الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - باب آخر منه
125-
(2) عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
…
إِنَّ عرشه على سمواته لهكذا" وقال بأصبعه مثل القبة عليه. "وإنَّه لَيَئِطُّ1 به أطيط الرَّحْلِ بالراكبِ".
تناول ابن القَيِّم رحمه الله هذا الحديث في (تهذيب السنن) 2، وتَوَسَّعَ في الكلام عليه، والردِّ على من ضَعَّفَهُ، والجواب عن العلل التي أُعِلَّ بها، وخلص إلى القول بثبوت الحديث، وأنه حديث حسن. وستأتي أجوبته رحمه الله أثناء هذا البحث إن شاء الله تعالى.
قلت: هذا الحديث أخرجه أبو داود في (سننه) 3، عن أحمد بن سعيد4 وجماعة واللفظ لأحمد.
وأخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) 5، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) 6، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 7، والذهبي
1 الأطّ والأَطِيطُ: نقيضُ صوت الْمَحَامِل والرِّحَالِ إذا ثَقُلَ عليها الركبان، وأطّ الرَّحْلُ والنَّسْعُ، يَئِطُّ أطّاً وأطِيطاً: صَوَّتَ. (لسان العرب ص: 92، مادة: أطط) .
(7/ 94 - 98) .
(5/ 94) ح 4726 ك السنة، باب في الجهمية.
4 ابن إبراهيم الرِّباطي المروزي، أبو عبد الله الأشقر، ثقة حافظ، من الحادية عشرة، مات سنة 246 هـ/ خ م د ت س. (التقريب 79) .
(1/ 253) ح 576.
(3/ 394) ح 656.
(ص 526) .
في (العلو) 1 كلهم من طريق: أحمد بن الأزهر2.
وأخرجه الدارقطني في (الصفات) 3، والطبراني في (الكبير) 4، من طريق: علي بن المديني، ويحيى بن معين كليهما.
وأخرجه الدارقطني في (الصفات) 5 - أيضاً - من طريق: محمد ابن يزيد المعروف بأخي كَرْخَويه - قال الدارقطني: "وكان من الثقات"-
وأخرجه ابن خزيمة في (التوحيد) 6 من طريق: محمد بن بشار7. كلهم عن:
وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة8، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم9، عن أبيه10، عن
(ص 37) .
2 ابن منيع، أبو الأزهر العبدي النيسابوري، صدوق كان يحفظ، ثم كبر فصار كتابه أثبت من حفظه، من الحادية عشرة، مات سنة 263 هـ / س ق. (التقريب 77) .
(ص 52) ح 39.
(2/ 132) ح 1547.
(ص 50) ح 38.
(1/ 239) ح 147.
7 ابن عثمان العبدي، البصري، أبو بكر، بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة 252 هـ / ع. (التقريب 469) .
8 ابن المغيرة بن الأخنس الثقفي، ثقة، من السادسة، مات سنة 128 هـ / د س ق. (التقريب 608) .
9 مقبول، من السادسة / د. (التقريب 138) .
10 هو: محمد بن جبير بن مطعم، ثقة عارف بالنسب، من الثالثة، مات على رأس المائة / ع. (التقريب 471) .
جده جبير بن مطعم رضي الله عنه.
وأخرجه الآجري في (الشريعة) 1 عن حفص بن عبد الرحمن2، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بالإسناد السابق إلى جبير بن مطعم.
ولفظه: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال
…
فذكر حديث الاستسقاء، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"ويحك!! أَتَدْرِي ما الله؟ إن عرشه على سمواته لهكذا" - وقال بأصبعه مثل القُبَّة عليه - "وإنه ليئطُ به أطيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِبِ". هذا سياق أبي داود، وعند ابن خزيمة: "إن الله على عرشه، وعرشه على سمواته، وسمواته على أرضه هكذا
…
". ولفظ الآجري: " إنه لفوق سماواته، وهو على عرشه"، وقريب منه لفظ البيهقي. وجاء عند اللالكائي مختصراً بدون ذكر القبة والأطيط، ولفظه: "إنه لفوق سماواته على عرشه".
