الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - باب البدء في القسامة بأيمان المدعي
102-
(8) عن سهل بن أبي حَثْمَةَ: أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خَيْبَرَ، فَتَفَرَّقُوا فيها، فَوَجَدُوا أَحَدَهُم قتيلاً، فقالوا للذين وجدوه عندهم: قتلتم صَاحِبَنَا. فقالوا: ما قَتَلْنَاه ولا علمنا قاتلاً، فانطلقنا إلى نَبِيَّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لَهُم: "تَأْتُونِي بِالبَيِّنَة على من قَتَلَ هذا؟ " قالوا: مَا لَنَا بَيِّنة، قال:"فَيَحْلِفُوَن لكم؟ " قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مائة من إبل الصَّدَقَةِ.
هكذا رُوِيَ هذا الحديث عند أبي داود وجماعة، والمشهور في هذه القصة خلافه، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بأيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا طلب أيمان اليهود، ولا ذكر فيه للبينة. ووقع فيه خلاف آخر ستأتي الإشارة إليه.
قال ابن القيم رحمه الله: "والصَّوابُ: روايةُ الجماعة الذين هم أئمةٌ أثباتٌ: أنه بدأَ بأَيمان الْمُدَّعِين، فلما لم يحلفوا ثَنَّى بأيمانِ اليهود. وهذا هو المحفوظُ في هذه القصة، وما سواه وَهْمٌ"1.
قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري في (صحيحه) 2، وأبو داود، والنسائي في (سننيهما) 3، وكذا الدارقطني، والبيهقي في (سننيهما) 4 من
1 تهذيب السنن: (6/321) .
2 ك الديات، باب القسامة، ح 6898 (فتح الباري 12/229) .
3 د: (4/661) ح 4523 ك الديات، باب ترك القود بالقسامة. س (8/12) ك القسامة، باب تبدئة أهل الدم في القسامة.
4 قط: (3/110) ح 95. هق: (8/120) .
طرق، عن: أبي نعيم1. وأخرجه مسلم في (صحيحه) 2 من طريق: عبد الله بن نمير. كلاهما عن:
سعيد بن عبيد3، عن بشير بن يسار4، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ5 رضي الله عنه به. واللفظ المذكور هو لفظ أبي داود، ولفظ الباقين مثله، غير أنه جاء عند البخاري: "
…
فَكَرِهَ أن يُطَلَّ6 دمه" بدل "يبطل" عند الآخرين. أما مسلم، فإنه لم يسق لفظه في (صحيحه) . وساقه في كتابه (التمييز) بنحو لفظ البخاري، وسيأتي كلامه.
هكذا رواه سعيد بن عبيد، عن بشير، وخالفه يحيى بن سعيد القطان، فأخرجه مسلم في (صحيحه) 7، والنسائي في (سننه) 8، والشافعي في (رواية المزني) 9 ثلاثتهم من طريق: عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي. وأخرجه مسلم10 أيضاً، والترمذي11، والنسائي12، ثلاثتهم
1 هو: الفضل بن دكين.
(3/1294) ح 1669 (5) ، ك القسامة والمحاربين
…
، باب القسامة.
3 الطائي، أبو الهذيل الكوفي، ثقةٌ، من السادسة / خ د ت س. (التقريب 239) .
4 الحارثي، مولى الأنصار، مدني، ثقةٌ فقيهٌ، من الثالثة/ ع. (التقريب 126) .
5 ابن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي، المدني، صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وله أحاديث، مات في خلافة معاوية / ع. (التقريب 257) .
6 يقال: طُلَّ دمهُ، وأُطِلَّ، وأَطَلَّهُ الله: إذا أُهْدِرَ. (النهاية 3/136) .
(3/1293) ح 1669.
(8/10) .
(ص 423) ح 624 باب ما جاء في القسامة.
10 ح 1669 (1) .
11 في جامعه: (4/30) ح 1422 ك الديات، باب ما جاء في القسامة.
12 (8/7) .
