الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 - باب ما جاء في أطفال المشركين
128-
(5) عن أبي رجاء العطاردي قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول وهو على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزالُ أمرُ هذه الأمَّة مواتياً1 - أو مقارباً - ما لم يتكلموا في الولدان والقدر". قال أبو حاتم - يعني ابن حبان -: "الولدان. أراد بهم: أطفال المشركين".
عزا ابن القَيِّم رحمه الله هذا الحديث إلى (صحيح ابن حبان)، ثم قال:"وأَمَّا حديث أبي رجاءٍ العطاردي، عن ابن عباس: ففي رَفْعِهِ نَظَرٌ، والنَّاس إنما رووه موقوفاً عليه، وهو الأشبهُ، وابن حِبَّان كثيراً ما يرفعُ في كتابه ما يَعْلَمُ أئمة الحديث أنه موقوف"2.
وقال في موضع آخر: "في القلب من رَفْعِهِ شيءٌ، وإن أَخْرَجَهُ ابن حبان في (صحيحه) ، وهو يدلُّ على ذَمِّ من تَكَلَّمَ فيهم بغير علم، أو ضَرَبَ النُّصوصَ بعضها ببعض فيهم
…
وأما من تَكَلَّمَ فيهم بعلمٍ وحقٍّ: فلا"3.
1 المواتاة: حسنُ المطاوعة والموافقة، وأصله الهمز فخفف وكثر، حتى صار يقال بالواو الخالصة، وليس بالوجه. (النهاية 1/ 22) .
2 أحكام أهل الذمة: (2/ 622 - 623) .
3 طريق الهجرتين: (ص 674) .
قلت: هذا الحديث أخرجه ابن حبان في (صحيحه) 1، والحاكم في (المستدرك) 2، كلاهما من طريق: الحسن بن سفيان، عن محمد بن أبان الواسطي3 ويزيد بن صالح اليشكري4.
وأخرجه الحاكم في (مستدركه) من طريق: أبي داود السجستاني، عن سليمان بن حرب5 وشيبان بن أبي شيبة6. كلهم من طريق: جرير بن حازم، عن أبي رجاء العطاردي7، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، باللفظ المتقدم، ووقع عند الحاكم:"مُؤَامراً" بدل "مواتياً".
قال أبو عبد الله الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولا نعلم
1 الإحسان: (8/ 255) ح 6689.
(1/33) .
3 الطَحَّان، صدوقٌ تَكَلَّمَ فيه الأزدي، من العاشرة، مات سنة 238 هـ/خ. (التقريب 465) .
4 أبو خالد، الفَرَّاء، النيسابوري، قال أبو حاتم:"مجهول"، فرده الذهبي بقوله:"بل مشهور صدوق". وَوَثَّقَه ابن حبان. الجرح والتعديل: (4/2/272)، ثقات ابن حبان:(9/275)، المغني في الضعفاء:(2/750) . (وانظر الميزان: 4/ 429) .
5 الأزدي، البصري، قاضي مكة، ثقة إمام حافظ /ع. (التقريب 250) .
6 هو: شيبان بن فروخ الحبطي الأبلي، صدوق يهم ورمي بالقدر/ م د س. (التقريب269) .
7 هو: عمران بن ملحان - ويقال: ابن تيم - مشهور بكنيته، مخضرم، ثقة، مُعَمَّر، مات سنة 105هـ/ ع. (التقريب430) .
له علة، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي رحمه الله. قال الشيخ الألباني:"وهو كما قالا"1.
وساقه الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة ابن حبان من (سير النبلاء) 2 بإسناده إليه، ثم قال:"هذا حديث صحيح، ولم يخرج في الكتب الستة".
وعزاه الهيثمي إلى البزار والطبراني، ثم قال:"ورجال البزار رجال الصحيح"3.
فقد صحح الحديث مرفوعاً - كما نرى -: ابن حبان، والحاكم، والذهبي، والهيثمي، والألباني، ولم يقل أحد منهم: بأن رفعه خطأ.