وقد رُوِيَ هذا الحديثُ على وجه آخرَ، فأخرجه أبو داود في (سننه) 3 عن: محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، وعبد الأعلى. وابن أبي شيبة في كتاب (العرش) 4 عن: عبد الأعلى. وأبو الشيخ في (العظمة)
(ص 293) .
2 ابن عمر، أبو عمر البَلْخِي الفقيه، النيسابوري قاضيها، صدوقٌ عابدٌ، رُمِيَ بالإرجاء، من التاسعة، مات سنة199هـ/ قد س. (التقريب 172) .
(5/ 94 - 96) ح 4726.
(ص 56) ح 11.
(2/ 554) ح 198.
عن: محمد بن المثنى. وابن أبي عاصم في (السنة) 1 عن: ابن المثنى، وعبد الأعلى. والدارمي في (الرد على بشر المريسي) 2 عن: ابن بشار. كلهم عن: وهب بن جرير بالإسناد السابق، لكنهم قالوا فيه: عن: محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، وجبير بن محمد، كلاهما عن محمد بن جبير به. وجاء عند الدارمي مختصراً ليس فيه قصة الأعرابي.
قال أبو داود - عقب إشارته إلى هذا الخلاف في إسناده -: "والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح - يعني: عن يعقوب، عن جبير - وافقه عليه جماعة، منهم: يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً"3. وَصَوَّبَ الدارقطني - أيضاً - ما صَوَّبَه أبو داود هنا4، وكذا صَوَّبَه المزي5.
وقد أُعِلَّ هذا الحديث بعدَّة علل، أجمل ذلك المنذري في (تهذيب السنن) 6، فقال:"قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، إلا من هذا الوجه. ولم يقل فيه محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة".
(1/ 252) ح 575.
(ص 105) .
3 سنن أبي داود: (5/ 96) .
4 الصفات: (ص 53) .
5 تهذيب الكمال: (4/ 506) .
(7/ 97 - 101) .
قال المنذري: "ومحمد بن إسحاق مُدَلِّس، وإذا قال المدلس: عن فلان. ولم يقل: حدثنا، أو سمعت، أو أخبرنا، لا يحتجُّ بحديثه، وإلى هذا أشار البزار، مع أن ابن إسحاق إذا صَرَّحَ بالسماع: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بحديثه، فكيف إذا لم يصرح به". قال: "وقد رواه يحيى بن معين وغيره، فلم يذكروا فيه لفظة: به"1. قال: "وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي2: وقد تَفَرَّدَ به يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس الثقفي الأخنسي، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم
…
وليس لهما في صحيحي
…
البخاري
…
ومسلم رواية. وانفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب. وابن إسحاق: لا يحتجُّ بحديثه، وقد طعن فيه غير واحد من الأئمة، وَكَذَّبَه جماعة منهم".
فهذا حاصلُ ما أُعِلَّ به هذا الحديث، وقد تناول ابنُ القَيِّم هذه العلل بالجواب، فكان حاصل ما أجاب به:
أولاً: أما الطَّعْنُ في محمد بن إسحاق: فإنَّه مردود، قال:"إن ابن إسحاق بالموضع الذي جعله الله: من العلم والأمانة"3. ثم أخذ في نقل أقوال الأئمة في الثناء على محمد بن إسحاق ومدحه، وأن الترمذي صحح
1 كما عند ابن أبي عاصم: (ح 575)، والدارقطني:(ح 39)، والآجري:(ص293) .
2 هو ابن عساكر، وقد ألف في تضعيف هذا الحديث جزءاً سماه (تبيان الوهم والتخليط فيما أخرجه أبو داود من حديث الأطيط) . أفاد ذلك محقق كتاب (العرش) لابن أبي شيبة.
3 تهذيب السنن: (7/ 94) .
له حديثاً لم يأت إلا من طريقه، وهو حديث سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة
…
الحديث، قال ابن القَيِّم:"فهذا حكم قد تَفَرَّدَ به ابن إسحاق في الدنيا، وقد صححه الترمذي".