من طريق: الليث بن سعد. وأخرجه الترمذي1 وحده من طريق: يزيد ابن هارون. وأخرجه مسلم، والنسائي2، والدارقطني3 من طريق: بشر ابن الفضل. وأخرجه النسائي4، والشافعي5 من طريق: سفيان بن عيينة. كلهم عن:
يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حَثْمَةَ - ووقعَ في رواية الليث بن سعد: عن سهل بن أبي حثمة، قال يحيى: وحسبت عن رافع بن خديج - أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد، ومحيصة بن مسعود بن زيد، حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك.." فساقا الحديث بنحو ما تقدم، وفيه: فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: "أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم؟ " قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً؟ " قالوا: وكيف نقبلُ أيمان قومٍ كُفَّار؟ فما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله6.
هذا سياق مسلم، ولفظ الآخرين نحوه.
فقد خالف يحيى بن سعيد - في حديثه هذا - سعيد بن عبيد في
(4/31) .
(8/9) .
(3/108) ح 91.
(8/11) .
5 رواية المزني: (ح 622) .
6 العقل: الدِّيَة. (النهاية 3/278) .
موضعين: فلم يذكر فيه سُوءَالَهُم البَيِّنَة، وذكر فيه طلبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أيمان الْمُدَّعين.
فذهب بعض أهل العلم إلى تقديم رواية يحيى بن سعيد، وقد قَرَّرَ ذلك الإمام مسلم رحمه الله في كتابه (التمييز) فقال - بعد أن ساق الحديث بإسناده إلى سعيد بن عبيد -:"هذا خبرٌ لم يحفظه سعيد ابن عبيد على صحته، ودخله الوهمُ حتى أغفل موضع حُكْمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهته. وذلك أن في الخبر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة: أن يحلف المدَّعون خمسين يميناً ويستحقون قاتلهم، فأبوا أن يحلفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يميناً. فلم يقبلوا أيمانهم، فعند ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عقله"1. ثم ساق الحديث من عدة طرق إلى يحيى بن سعيد على نحو ما تقدم، ثم قال: "وَتَواُطُؤ هذه الأخبار التي ذكرناها بخلاف رواية سعيد، يَقْضِي على سعيد بالغلط والوهم في خبر القسامة. وغير مشكل على من عقل التمييز من الحفاظ من نقلة الأخبار، ومن ليس كمثلهم: أن يحيى بن سعيد أحفظ من سعيد بن عبيد، وأرفع منه شأناً في طريق العلم وأسبابه"2.
ونقل ابن القيم رحمه الله عن النسائي قوله: "لا نعلمُ أحداً تابع سعيد بن عبيد على روايته عن بشير بن يسار"3.
1 التمييز: (ص 192) .
2 التمييز: (ص 194) .
3 تهذيب السنن: (6/320) .
وقال المنذري - في كلامه على حديث سعيد بن عبيد-: "وقد ذكرنا
…
اتفاق الحفاظ على البداءة بالمدعين"1.
فهذا مسلك هؤلاء في هذين الخبرين.
ورأى آخرون أنه لا تعارضَ بين الروايتين، وأن الجمع ممكن، فقال البيهقيُّ رحمه الله:"وإن صَحَّتْ رواية سعيد فهي لا تخالف رواية يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، لأنه قد يريد بالبَيِّنَة: الأيمان مع اللَّوث2، كما فسره يحيى بن سعيد، وقد يطالبهم بالبينة - كما في هذه الرواية - ثم يعرض عليهم الأيمان مع وجود اللوث، كما في رواية يحيى بن سعيد، ثم يَرُدُّها على الْمُدَّعَى عليهم عند نكول الْمُدَّعِين، كما في الروايتين"3.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "
…
في رواية سعيد بن عبيد: لم يذكر عرض الأيمان على المدعين، كما لم يقع في رواية يحيى بن سعيد طلب البينة أولاً، وطريق الجمع أن يقال: حَفِظَ أحدهم مالم يحفظ الآخر، فيحمل على أنه طلب البينة أولاً فلم تكن لهم بينة، فعرض عليهم الأيمان فامتنعوا، فعرض عليهم تحليف المدعى عليهم فأبوا". قال: "وقد وجدنا لطلب البينة في هذه القصة شاهداً من وجه آخر، أخرجه النسائي4 من طريق: عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن
1 مختصر السنن: (6/321) .
2 اللَّوْثُ: البَيِّنَة الضعيفة غير الكاملة. (المصباح المنير: 2/560) .
