المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190))

(1)

وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)

(2)

، وقال:(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)

(3)

.

وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القتلةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنوا الذبحةَ".

فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة، ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض.

والغالب أن‌

‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

، وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشدَّ من الفاجر في دنياه، وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررتُ هذا في قاعدة "بيان أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وبما يعقل به ذلك من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه.

(1)

سورة البقرة: 190.

(2)

سورة المائدة: 8.

(3)

سورة المائدة: 2.

ص: 40

فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرًا من أهل العلم والدين والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركّبٌ منهما، فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في

(1)

أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا

(2)

لهم حقاً واجبًا، أو يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون

(3)

بباب قتال أهل العدل والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعاً باغيتين بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة بين الأمة، كما قال تعالى:(وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)

(4)

، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم.

وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا بغياً بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، والباغي قد يكون متأولاً وقد لا يكون متأولاً، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم لا اتباعهم.

(1)

في الأصل: "من".

(2)

في الأصل: "ان يذكر" تحريف.

(3)

في الأصل: "ويتعلق".

(4)

سورة الشورى: 14.

ص: 41

فتدبَّرْ العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنه باغٍ لهانت القضيةُ، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بُغاة، بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يُعرِضون عن تصور بَغْيِهم، ولولا هذا لم تكن البغاة متاولين، بل كانوا ظلمةً ظلمًا صريحًا، وهم البغاة الذين لا تاويل معهم.

وهذا القدر من البغي بتاويل

(1)

، وأحيانًا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى، وقوم قعدوا اتباعًا لما جاء من النصوص في الإمساك في الفتنة.

والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي فتنٌ، وإن لم تَبلُغِ السيفَ، وكل ذلك تفرق بغيًا، فعليك بالعدل والاعتدال والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، وردّ ما تنازعت فيه الأمة إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون

(2)

أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

تمت القاعدة

(1)

في الأصل: "تاويل".

(2)

في الأصل: "المتنازعين".

ص: 42

فصل في حق الله على عباده وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك

ص: 43

فصل

في حق الله على عباده، وقِسْمِه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه، ونحو ذلك.

قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58))

(1)

وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعمُ اللفظ: مِن رزقٍ لي، ومن رزقي لهم، ومن رزقٍ من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك:(وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا

(2)

أحداً، فإن الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين.

فبيَّن الله بهذه الآية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن الرزق وإطعامه، دلَّ على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة الرزق والإطعام دليلٌ

(3)

على أن له حقاً عليهم

(1)

سورة الذاريات: 56 - 58.

(2)

في الأصل بإثبات النون، والصواب حذفها، أو إثباتها وحذف "أحدًا".

(3)

في الأصل: "دليلاً".

ص: 45

يريده منهم، وهو محبّ له، راضٍ به.

وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)

(1)

وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)

(2)

، وقال:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222))

(3)

، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)

(4)

، وقال:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42))

(5)

، وقال:(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)

(6)

، وقال:(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)

(7)

، وقال:(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) في مواضع

(8)

.

وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح

(9)

عن معاذ بن جبل قال: كنتُ رديفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معاذُ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم".

وروى الطبراني في كتاب الدعاء

(10)

مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول

(1)

سورة الحج: 37.

(2)

سورة فاطر: 10.

(3)

سورة البقرة: 222.

(4)

سورة الصف: 4.

(5)

سورة المائدة: 42.

(6)

سورة المائدة: 54.

(7)

سورة آل عمران: 31.

(8)

سورة المائدة: 119، سورة التوبة: 100، سورة البينة:8.

(9)

البخاري (128 ومواضع أخرى) مسلم (30).

(10)

برقم (16) من حديث صالح المريّ عن الحسن عن أنس. وصالح ضعيف.

ص: 46

الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئَا، وأما التي هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك الدعاء وعليَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأتِ إلى الناس ما تُحِبُّ أن يأتوه إليك ".