وأما القول بتكذيبه: فإن ذلك مبنيٌّ على ما حُكي عن هشام بن عروة، إذ قال:"حَدَّثَ عن امرأتي فاطمة بنت المنذر، وأُدْخِلْتُ عليها وهي بنت تسع، وما رآها رجل حتى لقيتُ الله".
وأجاب ابن القَيِّم رحمه الله عن ذلك: بأن سليمان بن داود الشاذكوني - راوي هذه الحكاية - اتُّهِم بالكذب، فلا يجوز القدح في الرجل بمثل روايته. ثم إن هشاماً نفى رؤيته لها، ولم ينف سماعه منها، ومعلوم أنه لا يلزم من انتفاء الرؤية انتفاء السماع، وفي هذا يقول الإمام أحمد:"لعله سمع منها في المسجد، أو دخل عليها فحدثته من وراء حجاب، فأي شيء في هذا؟ فقد كانت امرأة كبرت وأسنت"1. وقد رَدَّ الحافظ الذهبي رحمه الله هذه الحكاية بنحو ذلك2.
قلت: ولعلَّ الذي تطمئنُ إليه النفسُ في أمر ابن إسحاق: ما قرره الذهبيُّ رحمه الله؛ حيث قال: "
…
له ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السِّير، وأمَّا في أحاديث الأحكام: فينحطُّ حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شَذَّ فيه، فإنه يعد منكراً"3. وقال مرة: "فالذي
1 تهذيب السنن: (7/94) .
2 سير أعلام النبلاء: (7/ 49) .
3 المصدر السابق: (7/ 41) .
يظهر لي: أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق، وما انفرد به: ففيه نكارة؛ فإن في حفظه شيئاً"1.
قلت: وهذا الحديثُ من هذا القبيل؛ فإنَّ مداره على ابن إسحاق وحده، وإذا كان ما ينفرد به في الأحكام على هذه الصفة التي حكى الذهبيُّ - صاحب الاستقراء التام في الرِّجال - فإن ما ينفرد به في العقائد أولى أن يُتَوَقَّفَ فيه.
وعلى هذا، فإن إطلاق ابنِ القَيِّم القول بتوثيقِهِ، والاحتجاجِ بروايته لا يخلو من نظر.
ثانياً: وأما القولُ بأنَّ ابنَ إسحاقَ عنعنه، ولم يُصَرِّحْ بسماعه من يعقوب بن عتبة: فأجاب ابن القَيِّم بقوله: "فعلى تقدير العلم بهذا النفي: لا يخرج الحديث عن كونه حسناً، فإنه قد لقي يعقوب وسمع منه، وفي الصحيح قطعة من الاحتجاج بعنعنة الْمُدَلِّس: كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار، ونظائر كثيرة لذلك"2. كذا قال ابن القَيِّم رحمه الله! وهاهنا وقفات:
- الأولى: هل عنعنة الراوي عن شيخه تحمل على الاتصال بمجرد ثبوت اللقاء؟ الجمهور على أن ذلك لا يكون متصلاً إلا بشرط عدم
1 الميزان: (3/ 475) .
2 تهذيب السنن: (7/ 98) .
كون المعنعن مُدَلِّسَاً1، وهذا شرط أساسي، قال الحافظ الذهبي رحمه الله: "ثم بتقدير تيقن اللقاء، يشترط أن لا يكون الراوي عن شيخه مدلساً
…
فإن كان مدلساً: فالأظهر أنه لا يحمل على السماع"2. ولما كان ابن إسحاق مدلساً، فإن عنعنته لا تحمل هنا على الاتصال، خلافاً لما اختاره ابن القَيِّم رحمه الله.
