الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في السيدة زينب
كانت الساعة تقترب من العاشرة صباحاً عندما حطت الطائرة التي تقلني على أرض سوريا لأول مرة في حياتي.
زرت المسجد الأموي وتجولت في ضواحي دمشق متأملاً مساجدها القديمة وكنائسها العتيقة، لكن قدماي قادتني بعد هذه الجولة إلى منطقة "السيدة زينب" لينفتح لي بذلك أفق جديد في عالم الخلاف السني الشيعي.
ففي مسجد "السيدة زينب" رأيت عجباً
…
ألوف من الزائرين، بعضهم جالسٌ على الأرض في باحة المسجد، وبعضهم عند المرقد يضع نذره أو يركع ركعتي الزيارة، وبعضهم في ناحية أخرى من المسجد في صالة كبيرة أظنها حسينية يستمع لمحاضرة أحد علماء الشيعة.
لقد شاهدت وكلي عجب، بعض زائري المرقد وهم يدخنون السجائر في باحة المسجد دون أدنى شعور بالإثم وبحُرمة المكان الذي تُدخن فيه السجائر! ومما زاد عجبي أنني لم أر إنكاراً من بقية الزائرين أو المصلّين لمثل هذا الفعل، وكأنّ المسألة مألوفة عندهم لا تُستنكر! (1)
(1) ذكر لي أحد الأصدقاء أنه قرأ في أحد كتب التيجاني السماوي ما يشير إلى الفكرة نفسها التي ذكرتها له فاقتنيت الكتاب المشار إليه وتفاجأت بأنّ التيجاني يتكلم عن الذي شاهدته كظاهرة اعتيادية في المساجد والمراقد!
يقول التيجاني في كتابه "كل الحلول عند آل الرسول" ص169 تحت عنوان (التدخين في أماكن الصلاة): (كثيراً ما ينتقد أهل السنة والجماعة على الشيعة تدخينهم في المساجد، ويقولون بأنّ ذلك منكر من أعمال الشياطين. والحق يُقال أنها ظاهرة تكاد تكون عامة عند الشيعة فإذا دخلت مساجدهم لأول مرة فسوف تصدمك تلك الظاهرة. وأتذكر أني صُدمت بذلك أول مرة واستغربت ذلك منهم واستنكرته عندما زرت النجف الأشرف، وسألت بعض علمائهم عن ذلك فأجابوني بأجوبةلم أقتنع بها حتى الآن)!
لقد كانت الساعات تمر عليّ دون أن أشعر بها، قضيت ساعات طوالاً في "السيدة زينب" بين مطالعة الكتب وتأمل زوار الضريح، وقد كنت أمر في طريقي إلى مسجد "السيدة زينب" بحوزة الشيرازي - وهي حوزة كبيرة تطل على الشارع المؤدي إلى المسجد – فأشاهد بعضاً من سادة وعلماء الشيعة وقوفاً عند الحوزة أو خارجين منها، فتتحرك في نفسي الرغبة في الالتحاق بهذه الحوزة، لولا إصرار والدتي عليّ ألا أفعل.
لكني لن أنسى أبداً شاباً عراقياً تعرفت عليه في "السيدة زينب" وصحبته برهة من الزمن كان له أثره الجيد في نفسي وفي التعرف على واقع الشيعة أكثر.
بدا لي شاباً من عامة الشيعة، لكنه ابن عالم شيعي هاجر من العراق إلى إيران منذ أكثر من خمس عشرة سنة، فنشأ وترعرع في إيران ثم قدم إلى سوريا مع أبيه ليعمل في احدى مكتبات "السيدة زينب"(1).
أبديت له إعجابي بصراحته ووضوحه، فهو شخص لم تستخفه الطائفية المقيتة التي ابتلي بها أكثر الناس اليوم، فلم يكذبني القول في حديثه بل كان صريحاً معي للغاية بخلاف غيره ممن التقيت بهم من الشيعة.
قلت له: اعلم قبل كل شيء أنه من السهل عليّ أن أكون متحاملاً على الشيعة فأكتفي بكتب خصومهم وأحكم عليكم بالضلال وأُغلق باب النقاش منذ البداية كما يفعل ذلك كثير من الناس، لكني ناشد حق، يبحث عن ضالته بين ركام من التهم والأباطيل.
فرحّب بي وقال لي: أنا مستعد لكل ما تريده.
(1) في زيارتي الأخيرة لسوريا سنة 2006م لم أجد ذاك الشاب ولا تلك المكتبة التي كانت معروفة آنذاك باسم "مكتبة السيدة رقية" ويبدو أنها بيعت واستبدلت باسم آخر.
كان يتكلم بتلقائية متناهية، لا زلت أتذكر قوله:(لا أدري كيف خرجت الثورة الإسلامية في إيران .. الناس هناك بعيدة عن الدين، الكثيرون يفطرون في نهار رمضان دون مبالاة بإثم أو بفريضة، فضلاً عن تقصيرهم في الصلوات، لو كانت الثورة قد خرجت في العراق لكان الأمر أكثر واقعية، لأنّ الشيعة هناك شيعة بحق، بخلاف إيران التي أرى أن حكومتها شيعية لكن شعبها بعيد كل البعد عن الدين).
بعد أيام من الجلوس معه سألته أسئلة أخرى كان أحدها عن موقفه من علماء الشيعة الذي صرّحوا بوقوع التحريف في القرآن الكريم، فأجابني بقوله: أبداً، لم يقل عالم من علمائنا بتحريف القرآن!