وفي صحيح مسلم

(1)

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفهاِ لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2))، يقول الله: حَمِدَني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3))، يقول الله: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين (4))، يقول الله: مجَّدني عبدي- وفيِ رواية: فوَّض إليَّ عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قال الله: فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل".

ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة- لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و]

(1)

برقم (395).

ص: 47

لا بدَّ أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصيةٌ تعود إلى الرب، تميزها عن نصف العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب، لا بدَّ فيه من خاصية للرب.

وأيضًا فإن الله أخبر (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)

(1)

، وقال تعالى:(الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية

(2)

، وقد ورد في الصحيحين

(3)

عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يَظلِمْ نفسَه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيمٌ " أو كما قال.

وفي الحديث عن طائفة من السلف، ورُوي مرفوعًا

(4)

: "الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضًا".

وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ

(1)

سورة لقمان: 13.

(2)

سورة الأنعام: 82.

(3)

البخاري (32) ومسلم (124).

(4)

أخرجه أحمد في مسنده (6/ 240) والحاكم في "المستدرك"(4/ 575) من حديث عائشة مرفوعاً. وإسناده ضعيف. قال الذهبي في تلخيص المستدرك: صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة.

ص: 48

يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254))

(1)

، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسمًا خارجًا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقًّا قد ضيَّعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفةً لأمر الله وتركًا لما أوجبه، وجنايةً على دين الله.

وأيضًا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررتُ هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينتُ الفرقَ بين كلماته الكونيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل الدين والقدر وتعارضهما.

وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعًا من بين سائر الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبًا مأمورًا به، وذلك من وجهين:

أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم.

(1)

سورة البقرة: 254.

ص: 49

والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبًا لله مرضيًّا محمودًا مفروحًا به، وإلا فنفسُ تَنعُّم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا وفساد هذا، سواءٌ بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبًا له، مرضيًّا مفروحًا به، محمودًا مثنيًّا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطًا عليه، ممقوتًا مبغضًا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب.

وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسرّ الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير، ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره بالدين.

فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعًا بالجميع ولا عائدًا منه حكم إلى الفاعل، وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه اضطرابًا لا ينضبط.

وقد يوافق بعض أهل السنة -من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل خلقَ وأمرَ لمحض المشيئة، وصِرْف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ونفعهم، ولا غير ذلك.

ص: 50

ثم إن كثيرًا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان

(1)

، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما ردّ ذلك إلى محض المشيئة والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة- التي تتضمن التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء فيها من البطلان والشناعة ما يُعلَم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون.

ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية.

ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودًا للفاعل ولا مرادًا له بالقصد الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحِكَم والعِلَل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن الإرادة بما يناقض ما قالوه.

ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبِتون وراء العلم والإرادة لا حكمةً، ولا رحمةً، ولا لطفًا، ولا محبةً، ولا رضًى، ولا فرحًا، ولا غضبًا، ولا مقتًا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلاً-: معلومٌ أن الإرادة المحضة خاصتها التخصيص

(1)

في الأصل: "هذين القولين".

ص: 51

والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، والنعيم دون العذاب، وجَعْلُ هذا محبوبًا، وهذا مودودًا مرضئا، وهذا ممقوتًا مبغضًا مسخوطًا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة متعلقة

(1)

بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمُها في سائر أنوٍ اع الحوادث حكم واحد، فلِمَ سُمِّيَتْ هنا محبة وهنا بُغضًا؟ وهنا رضى وهنا غضبًا؟ وهنا مودةً وهنا مقتًا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح والمريض والَامن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: هذا محبوب مرضيٌّ مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعمًا بما هو فيه، والَاخر معذَّبًا بما هو فيه.

فإذا كان قد أثاب قومًا بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قومًا بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين الجائع والشبعان، وبأنه بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبًا ومكروهًا، ولم يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبًا ومكروهًا، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، فتعلُّقُ الحبِّ والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به ذلك- مع

(1)

في الأصل: "المتعلقة".

