الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
11-
من كتاب البيوع
1 - باب ما جاء في أداء الأمانة واجتناب الخيانة
79-
(1) قوله صلى الله عليه وسلم: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
أورد ابن القَيِّم رحمه الله هذا الحديث عند كلامه على مسألة الظَّفْر1، واستدل به على أنَّ من جُحِدَ له مالٌ، فَتَمَكَّنَ من مال الجاحد، فإنه لا يأخذ منه حقه إذا كان سبب الحق خفياً، بحيث يُتَّهَمُ بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهراً، وإن كان في الباطن آخذاً حَقَّه.
وقد أورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وخلص إلى القول بأنه صحيح بشواهده2.
قلت: هذا الحديث يُروى عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، وأنس، ورجل سَمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم. وأذكرها فيما يلي حسب ترتيب ابن القَيِّم لها:
عن يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فَأَدَّاهَا إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا. حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
1 وهو: الفوز بالمطلوب. لسان العرب: (ص2750) . والمراد هنا: الظفر بِحَقِّهِ الذَّي سُلِبَ منه.
2 إغاثة اللهفان: (2/75 - 78) .
أخرجه أبو داود في (سننه) 1، وأحمد في (مسنده) 2، والدولابي في (الكنى) 3، والبيهقي في (سننه) 4، كلهم من طريق: حميد الطويل، عن يوسف بن ماهك5 به، كذا هو عند أبي داود والدولابي باللفظ السابق، وأما أحمد فعنده: "كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام،
…
" الحديث.
وقد أخرج الدارقطني6 هذا الحديث، فقال فيه: عن حميد الطويل، عن يوسف بن يعقوب، عن رجل من قريش، عن أبي بن كعب
…
بالمرفوع منه، دون ذكر القصة. فهل أبيُّ بن كعب رضي الله عنه هو الصحابيُّ الذي سَقَطَ في الطريق السابق؟؟ قد يكون ذلك محتملاً، ولكن يبقى الراوي عنه مجهولاً.
ولذلك فقد أُعِلَّ هذا الحديث، فقال البيهقي رحمه الله: "
…
في حكم المنقطع؛ حيث لم يذكر يوسف بن ماهك اسم من حَدَّثَهُ،
(3/804) ح 3534 ك البيوع والإجارات، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده.
(3/414) .
(1/63) .
(10/270) .
5 ابن بهزاد، الفارسي، المكيِّ، ثقةٌ، من الثالثة، مات سنة 106هـ/ع. (التقريب611) .
6 في سننه: (3/35) ح 141.
ولا اسم من حَدَّثَ عنه من حدثه"1.
ولكن يقال: إن الجهل بحال الصحابي لا يضرُّ، فيبقى معلولاً بشيخ يوسف بن ماهك فقط.
وأعلَّ ابن حجر طريق أبي بن كعب السالف، فقال:"وفي إسناده من لا يُعرف"2. ومع هذا فقد صححه ابن السكن، كما نقل ذلك عنه ابن حجر3، ولا يخفى ما فيه.
وأشار ابن القَيِّم إلى عِلَّتِه هذه فقال: "وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإنه له شاهداً من وجه آخر"4. ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو:
80-
(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَدِّ الأَمَانَةَ لِمَن ائْتَمَنَكَ، وَلا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ".
وهذا أخرجه: أبو داود والترمذي في (سننيهما) 5، والدارمي في (مسنده) 6، والدارقطني والبيهقي في (سننيهما) 7، والحاكم في
1 سنن البيهقي: (10/271) .
2 التلخيص الحبير: (3/97) .
3 المصدر السابق.
4 إغاثة اللهفان: (2/77) .
5 د: (3/805) ح 3535. ت: (3/555) ح 1264، ك البيوع، باب 38.
(2/178) ح 2600، ك البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة.
7 قط: (3/35) ح 142. هق: (10/271) .