- الثانية: فإذا ثبت أن ابن إسحاق من المدلسين، فهل يحتج بما قال فيه:"عن"، ولم يصرح بسماعه؟ قال النووي رحمه الله: " والصحيح التفصيل: فما رواه بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع: فمرسل، وما بينه فيه: كسمعت وحدثنا
…
فمقبول محتج به"3. وقال العلائي: "الصحيح الذي عليه جمهور أئمة الحديث والفقه والأصول: الاحتجاج بما رواه المدلس الثقة مما صرح فيه بالسماع، دون ما رواه بلفظ محتمل"4. وقال ابن حجر:"وحكم من ثبت عنه التدليس إذا كان عدلاً: أن لا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث على الأصح"5. فظهر من ذلك عدم الاحتجاج برواية المدلس ما لم يصرح بالسماع أو التحديث، خلافاً لما قاله ابن القَيِّم هنا.
وأما ما ذهب إليه رحمه الله من القول بالاحتجاج في
1 انظر: تدريب الراوي: (1/ 214 - 215) .
2 الموقظة: (ص 45) .
3 تدريب الراوي: (1/ 229 - 230) .
4 جامع التحصيل: (ص 111 - 112) .
5 نزهة النظر مع النخبة: (ص 43) .
الصحيح بعنعنة المدلسين، كأبي الزبير عن جابر، وسفيان عن عمرو بن دينار: فقد أجيب عن ذلك بأنه محمول على ثبوت السماع من جهة أخرى1، على أن هذا قد نوزع فيه أيضاً2.
وبعد ذلك كله: فإن ابن إسحاق قد عده الحافظ ابن حجر رحمه الله في الطبقة الرابعة3 من طبقات المدلسين، وهم:"الذين اتُّفِقَ على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، لكثرة تدليسهم عن الضعفاء والمجاهيل"4.
فإذا ثبت ذلك، فإن عنعنة ابن إسحاق وعدم تصريحه بالسماع في هذا الحديث تبقى علة لا يمكن دفعها، خلافاً لابن القَيِّم رحمه الله.
ثالثاً: أما عن تَفَرُّدِ جبير بن محمد به: فقد أجاب ابن القَيِّم رحمه الله عن ذلك: بأن محمد بن جبير ثقة، وعدم رواية أصحاب الصحيحين عنه ليس بعلة5. كذا وقع عند ابن القَيِّم "محمد بن جبير"، وقد تَقَدَّمَ أن كلام ابن عساكر في ابنه "جبير بن محمد بن جبير". ولا أدري: هل هذا خطأ طباعي، أم أن ابن القَيِّم فعلاً أراد محمد بن جبير؟
1 تدريب الراوي: (1/ 230) . وانظر الكلام على ذلك فيما تقدم (ص 319 - 321) .
2 انظر: النكت على ابن الصلاح: (2/ 635) .
3 طبقات المدلسين: (ص 132) .
4 المصدر السابق: (ص 24) .
5 انظر: تهذيب السنن: (7/ 98) .
وعلى كلِّ حال، فإنَّ جبير بن محمد مما يُعَلُّ به هذا الحديث، كما ذُكِر عن ابن عساكر؛ فإنه لم يرو عنه إلا: يعقوب بن عتبة، وحصين ابن عبد الرحمن1، ولم يوثقه مع ذلك أحد إلا ابن حبان، فإنه ذكره في (ثقاته)2.
وهو بهذه المثابة مجهول الحال، وقد قال عنه الحافظ ابن حجر:"مقبول"، يعني: حيث يتابع، ولم يتابعه أحد على هذا الحديث، فهو إذن لين الحديث.
ثم أخذ ابن القَيِّم في الجواب عن باقي علل هذا الحديث: كالقول باضطراب إسناده ومتنه وغير ذلك، فذهب إلى أن زيادة لفظة (به) من باب زيادة الثقات، وذلك لا يوجبُ رَدَّ الحديث3.
والذي يتلخصُ من ذلك: أن هذا الحديثَ ضعيفُ السَّنَدِ، غريبُ المتن:
1- لتفرد ابن إسحاق به، وقد عُرف القول فيما ينفردُ به.
2-
وعنعنته إياه، وهو مدلس.
3-
وضعفِ جبير بن محمد، إلى غير ذلك مما أعل به.
وأما جواب ابن القَيِّم عن هذه العلل: فإنه لا يُغْنِي عن ضعف
1 انظر: تهذيب التهذيب: (2/ 63) .