وحينئذ فلا وجه لما قاله ابن القَيِّم من أن الصواب وقفه على ابن عباس، وأما قوله:"والناس إنما رووه موقوفاً عليه" فلم أقف بعد البحث على من رواه كذلك.
وأما تضعيفه من قِبَلِ ابن حبان، وأنه هو الذي رفعه: فغير مقبول أيضاً، وقد رواه الحاكم – كما سلف - من غير طريق ابن حبان، والبزار - وهو متقدم على ابن حبان - فكلهم جاء به مرفوعاً، فلم يبق متعلق في ذلك على ابن حبان، والله أعلم.
1 السلسلة الصحيحة: (4/ 19 - 20) ح 1515.
(16/ 103 - 104) .
3 مجمع الزوائد: (7/ 202) .
الخاتمة
في نهاية دراستي هذه لابن القَيِّم وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها، وبعد هذا التجوال في تراثه وآثاره النافعة، أسجل خلاصة ما تَضَمَّنَهُ بحثي هذا وأهمَّ النتائج التي أسفرتْ عنها هذه الدراسة:
1-
أَنَّ هذا الدِّين محفوظ بحفظ الله عز وجل له، وأنَّ من مظاهر هذا الحفظ: أولئك الأعلام الأفذاذ، والجهابذة الحُفَّاظ، الذين هَيَّأَهُم اللهُ - سبحانه - للذود عن دينه، ونُصْرَةِ شَرِيعَتِهِ، وأنَّ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ تأييداً خَاصَّاً من الله عز وجل.
2-
أنَّ ابن القَيِّم رحمه الله كان واحداً من أولئك الأعلام الذين نَصَرَ الله بهم الحق وهزم الباطل، وأظهر بهم السنة وقَمَعَ البدعة.
3-
كانت العلاقة وثيقة بين ابن القَيِّم وبين العصر الذي عاش فيه تأثراً وتأثيراً؛ لذا فقد كان للأوضاع السياسية، والاجتماعية، والدينية الْمُتَرَدِّيَةِ آنذاك أكبر الأثر على تَوَجُّهَاتِ ابن القَيِّم ودعوته الإصلاحية.
4-
أن ابن القَيِّم ولد في أُسْرَةٌ طَيِّبَة، وأن والده كان من أهل العلم والفضل، مما كان له - بتوفيق الله - أثر كبير في النشأة الصالحة لابن القَيِّم رحمه الله، وسلوكه طريق العلم وأهله.
5-
لقد كان ابن القَيِّم رحمه الله متحلياً بمحاسن الأخلاق، وجميل العادات، مع الاجتهاد في الطاعة والجدِّ في العبادة، وذلك بشهادة كل من عرفه وعايشه، فجمع رحمه الله بذلك بين العلم والعمل،
فبورك له في علمه ودعوته، وعمَّ النفع بهما، وَسَرَتْ بركة ذلك في الأجيال من بعده إلى يومنا هذا.
6-
عاش ابن القَيِّم حياته مجاهداً من أجل تحقيق أهداف نبيلة وغايات جليلة، تمثلت في: الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسُّنَّة الصحيحة، ونبذ ما سوى ذلك من البدع الْمُحْدَثَةِ والآراءِ المستحدثة، ومحاربة التَّعَصُّبِ المذهبيِّ، والتقليد الأعمى. ولقد كان ملتزماً ذلك في حياته كلها عملاً وسلوكاً، فأحيا الله على يديه - ومن قبله شيخه ابن تَيْمِيَّة - الدعوة السلفية النَيِّرَة في تلك الحقبة المظلمة.
7-
تَعَرَّضَ ابن القَيِّم رحمه الله في مسيرته الإصلاحية لمحنٍ شديدة وابتلاءات عديدة، نتيجة لصدعه بالحق، وقيامه في وجه الباطل، فلم يزده ذلك إلا ثباتاً على مبادئه، وصلابةً في مواجهة أعداء السُّنَّة وأهلها، فضرب رحمه الله بذلك أروع الأمثلة في الصبر والثبات وتحمل الأذى في ذات الله عز وجل.