(المستدرك) 1، والأصبهاني في (الترغيب والترهيب) 2، وابن الجوزي في (العلل المتناهية) 3، كلهم من طريق: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع4، عن أبي حصين5، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
وقد أَعَلَّ جماعةٌ هذا الحديث، فقال أبو حاتم في طلق بن غَنَّام: "روى حديثاً منكراً عن شريك وقيس، عن أبي حصين، عن أبي صالح
…
ولم يرو هذا الحديث غيره"6. وقال البيهقي: "وحديث أبي حصين: تَفَرَّدَ به عنه شريك القاضي وقيس بن الربيع، وقيس ضعيف، وشريك لم يحتج به أكثر أهل العلم بالحديث، وإنما ذكره مسلم بن الحجاج في الشواهد"7. وقال ابن حزم:"هو من رواية: طلق بن غَنَّام، عن شريك وقيس بن الربيع، وكلهم ضعيف"8. وقد انفرد ابن حزم وحده بتضعيف
(2/46) .
(1/120) ح 223، باب الترغيب في أداء الأمانة.
(2/102) ح 973.
4 الأَسَدِي، أبو محمد الكوفي، صدوق تَغَيَّرَ لَمَّا كبر وأَدْخَلَ عليه ابنه ما ليس من حديثه فَحَدَّثَ به، من السابعة، مات سنة بضع وستين ومائة/ د ت ق. (التقريب 457) .
5 هو: عثمان بن عاصم بن حصين الأَسَدِي، الكوفي، ثقة ثبتٌ سُنِّيٌّ، وَرُبَّمَا دَلَّسَ، من الرابعة، مات سنة 127هـ ويقال بعدها/ ع. (التقريب 384) .
6 علل ابن أبي حاتم: (1/375) ح 1114.
7 سنن البيهقي: (10/271) .
8 الْمُحَلَّى: (8/647) .
طلق بن غَنَّام، ولم يشاركه في ذلك أحد1.
وقال الترمذي: "حسن غريب". قال ابن القطان: "والمانع من تصحيحه: أن شريكاً، وقيس بن الربيع مختلفٌ فيهما"2. وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. قال الشيخ الألباني: "فيه نظرٌ؛ فإن شريكاً
…
إنما أَخْرَجَ له مسلم في المتابعات"3.
قلت: أما شريك وقيس بن الربيع، فقد تَكَلَّمَ الأئمة فيهما من جهة سوء حفظهما، ووجود الخطأ في حديثهما، ولكنَّ اقترانهما في هذا الإسناد يجعل كلَّ واحدٍ منهما يَتَقَوَّى بصاحبه، ولذلك قال ابن القَيِّم رحمه الله:"وشريك ثقة، وقد قَوِيَ بمتابعة قيسٍ له، وإن كان فيه ضعفٌ"4. وقال ابن التركماني في قيس بن الربيع: "والقول فيه ما قال شعبة، وأنه لا بأس به، وأقلُّ أحواله: أن تكون روايته شاهدةً لرواية شريك"5. وقال الشيخ الألباني: "فأحدهما يُقَوِّي الآخر"6.
وأما ما حكم به أبو حاتم من نكارة هذا الحديث، وأنَّ طلق بن غنام انفرد به، ولم يروه غيره: فلم يتبين لي ما وجه ذلك؛ فإن طلق
1 انظر: تهذيب التهذيب: (5/34) .
2 نصب الراية: (4/119) .
3 إرواء الغليل: (5/381) .
4 إغاثة اللهفان: (2/77) .
5 الجوهر النقي: (10/271) .
6 إرواء الغليل: (5/381) .
ابن غنام ثقة، فلو سلمنا انفراده، برواية ذلك، لم يكن من قبيل الشاذِّ ولا المنكر، فكيف وقد رُوِيَ الحديث من أوجه أخرى كثيرة؟
وقال الشيخ الألباني معقباً على كلام أبي حاتم هذا: "لعلَّ وجهه: أن طلقاً لم يثبت عند أبي حاتم عدالته، فقد أورده ابنه في الجرح والتعديل
…
ثم لم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذلك مما لا يضرهُ، فقد ثبتت عدالته بتوثيق من وثقه، لاسيما وقد احتجَّ به الإمام البخاري في صحيحه"1.
فالذي يترجح في حديث أبي هريرة هذا: ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله من أنه وإن كان في إسناده ضعيفان، إلا أنه باقترانهما يُقَوِّي كلُّ منهما صاحبه، وينجبر الضعف الموسوم به كلٌّ منهما إذا انفرد.