(6/ 148) .
3 تهذيب السنن: (7/ 98) .
الحديث شيئاً، - كما تقدم –؛ فإن جمعاً من الأئمة على إعلاله، وقد تقدم من ذلك قول: البزار، وابن عساكر، والمنذري، وأعَلَّهُ أيضاً: البيهقي رحمه الله، فقال: "وهذا حديث ينفرد به محمد بن إسحاق
…
"1. فذكر نحواً من الكلام المتقدم.
وقال الحافظ الذهبي: "هذا حديثٌ غريبٌ جداً فردٌ، وابن إسحاق حجةٌ في المغازي إذا أَسْنَدَ، وله مناكيرُ وعجائبُ، فالله أعلم أقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا أم لا
…
"2. واسْتَغْرَبَهُ كذلك الحافظ ابن كثير3 رحمه الله. وقال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف، ورجاله ثقات. لكن ابن إسحاق مُدَلِّس، ومثله لا يحتج به إلا إذا صرح بالتحديث، وهذا ما لم يفعله فيما وقفت عليه من الطرق إليه
…
"4.
والخطابي رحمه الله مع أنه أخذَ في تأويل هذا الحديث، إلا أنه - فيما يبدو - قد اختار إعلاله؛ إذ قال: "وذكر البخاري هذا الحديث في التاريخ5
…
ولم يُدْخِلْهُ في الجامع الصحيح"6.
ثم توجَّهَ ابن القَيِّم رحمه الله بعد ذلك إلى نفي تَفَرُّدِ ابنِ
1 الأسماء والصفات: (ص 528) .
2 العلو للعلي الغفار: (ص 39) .
3 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) .
4 ظلال الجنة في تخريج السنة: (ص 252) .
(1/ 2/ 224) .
6 معالم السنن: (7/ 97) .
إسحاق برواية هذا المعنى، فقال: "وقد رُوِيَ هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير حديث ابن إسحاق. فقال محمد بن عبد الله الكوفي - المعروف بمُطَيَّن-: حدثنا عبد الله بن الحكم وعثمان، قالا: حدثنا يحيى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن:
126-
(3) عمر رضي الله عنه، أنه قال: أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ، فقالت: ادْعُ الله أن يُدْخِلَنِي الجنة. فَعَظَّمَ أَمْرَ الرَّبِّ، ثم قال:" إِنَّ كُرْسِيَّه فوقَ السموات والأرض، وأنه يقعدُ عليه، فما يَفْضُل منه مقدار أربع أصابع" ثم قال بأصابعه فجمعها، "وأنَّ له أطيطاً كأطيط الرحل "1.
ثم قال ابن القَيِّم رحمه الله: "فإن قيل: عبد الله بن الحكم، وعثمان لا يعرفان. قيل: بل هما ثقتان مشهوران: عثمان بن أبي شيبة، وعبد الله بن الحكم القطواني، وهما من رجال الصحيح"2.
قلت: هذا الحديث أخرجه هكذا مسنداً: ابن أبي عاصم في (السنة) 3 عن: إسماعيل بن سالم الصائغ. والبزار في (مسنده) 4 عن: الفضل بن سهل. وابن خزيمة في (التوحيد) 5 عن: يعقوب بن إبراهيم
1 تهذيب السنن: (7/ 98) .
2 المصدر السابق: (7/ 99) .
(1/ 251) ح 574.
(1/ 457) ح 325.
(1/ 244) ح 150، 151.
الدورقي. والطبراني1 عن: عبيد الله بن أبي زياد القطواني. وأبو الشيخ في (العظمة) 2 عن: أبي بكر ابن إسحاق، والحسن بن ناصح. والدارقطني في (الصفات) 3 عن: أحمد بن منصور بن سيار، كلهم عن: يحيى بن أبي بكير4، عن إسرائيل5، عن أبي إسحاق6 السبيعي، عن عبد الله بن خليفة7، عن عمر رضي الله عنه به بنحو ما تقدم.