8-
أما عن حياته العلمية: فقد بَرَّزَ وتفوق رحمه الله في علوم عديدة، بشهادة الأئمة الأعلام له بذلك، وهنا نقف على حقيقة مهمة، وهي: صعوبةُ الحُكْمِ على ابن القَيِّم رحمه الله بالتَّخَصُّصِ في فَنٍّ بعينه على حساب الفنون الأخرى؛ فقد شُهِدَ له بالتفوق في سائر العلوم والتقدم فيها.
9-
لقد كان لتتلمذ ابن القَيِّم رحمه الله على خيرةِ علماءِ عصرهِ وأعلام وقته - مع ولوعه باقتناء الكتب وجمعها - أثر كبير في تفوقه وبروزه العلمي.
10-
وبعد هذه الرحلة المباركة في خدمة هذا الدين، ترك ابن القَيِّم رحمه الله كتباً ومؤلفات مباركة، عَمَّ النفع بها على مَرِّ العصور والأزمان، حتى وقتنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فانقطع عمله رحمه الله من الدنيا، إلا من هذا العلم النافع، فلا زال النفع به مستمراً، جزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً.
11-
ولقد توافرت لمؤلفات ابن القَيِّم رحمه الله خصائص وميزات عديدة، كان لها أثر كبير في رِفْعَةِ شأنها وذيوعِ صيتها، وعشقِ القلوب لها، مع انتفاعِ البعيد والقريب بها.
12-
وفيما يتعلق بجانب الحديث وعلومه - موضوع هذه الدراسة - تبرز بعض الحقائق المهمة، فمن ذلك:
- تَمَكُّنُ ابن القَيِّم رحمه الله من قواعد (مصطلح الحديث) ، ومعرفته التامة بها، وتطبيقه لتلك القواعد واستفادته منها أثناء دراسته للأحاديث النبوية ومناقشتها.
بل إن له فضل السبق والتميز في بعض قضايا المصطلح؛ ككلامه في تقسيم الحديث الحسن إلى ثلاث مراتب، كما مرّ معنا.
- معرفته التامة بقواعد "الجرح والتعديل ونقد الرواة" ورسوخ قدمه في ذلك، كما سبق بيانه عند الكلام على إفاداته في هذا الباب، ومَنْ وَقَفَ على ما أضافه من ضوابط وتفصيلات في مسألة "طلب تفسير الجرح"، - مثلا - عَلِمَ إمامة الرجل في هذا الفنِّ.
- لابن القَيِّم رحمه الله في نقد رواة الأحاديث، والكلام على الرجال جرحاً وتعديلاً منهج مميزٌ، مع معرفة تامة بأقوال أئمة الشأن في الرواة: عالماً بمراميها، مُرَجِّحَاً بين مختلفها، موفقاً بين ما ظاهره التعارض منها.
- ومع كل ذلك: نرى اجتهاد ابن القَيِّم رحمه الله في إصدار أحكامٍ جامعةٍ على كثير من الرواة، وبيان مرتبتهم ومنزلتهم من القبول أو الردِّ؛ بما يدلُّ على شخصية مستقلة، وقدمٍ راسخةٍ، وإمامةٍ وتقدُّم في هذا الفن.
وحسبه في هذا الباب شرفاً أن يعتمد على أقواله في الرجال مثل الحافظ ابن حجر، كما تقدَّمَ نقل أمثلة لذلك عند الكلام على "أهمية أقوال ابن القَيِّم في الجرح والتعديل"، بل لعل قوله رحمه الله في العلاء ابن إسماعيل:(مجهول) ، يُعَدُّ المصدر الوحيد - فيما أعلم - للحكم على هذا الرجل.
- ظهرت ثمرة تمكن ابن القَيِّم من قواعد علوم الحديث في تطبيقه لتلك القواعد واستفادته منها في الحكم على المرويات ونقدها، بعد بذل الجهد في تخريجها وجمع طرقها.