فقلت له: أخي الكريم، نحن الآن في منطقة المكتبات والكتب الشيعية متوفرة، فهل لي أن أريك هذه الأقوال؟
وقد كنت حينها لا أتذكر إلا موضعاً واحداً من تلك المواضع، فخرجنا إلى مكتبة من المكتبات فقال لي: أي كتاب تريد؟
فقلت: "تفسير الصافي" للعلامة الشيعي الكاشاني (1).
(1) محسن بن المرتضى الكاشاني الملقّب بـ"الفيض الكاشاني"، ترجم له الأردبيلي في "جامع الرواة 2/ 42" بقوله:(العلامة المحقق المدقق جليل القدر، عظيم الشأن رفيع المنزلة، فاضل كامل أديب متبحر في جميع العلوم).
وقال عنه الأميني في موسوعته "الغدير 11/ 362" عند ذكر ابنه "علم الهدى": (علم الفقه وراية الحديث ومنار الفلسفة ومعدن العرفان، وطود الأخلاق، وعباب العلوم والمعارف. هو ابن ذلك الفذ الذي قلّ ما أنتج شكل الدهر بمثيله، وعقمت الأيام عن أن تأتي بمشبهه).
فسلّم على صاحب المكتبة وطلب منه المجلد الأول من تفسير "الصافي" ثم خرجنا من المكتبة ووقفنا بجانبها، فأريته الموضع وجلس طويلاً يعيد قراءته وهو لا يكاد يصدّق (1).
فقلت له: عزيزي، لست أقصد من وراء إرشادك لهذا الموضع أن أستعرض عضلاتي أو أن أشكك في عقيدتك، قصدي واضح لا غبار عليه، أريدك أن تنتصر للإسلام من كل من يطعن فيه وينتقصه كائناً من كان، سنياً كان أو شيعياً، لا تقرأ وتزن الأمور بعيني شيعي يريد الانتصار للمذهب بحق أو بباطل وإنما ردّ الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله واجعلهما الحاكمين. فاكتفى بقوله: سأسأل عنه أبي وأخبرك.
بعد يوم من هذا اللقاء أخبرني بأنه ذهب لأبيه وذكر له أني أرشدته إلى موضع في تفسير الصافي يدّعي فيه الكاشاني أنّ قرآن المسلمين الذي بين أيدينا اليوم محرّف!
(1) خصص الكاشاني في تفسيره "الصافي" المقدمة السادسة من مقدماته لإثبات تحريف القرآن، وعنون لهذه المقدمة بقوله (المقدمة السادسة في نبذ مما جاء في جمع القرآن، وتحريفه وزيادته ونقصه، وتأويل ذلك).
وبعد أن ذكر الروايات التي استدل بها على تحريف القرآن، والتي نقلها من أوثق المصادر الشيعية المعتمدة خرج بنتيجة عبّر عنها بقوله:(والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أنّ القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي (ع) في كثير من المواضع، ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك، وأنه ليس أيضا على الترتيب المرضي عند الله، وعند رسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكر بعد هذا أن القول بالتحريف اعتقاد كبار مشايخ الإمامية قال:(وأما اعتقاد مشايخنا رضي الله عنهم في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي، ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه علي بن إبراهيم القمي فإن تفسيره مملوء منه، وله غلو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي فإنه أيضا نسج على منوالهما في كتاب الإحتجاج).
يقول: قبل أن أخبر أبي عن الموضع بالضبط، بادرني بإخباري عن رقم المجلد ورقم الصفحة والموضع بالذات، ثم قال لي: أخطأ الكاشاني في المسألة ونحن لا نوافقه على خطئه وانتهى الأمر.
فقلت للشاب: وأنت ما رأيك؟ أتوافق أباك فيما قاله؟
قال: نعم، الكاشاني أخطأ ونحن لا نوافقه.
فقلت له: القرآن هو المصدر الأول الذي يقوم عليه التشريع الإسلامي، والتشكيك فيه والقول بوقوع التحريف فيه هدم للدين، لو كنا نتكلم عن مسألة فقهية بسيطة لكان كافياً أن يُقال (فلان أخطأ وانتهى الأمر)، أما أن يطعن الكاشاني في كتاب الله بهذه الصورة وتقول عنه أخطأ، فليس هذا بصحيح أبداً.
يا صاحبي، انس للحظات أنّ الكاشاني شيعي وانتصر لكتاب الله، إن لم يكن الطعن في كتاب الله والتشكيك فيه أو القول بزيادته أو نقصانه كفراً، فما هو الكفر؟
صمتّ ولم أشأ أن أحرجه وأثقل عليه، فأغلقت الموضوع، وبقيت معه زمناً أتناقش معه في أمور أخرى حتى فاجأني يوماً باعتذار على استيحاء يقول لي فيه بأنّ أحد السادة طلب منه أن لا يجالسني، لم أطلب منه تفسيراً مقنعاً لهذا الطلب فقد تفهمت وضعه فشكرته شكر مودع على أمل اللقاء به في يوم من الأيام.
رجعت من "السيدة زينب" محمّلاً بالكتب بعد شهر كامل قضيته في سوريا، وبت متشوقاً لقراءة ما قدمت به من هناك.
لقد كانت هذه الزيارة كنزاً نفيساً أهداني إياه الزمان، لكنه لم يكن الوحيد.
فقد كان للنقاشات الفردية أيضاً دورها في هذا الإثراء المعرفي كما سيأتي بيانه بين طيات هذا السِفر.