واللفظ الذي أورده ابن القَيِّم رحمه الله هو لفظ ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 8، من الطريق التي ذكرها ابن القَيِّم.
وفي هذا الحديث عِدُّة علل:
1 أخرجه من طريقه: أبو العلاء الهمداني في فتياه حول الصفات (100/ 1)، والضياء المقدسي في المختارة:(1/59)، وأبو محمد الدشتي في إثبات الحد:(134 - 135) . أفاد ذلك الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة: (2/257) ح866.
(2/ 548) ح193.
(ص 48) ح35.
4 واسم أبي بكير: نسر، الكرماني، كوفي الأصل، نزل بغداد، ثقة، من التاسعة، مات سنة 208 هـ أو 209 هـ/ع. (التقريب 588) .
5 ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو يوسف الكوفي، ثقة تُكُلِّم فيه بلا حجة، من السابعة، مات سنة 160 هـ وقيل بعدها / ع. (التقريب 104) .
6 هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد - ويقال: علي، ويقال: ابن أبي شعيرة - الهمداني، ثقة مكثر عابد، من الثالثة، اختلط بآخرة، مات سنة 129هـ/ع. (التقريب423) .
7 الهمداني، مقبول، من الثانية / فق. (التقريب 301) .
(1/ 4) ح 3 باب ذكر الاستواء على العرش.
أولها: جهالة عبد الله بن خليفة، راويه عن عمر: فقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) 1 ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وانفرد ابن حبان بتوثيقه2 على قاعدته، فيكون بهذه المثابة مجهول الحال، إذ انتفت جهالة عينه برواية أبي إسحاق، ويونس بن أبي إسحاق3 عنه، ولذلك قال عنه الذهبي رحمه الله:"لا يكاد يعرف"4. وقال الحافظ ابن كثير: "ليس بذاك المشهور"5. وقال فيه الحافظ ابن حجر: "مقبول" يعني: حيث يتابع، وإلا يكون لين الحديث، وهو لم يتابع هنا، إذ مدار الحديث عليه وحده.
العلة الثانية: اضطرابُه سنداً ومتناً: فقد رُوي عن عبد الله بن خليفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، أخرجه كذلك الدارمي في (الرد على المريسي) 6 من طريق: عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل به، وفيه: "
…
وإنه ليقعدُ عليه، فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع - وَمَدَّ أصابعه الأربع - وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركبه من يثقله". وأخرجه ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 7 من طريق: وكيع، عن إسرائيل به، ولفظه
(2/ 2/ 45) .
2 الثقات: (5/ 28) .
3 تهذيب التهذيب: (5/ 198) .
4 الميزان: (2/ 414) .
5 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) .
(ص 74) .
(1/ 4) ح 2.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الكرسيُّ الذي يجلس عليه عز وجل، ما يفضل منه
…
".
وقد وقع الحديث عند ابن خزيمة بالشك، ففيه: "
…
عبد الله بن خليفة - أظنه عن عمر - أن امرأة
…
" قال ابن خزيمة رحمه الله: "ما أدري: الشك والظن أنه عن عمر، هو من يحيى بن أبي بكير، أم من إسرائيل، قد رواه وكيع بن الجراح، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة مرسلاً، ليس فيه ذكر عمر لا بيقين ولا ظن"1.
وقد روي مع ذلك موقوفاً على عمر رضي الله عنه، رواه كذلك: الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه أنه قال:" إذ جَلَسَ تبارك وتعالى على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد". أخرجه من هذا الطريق: عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب (السنة) 2، وقد أشار البزار رحمه الله إلى هذه الرواية الموقوفة، فقال:"وقد روى الثوري هذا الحديث عن: أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر موقوفاً"3.
وقد أَعَلَّ الأئمة هذا الحديث من أجل هذا الاضطراب، فقال ابن الجوزي في (العلل المتناهية) 4: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده مضطرب جداً
…
وتارة يرويه ابن خليفة: عن عمر،
1 التوحيد: (1/ 245) .
(ص 79) ح 402، باب ذكر الكرسي.
3 مسند البزار: (1/ 458) .