ثم ذكر ابن القَيِّم رحمه الله شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو:
حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما تقدم، ثمَّ أشار إلي ضَعْفٍ في إسناده، إلا أنه - مع ذلك - يَصْلُحُ للاستشهاد به2.
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في (المعجم الصغير) 3، والدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4، والحاكم في (المستدرك) 5 كلهم من طريق:
1 إرواء الغليل: (5/382) .
2 إغاثة اللهفان: (2/77) .
(1/171) .
4 قط: (3/35) ح 143. هق: (10/271) .
(2/46) .
أيوب بن سويد، عن ابن شوذب1، عن أبي التيَّاح2، عن أنس رضي الله عنه به.
قال الطبراني عقبه: "
…
تَفَرَّدَ به أيوب، ولا يروى عن أنس إلا بهذا الإسناد". وقد ضَعَّفَهُ جماعة لأجل أيوب هذا، فقال البيهقي: "رواه أيوب بن سويد، وهو ضعيف"3. وقال ابن الجوزي:"فيه أيوب ابن سويد، قال ابن المبارك: ارم به. وقال يحيى: ليس بشيء. وقال النسائي: ليس بثقة"4. وقال الحافظ ابن حجر: "وفيه أيوب بن سويد، مختلف فيه"5.
قلت: لم أر فيه اختلافاً كثيراً، بل إنَّ الأئمة كالمجمعين على ضَعْفِهِ6، ولعلَّ أحسن ما قيل فيه هو قول ابن عديِّ رحمه الله، إذ قال: "له حديث صالح عن شيوخ معروفين، منهم: يونس بن يزيد بنسخة الزهري، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وابن جريج، والأوزاعي، والثوري، وغيرهم. ويقع في حديثه ما يوافقه الثقات عليه، ويقع فيه ما لا
1 هو: عبد الله بن شَوْذَبَ الخراساني، أبو عبد الرحمن، سكن البصرة ثم الشام، صدوق عابدٌ، من السابعة، مات سنة 156هـ أو 157هـ / بخ4. (التقريب 308) .
2 هو: يزيد بن حميد الضُّبَعي، بصريٌّ، مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من الخامسة، مات سنة 128هـ/ع. (التقريب 600) .
3 سنن البيهقي: (10/271) .
4 العلل المتناهية: (2/103) .
5 التلخيص الحبير: (3/97) .
6 انظر: تهذيب الكمال: (3/474 - 477) .
يوافقونه عليه، ويُكتب حديثه في جملة الضعفاء"1. وقال ابن حجر:"صدوق يخطئ".
فمثله يُكْتَبُ حديثه للاعتبار، ويُسْتَشْهَدُ به إن وافقتْ روايته رواية غيره، كما قال ابن القَيِّم رحمه الله:"وأيوب بن سويد وإن كان فيه ضعف، فحديثه يَصْلُحُ للاستشهادِ به"2.
ثم وقفت على متابعة جيدة لأيوب بن سويد هذا، وذلك فيما أخرجه الطبراني في (الكبير) 3 من طريق: ضمرة بن ربيعة4، عن ابن شوذب، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه به.
فهذا "ضمرة بن ربيعة" - راوية ابن شوذب والمختص به5 - قد رواه عن ابن شوذب، متابعاً بذلك أيوب بن سويد في روايته السالفة.
وَضَمُرَةُ هذا وَثقَهُ غير واحد من الأئمة6، وله أوهام قليلة - كما قال الحافظ ابن حجر:"يهم قليلاً" - لا تؤثر في ثقته وإتقانه،
1 الكامل: (1/363) .
2 إغاثة اللهفان: (2/77) .
(1/234) ح 760.
4 الفلسطيني، أبو عبد الله، أصله دمشقي، صدوق يَهِمُ قليلاً، من التاسعة، مات سنة 202هـ/ بخ4. (التقريب 280) .
5 انظر: تهذيب التهذيب: (5/255) ترجمة عبد الله بن شوذب.
6 تهذيب التهذيب: (4/461) .
