابن معين وأبو زرعة في رواية عنه، وقال البرذعي عنه: منكر الحديث، يقال: إنه اختلط قبل موته. وذكره ابن حبان في الثقات"3. ثم اعترض على ابن حجر في جزمه باختلاط خطاب هذا حيث إنه لم يذكره به سوى أبي زرعة، ومع ذلك لم يجزم به.

قلت: وأخرج هذا الحديث البيهقيُّ في (سننه) 4 - من طريق ابن الجارود - وَضَعَّفَهُ!

ثم ذكر ابن القَيِّم شاهداً آخر. وَصَحَّحَ إسناده، وهو ما رواه الطحاوي:

(ح 935) .

2 ابن القاسم الحرَّاني، قاضيها، ثقةٌ اختلط قبل موته، من الثامنة/ د س. (التقريب194) .

3 السلسلة الصحيحة: (ح479) .

(10/72) .

ص: 125

92-

(4) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَر أن يعصي الله فلا يعصه، ويُكَفِّر عن يمينه".

قال ابن القَيِّم: "وهو عند البخاري إلا ذكر الكفارة"1. ثم نقل عن عبد الحق قوله: "وهذا أصحُ إسناداً، وأحسن من حديث أبي داود" يعني: حديث الزهري، عن أبي سلمة المتقدم.

قلت: هذا الحديث أخرجه الطحاوي في (مشكل الآثار) 2 من طريق: حفص بن غياث، قال: سمعت ابن مُجَبَّر3، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها به.

وأخرجه البخاري في (صحيحه) 4 من طريق: طلحة بن عبد الملك5، عن القاسم، عن عائشة به، بدون هذه الزيادة التي فيها ذكر الكفارة.

وابن مجبر - راويه عن القاسم عند الطحاوي - هو: عبد الرحمن ابن مجبّر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، روى عن: سالم بن عبد الله،

1 تهذيب السنن: (4/374 – 375) .

(1/470 – 471) ، (3/37) .

3 وقع في المشكل: "ابن محرز"، والصواب ما أثبته. انظر:(الجوهر النقي 10/71) ، (وفتح الباري 11/581) .

4 ك الأيمان والنذور، باب النذر في الطاعة. ح 6696 (الفتح: 11/581) .

5 الأيلي، ثقة، من السادسة / خ 4. (التقريب 282) .

ص: 126

وروى عنه: مالك بن أنس، وثقه عمرو بن علي1، وكذا ابن حبان2.

وقد روى الحديث: طلحةُ بن عبد الملك الأيلي - كما عند البخاري - وتابعه عليه: أيوب السختياني3، كلاهما عن القاسم به، ولم يذكرا هذه الزيادة، فإمَّا أن يُقال: ابن مجبر ثقة فزيادته مقبولة، وإما أن يقال: إنه قد خالف من هو أوثقُ منه وأكثر عدداً فتردُّ زيادته، ولعلَّ هذا الأخير هو ما تطمئن إليه النفس، وقد قال ابن القطان رحمه الله:"عندي شكُّ في رفع هذه الزيادة"4.

وبعد، فهذا ما انتهى إليه البحث، مع الإمام ابن القَيِّم رحمه الله في هذه القضية، وخلاصة ذلك:

أن حديث أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها في كفارة النذر غير صحيح، بل فيه ضعفٌ واضطراب، ولا يصلح حديث عمران بن حصين شاهداً له؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها قد رجع إلى حديث عمران. هذا مع ضعف حديث عمران أيضاً.

أما الشواهد التي ساقها ابن القَيِّم: فلا يصلح أكثرها لتقوية هذا الحديث، وقد ثبت منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما إذا ترجح

1 الجرح والتعديل: (2/2/287) .

2 الثقات: (7/76) .

3 وروايته عند ابن حبان: (الإحسان 6/287) ح 4373.

4 التلخيص الحبير: (4/175) ح 2057.

ص: 127

توثيق خطاب بن القاسم. وكذلك حديث عائشة - عند الطحاوي - فقد يصلح شاهداً إذا قيل بقبول الزيادة فيه من الثقة.

ثم إن مضمون هذا الحديث - وهو القول بالكفارة في نذر المعصية - قد ذهب إليه: الإمام أحمد، وإسحاق، وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والجمهور على خلاف ذلك، مع اتفاقهم على الشطر الأول من الحديث وهو: أنه لا يجب الوفاء بنذر المعصية1، والله أعلم.

1 انظر: جامع الترمذي: (4/104 – 105)، وفتح الباري:(11/587) .

ص: 128