(1/ 5 - 6) .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتارة يقفه على عمر. وتارة يوقف على ابن خليفة. وتارة يأتي: فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع. وتارة يأتي: فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، وكل هذا تخليط من الرواة، فلا يُعَوَّل عليه". وقال الحافظ ابن كثير: "
…
منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفاً، ومنهم من يرويه عنه مرسلاً، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة، ومنهم من يحذفها"1.
العلة الثالثة: أن أبا إسحاق السَّبيعي عَنْعَنَهُ، وهو مُدَلِّسٌ: وقد ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله ضمن الطبقة الثالثة من المدلسين2، والراجح في شأنهم: عدم قبول رواياتهم إلا إذا صرحوا بالسماع.
وعلة رابعة: ذكرها الحافظُ ابن كثير رحمه الله، فقال:"وفي سماعه - يعني عبد الله بن خليفة - من عمر نظر"3.
وكأن ابن خزيمة رحمه الله رَجَّحَ كونه مرسلا، ولذلك قال:"وليس هذا الخبر من شرطنا؛ لأنه غير متصل الإسناد. لسنا نحتج في هذا الجنس من العلم بالمراسيل والمنقطعات"4.
فإذا تَبَيَّنَ ضعف هذا الحديث، فإن الهيثمي رحمه الله لم يُصِبْ
1 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) .
2 طبقات المدلسين: (ص 101) .
3 تفسير القرآن العظيم: (1/ 310) .
4 التوحيد: (1/ 245 - 246) .
حين قال: "رجاله رجال الصحيح"1. فإنَّ عبد الله بن خليفة لم يخرج له أحد من أصحاب السنن الأربعة، فضلاً عن الصحيحين، ومثله قول أبي محمد الدّشتي في كتاب إثبات الحدِّ: "حديث صحيح، رواته على شرط البخاري ومسلم". نقل ذلك عنه الشيخ الألباني، ثم قال: "وهو خطأ بَيّنٌ مزدوج، فليس الحديث بصحيح، ولا رواته على شرطهما
…
فأنّى للحديث الصحة؟! بل هو حديث منكر عندي"2.
فتلخص من ذلك: أنَّ هذا الحديثَ ضعيفُ السَّنَدِ، مضطربٌ سنداً ومتناً، فمثله لا يصلح الاعتماد عليه في تقوية حديث ابن إسحاق الماضي. ومن ذلك يتضح عدم إصابة ابن القَيِّم رحمه الله حينما حاول تقوية هذا الحديث، حيث أخذ يقوي أمر عبد الله بن الحكم القطواني، وعثمان بن أبي شيبة، والحديث معلول من جهات أخرى كما تقدم.
وبالجملة: فقد نفى الحافظ الذهبي رحمه الله ثبوتَ لفظ الأطيط في أي خبر، فقال:"لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت"3.
وابن القَيِّم رحمه الله أورد ذلك في مقام الاستدلال على علوِّ الله عز وجل واستوائه على عرشه، وفيما صحَّ من الأحاديث والآثار في هذا الباب كفايةٌ، وقد ساق ابن القَيِّم بعد هذين الحديثين جملة من
1 مجمع الزوائد: (1/ 84) .
2 السلسلة الضعيفة: (2/ 257) ح 866.
3 العلو: (ص 39) .
الأحاديث الصحيحة في إثبات ذلك1، ولسنا بحاجة إذن إلى الاحتجاج بما اشتمل على بعض الألفاظ المنكرة.
يوضح ذلك ويبينه: قول الذهبي رحمه الله عقب هذا الحديث: "وقولنا في هذه الأحاديث: أننا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماء في قبوله وتأويله: فإنا لا نَتَعَرَّضُ له بتأويل، بل نرويه في الجملة ونبين حاله، وهذا الحديث - يعني حديث الأطيط - إنما سُقْنَاه لما فيه مما تواتر من علو الله - تعالى - فوق عرشه مما يوافق آيات الكتاب"2.
1 تهذيب السنن: (7/ 99 - 101) .
2 العلو: (ص 39) .