ص: 52

أن الإرادة عامةُ التعلُّقِ بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو باب الآخر.

وهذا بَيِّنٌ معقولٌ ببرهانٍ لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، كما كان أصلُ التخصيصِ دليلاً على ثبوت الإرادة.

ويُقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعَطَّلتم صفاتِ الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع.

ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة إليه، نَفَعَهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسًا على الخلق، فالخلق إنما يحسُنُ منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنًا.

ويقال لكم أيضًا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبلَ أن ينفع وبعدَ ما ينفع، فيُكسِب نفسَه بذلك صفةَ كمالٍ له، يُدرِك ذلك من نفسه، ويُدرِك ذلك الخلقُ منه، فنفسُ السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال الله تعالى:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10))

(1)

، وقال:(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ

(1)

سورة الشمس: 9، 10.

ص: 53

بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10))

(1)

، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة.

ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادرٌ، فهلَاّ حصل؟ ففي انتفائه في صُوَرٍ كثيرة وحصول الضرر دليلٌ على أن هناك مقصودًا آخر.

ويُورَد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك، وقد عُرفَ اعتذارُهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد.

ويُقال لهم: ما الموجبُ لما وقع من أنواع المضرَّات بالكفار والفساق؟ إذا كان المقصودُ نفعَهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟ لولا أن هناك أسبابًا أخرى وحكمةً أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا هذا.

وأيضًا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والودَّ والمقت والرضا والغضب والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرًا ما يطلقان في خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض الذي هو الوَصَبُ والنَّصَبُ والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله تعالى: (وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ

(1)

سورة الليل: 5 - 10.

ص: 54

مُصَفًّى)

(1)

، وقال:(وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)

(2)

، وقال تعالى:(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24))

(3)

، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان، والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعمَّ في الاستعمال، ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه، ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يُروى في الحديث الصحيح

(4)

-: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضرّي فتضروني"، وهذا الحديث ينفي بلوغَ الخلقِ لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلقُ فإنما فعلوه بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به.

وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)

(5)

، وقال:(فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)

(6)

، وقال في الحديث الصحيح

(7)

: "يؤذيني ابن آدم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أصبرَ على أذى يسمعه من الله "

(8)

، كما قال:"ما أحدٌ أحبَّ إليه المدحُ من الله "

(9)

، وقال: "ما

(1)

سورة محمد: 15.

(2)

سورة الزخرف: 71.

(3)

سورة الانشقاق: 24.

(4)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.

(5)

سورة الأحزاب: 57.

(6)

سورة الزخرف: 55.

(7)

عند مسلم (2246) من حديث أبي هريرة.

(8)

أخرجه البخاري (6099) ومسلم (2804) من حديث أبي موسى.

(9)

أخرجه البخاري (4634) ومسلم (2760) من حديث ابن مسعود.

ص: 55

أحدٌ أغيرَ من الله، وما أحدٌ أحبَّ إليه العذرُ من الله"

(1)

، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه ليس أحد يحب أن يُمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى خلقه له، ويَغَارُ أن تُرتكب محارمه.

وعن هذا خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة: "ما انتقمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ لنفسه، إلا أن تُنتَهك محارمُ الله، فإذا انتُهِكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله"

(2)

. فهذا صبر الرسول على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله.

وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليُحمَد ويُشكَر ويُمجَّد، أعني خَلْقَه سبحانه للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى:(إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

(3)

، وقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

(4)

، وقوله:(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

(5)

، وقوله:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)

(6)

، وقوله:(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ)

(7)

، وقوله: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ

(1)

أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة.

(2)

أخرجه البخاري (6853) ومسلم (2327).

(3)

سورة الذاريات: 56.

(4)

سورة البقرة: 21.

(5)

سورة المائدة: 89.

(6)

سورة البقرة: 152.

(7)

سورة لقمان: 14.

ص: 56

وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6))

(1)

، وقوله:(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37))

(2)

.

وفي الأحاديث كثير، مثل قوله

(3)

.