ومثله حديثه لا ينزل عن درجة الحسن، وانضمام رواية أيوب بن سويد السابقة إليه تزيده قوة، وقد صَحَّحَ الحافظ الهيثمي رحمه الله إسناد رواية ضمرة هذه، فقال:"رواه الطبراني في الكبير، والصغير، ورجال الكبير ثقات"1.
فيصحُّ بهذه المتابعات حديث أنس، أو يكون حسناً على أقل أحواله، ولم أر أحداً أشار إلى هذه المتابعة أو نَبَّهَ عليها، ممن وقفت على كلامهم على هذا الحديث.
ثم ذكر ابن القَيِّم رحمه الله شاهداً آخر لهذا الحديث، وهو: حديث أبي أمامة رضي الله عنه. بنحو ما تقدم.
وهو حديث ضعيفٌ، وممن نصَّ على ضعفه: الإمام البيهقي رحمه الله، فقال:"وهذا ضعيف، لأن مكحولاً لم يسمع من أبي أمامة شيئاً، وأبو حفص الدمشقي هذا: مجهول"2. وقال الحافظ ابن حجر: "رواه البيهقي
…
بسند ضعيف"3.
وبعد، فهذه طرق هذا الحديث - أو أشهرها - وهي لا تخلو من ضَعْفٍ، وبعضها أحسن من بعض، وبخاصة حديث أنس وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما، ولاشكَّ أن اجتماع هذه الطرق يُقَوَِّي هذا
1 مجمع الزوائد: (4/144 - 145) .
2 السنن: (10/271) .
3 التلخيص الحبير: (3/97) .
الحديث، وهذا ما ذهب إليه ابن القَيِّم رحمه الله في هذا البحث؛ إذ ساق هذه الشواهد كلها تَقْوِيةً لهذا الحديث.
وقد أَيَّدَ ابنَ القَيِّم رحمه الله في ذلك جماعةٌ، فقال السخاوي عن طرق هذا الحديث:"لكن بانضمامها يقوى الحديث"1. وقال الشوكاني: "ولا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة، مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالثٍ منهم، مما يصير به الحديث منتهضاً للاحتجاج"2. وقال الشيخ الألباني: "وجملة القول: أن الحديث بمجموع هذه الطرق ثابت"3. وقال مرة أخرى: "فالحديث من الطريق الأول - يعني طريق أبي هريرة - حسنٌ، وهذه الشواهد والطرق تُرَقِّيهِ إلى درجة الصحة،، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم"4.
وقد رمز له الحافظ السيوطي بالصحة في (الجامع الصغير)5. هذا مع ما تقدم من تحسين الترمذي، وتصحيح الحاكم وغيره له.
وأما ما ذهب إليه بعض الأئمة من تضعيف هذا الحديث، كقول الشافعي:"ليس بثابت عند أهل الحديث"6. وقول الإمام أحمد: "باطل،
1 المقاصد الحسنة: (ص76) .
2 نيل الأوطار: (5/335) .
3 إرواء الغليل: (5/383) .
4 السلسلة الصحيحة: (ح 424) .
5 مع فيض القدير: (1/223) ح 308.
6 سنن البيهقي: (10/271) .
لا أعرفه من وجه يصح"1. وقول ابن ماجه: "وله طرقٌ ستة كلها ضعيفة"2: فقد ظهر من هذه الدراسة أنَّ الأمر على خلاف ذلك، وأن هذا الحديث لا ينزل بحال من الأحوال عن درجة الحسن، إن لم يكن صحيحاً، ولذلك ردَّ الحافظ السَّخَاويُّ القول بضعف طرقه كلها قائلاً: "لكن بانضمامها يَقْوى الحديث". وقال الشيخ الألباني ردًّا على ذلك: "فما نُقِلَ عن بعض المتقدمين: أنه ليس بثابت، فذلك باعتبار ما وقع له من طرق، لا بمجموع ما وصل منها إلينا"3. وهذا كلامٌ جيد منه رحمه الله، ومثله قوله: "وهذه الشواهد والطرق ترقيه إلى درجة الصحة، لاختلاف مخارجها، ولخلوها عن متهم". وهذا هو الصواب، والله أعلم.
1 التلخيص الحبير: (3/97) .
2 المقاصد الحسنة: (ص 76) .
3 إرواء الغليل: (5/383) .