3 سنن البيهقي: (8/120) .
4 في سننه: (8/12) .
ابن محيصة الأصغر أصبحَ قتيلاً على أبواب خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَقِمْ شاهدين على من قتله، أَدْفَعْهُ إليك بِرِمَّتِهِ". قال: يا رسول الله أنَّى أصيبُ شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم؟ قال:"فتحلف خمسين قسامة". قال: فكيف أحلف على ما لا أعلم. قال: "تستحلف خمسين منهم". قال: كيف وهم يهود؟. قال: "وهذا السندُ صحيحٌ حسنٌ، وهو نصٌ في الحمل الذي ذكرته، فتعين المصير إليه"1.
وكأنَّ ابن القيم رحمه الله لم يستبعد إمكان الجمع أيضاً؛ فإنه بعد أن نقل كلام البيهقي السابق، قال:"ويدلُّ على ما ذكره البيهقي: حديث النسائي عن عمرو بن شعيب"2. وهذا بعينه مسلك ابن حجر كما مرَّ، إلا أنه - مع ذلك - قد صَوَّبَ ما ذهب إليه الإمام مسلم رحمه الله من ترجيح رواية يحيى بن سعيد، وتخطئة ما سواها.
قلت: ومسلكُ الجمع وجيهٌ؛ إذ إنَّ الجمع بين الوجوه التي ظاهرها التعارض، أولى من تخطئة الثقة بلا برهانٍ واضحٍ، وبَيِّنَةِ ظاهرة، لا سيما وقد وُجِدَتْ متابعة لرواية سعيد بن عبيد، كما مضى في كلام ابن حجر رحمه الله.
ثم إنه قد وقع خلافٌ على يحيى بن سعيد في روايته، ففي رواية حماد بن زيد عند مسلم3 وأبي داود4، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يُقْسِمُ خمسون
1 فتح الباري: (12/234) .
2 تهذيب السنن: (6/321) .
3 صحيح مسلم: ح 1669 (2) .
4 السنن: (4/655) ح 4520.
منكم على رجلٍ منهم فيدفع برمته". قال البيهقي: "هكذا رواه حماد بن زيد
…
والعدد أولى بالحفظ من الواحد"1. يعني أنهم لم يذكروا قوله: "على رجلٍ منهم".
وَثَمَّةَ خلاف آخر على يحيى بن سعيد؛ فقد أخرج البيهقي رحمه الله هذا الحديث من طريق ابن عيينة، عن يحيى، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً
…
" 2. فَقَدَّمَ أيمان اليهود.
قال أبو داود - وقد أشار إلى هذه الرواية -: "وهذا وَهْمٌ من ابن عيينة"3.
وقد نقل الشافعي عن ابن عيينة أنه لم يتقنه، فقال:"فكان سفيان يحدثه هكذا، وربما قال: لا أدري أَبَدَأَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصارَ في اليمين أم يهود؟ فقال له: إن الناس يحدثون أنه بدأ الأنصار، قال: فهو ذلك. وربما حَدَّثَهُ ولم يشكّ فيه"4. واستدلَّ البيهقي رحمه الله بذلك على أن ابن عيينة لم يتقنه إتقان الجماعة الكثيرين الذين رووه عن يحيى بخلاف ذلك5.
1 سنن البيهقي: (8/119) .
2 سنن البيهقي: (8/119) .
3 سنن أبي داود: (4/658) .
4 السنن المأثورة (رواية المزني) : (ص 423) .
5 سنن البيهقي: (8/119) .
فتلخص من ذلك: أن ابن القيم رحمه الله قد اختار رواية من روى البدءَ بأيمان الْمُدَّعِين، ولم يذكر طلبَ البينة، ورأى أنَّ ذلك هو الصواب، وأن ما عدا ذلك وَهْمٌ من قائله. وقد سبقه إلى ذلك: الإمام مسلم، والنسائي رحمهما الله. ومع ذلك، فإن القولَ بالجمع بين الخبرين، وعدم تعارضهما قول لا ينبغي إهماله أيضاً؛ لأن التأليف بين الأخبار أولى؛ لكون ذلك فيه إعمال لها جميعاً كما مضى، والله أعلم.