وبذلك تبرز قيمة هذه القواعد وفائدتها في تحقيق الهدف الأسمى والمطلوب الأعلى، وهو: تمييز صحيح الأخبار من سقيمها، ومعلولها من سليمها.
13-
لم تقف جهود ابن القَيِّم عند هذا الحدِّ في مجال علوم الحديث وفنونه المختلفة، بل كانت له إسهامات مميزةٌ في جوانب أخرى، تمثل ذلك في: شرح الحديث، وبيان غريبه، واستنباط فقهه وأحكامه، واستخراج فوائده، والكشف عن دقائقه.
وبذلك يقدِّم لنا رحمه الله مثالاً يُحْتَذى في الجمع بين: المعرفة بقواعد الحديث وقوانين روايته، والفقه فيه ومعرفة أحكامه ودرايته. وذلك - لا شكَّ - من أعظم المقاصد، وأسمى المطالب.
14-
وتأكيداً للجانب العملي التطبيقي في إبراز جهود ابن القَيِّم في خدمة السنة النبوية وعلومها، فقد تناول هذا البحث مجموعة من الأحاديث التي حكم عليها ابن القَيِّم بتصحيح أو تضعيف أو غير ذلك، وتمت دراستها في ضوء أقوال الأئمة المعتبرين وحكمهم عليها، وقد بلغ عدد الأحاديث المدروسة حوالي مائة وأربعين حديثاً، أصاب ابن القَيِّم رحمه الله في الحكم على أكثرها، وجاء حكمه مرجوحاً في عدد قليل منها، ولا يضره ذلك ولا يقلل من مكانته؛ فإن ذلك يُعَدُّ قليلاً في جنب ما وُفِّقَ وسُدِّد فيه رحمه الله.
15-
هذه الأحكام التي صدرت من هذا الإمام الجهبذ، تعد خدمةً جليلةً في مجال نقد المرويات الحديثية، وبيان درجتها، وتمييز صحيحها من غيره، وتمثل حلقة في سلسلة الجهود المباركة لأئمة النقد وفرسانه على مرِّ العصور.
وفي النية - إن شاء الله - حَصْرُ كُلِّ الأحاديث التي تَكَلَّم عليها في جميع مؤلفاته، وتصنيفها، وإخراجها مطبوعة بحول الله وقوته، خدمة للسنة النبوية المشرفة، ولبنة تضاف إلى البناء الموسوعي في مجال نقد المرويات الحديثية والحكم عليها.
16-
وأخيراً: فإنه لا يفوتني أن أُسَجِّل توصيةً واقتراحاً ظهرت لي أهميته خلال رحلتي مع هذا الإمام العلامة، وهو: أنَّ تراثَ ذلك الإمام البحر لا يزال في حاجة مَاسَّة إلى خدمة أهل العلم وطلابه، وذلك باستخراج مكنون فوائده، وتقريب علومه للناس عامة، وأحسب أن ما قام به الشيخ بكر أبو زيد في كتابه:(تقريب فقه ابن القَيِّم) يمثل نموذجاً يُحْتَذَى في بقية علوم ابن القَيِّم.
فإنَّ استخراج الفوائد المتعلقة بكلِّ فَنٍّ من كُتب ابن القَيِّم المختلفة، وضَمِّ ما توافَقَ من ذلك في شكل موسوعي، أمرٌ تتطلبه ظروف الحياة العلمية في وقتنا الحاضر.
ولذلك فإنني أهيبُ بالهيئات العلمية المتخصصة - وعلى رأسها أقسام الدراسات العليا في هذه البلاد المباركة - أن توجه جهود باحثيها إلى خدمة علوم هذا الإمام وتراثه المبارك.
وَيُقَال مثل ذلك عن كتبه ومؤلفاته؛ فإن الكثير منها لا يزال بحاجة إلى تحقيق عِلْمِيٍّ يليقُ بمكانة هذا الإمام، ويتيح فرصاً أكثر للانتفاع بها.
ولذلك فإنني ألفت أنظار أهل العلم الغيورين على تراث هذا الإمام، المحبين له ولعلومه، إلى أن يولوا هذا الأمر عنايتهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.