لكن هؤلاء [يَردُ] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال متعَلق بالأسماء والصفات.

أحدهما: أنه فعل ذلك، فلمَ لا حصلَ مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده العبادة، فلِمَ لا حَصلت من جميعهم؟

وهذا السؤال لما استشعر الناس وُرُوْدَه، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ممن ينصر السنة:(إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56))

(4)

: إلا ليعرفُون، يعني المعرفة العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا الَقول ضعيف جدّا، لأنه ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أيُّ مقصود له في ذلك حتى ينفيَ إطعامَهم ويُثبِتَ ذلك، إذا كان الكلُّ سواء؟

ومنهم من جعل الجنَّ والإنس هنا خاصّا لمن عبدَه، وهو ضعيف لوجوه.

ومنهم من قال: إلا لآمُرَهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمّم.

(1)

سورة المائدة: 6.

(2)

سورة إبراهيم: 37.

(3)

بعده في الأصل:"في الأصل مكان خال مقدار سبعة أسطر".

(4)

سورة الذاريات: 56.

ص: 57

وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يُرِدْ غيرَ ذلك، لكن منهم من خالف مرادَه كما عصى أمرَه، ومنهم من لم يخالف.

فقيل لهم: ولِمَ خلقَهم للعبادة؟

فقالوا: لنفعهم.

قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل.

وقيل لهم: لأيِّ شيء أراد نفعَهم؟ فاضطربوا.

ثم قيل لهم: فلِمَ لا أعانَهم على مراده؟

فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يُمكِنه أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن يجبرهم ويضطرَّهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم الفاسدة ما يطول وصفه، وردّ الناس عليهم ردودًا يطول وصفها.

وقيل لهم: وقد قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا)

(1)

، وقال:(وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)

(2)

، قال جمهور السلف: ما دلَّ عليه الخطاب: خلقَ فريقًا للرحمة، وفريقًا للاختلاف.

فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد

(1)

سورة الأعراف: 179.

(2)

سورة هود: 118، 119.

ص: 58

والإرادة، فإن الفاعل الذي يَقصِدُ غايةً تكون اللام في فعله للتعليل والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام العاقبة.

فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله:(فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)

(1)

، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، كقولهم

(2)

:

لِدُوا للمَوتِ وابْنُوا للخَرابِ

وقولهم

(3)

:

وللموتِ مَا تَلِدُ الوالِدَهْ

فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرتُه على وجودِها ودفعِها، يبتغي أن لا يكون مريداً لها.

فافترق القدرية فرقتين:

منهم من اختار أنه لم يكن عالمًا بما يؤولُ إليه الأمرُ من الطاعة والمعصية.

(1)

سورة القصص: 8.

(2)

هذا صدر بيت عجزه: فكلكم يصير إلى ذهابِ. واختلف في نسبته، فهو لأبي نواس في ديوانه (ص 200)، ولأبي العتاهية في الأغاني (3/ 155) وديوانه (ص 23 - 24)، وبلا نسبة في الحيوان (3/ 51).

(3)

وقع هذا الشطر في شعر عدد من الشعراء، انظر "شرح أبيات مغني اللبيب"(4/ 296، 297).

ص: 59

ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يَفعلَ بهم غيرَ ما فعل من الإعانة، وهؤلاء أكثر القدرية.

ولا بدَّ من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن هذه اللام التي يُنصَبُ بها الفعلُ تسميها النحاةُ لام [كَيْ]، وهي في الحقيقة لام الجرّ، أُضمِرَ بعدها "أنْ" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما في قوله:(لِجَهَنَّمَ).

والمجرور بها تارةً يكون سببًا فاعليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا لأني اشتهيتُه وأحببتُه. وقد يكون سببًا غاليًّا، كما تقول: فعلتُ هذا ليُرضي زيدًا وليُحسن إليَّ.

وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله:(ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)

(1)

ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع.

وأما الذين أَجْرَوا الآيةَ على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد أن يُعبد ويُحمد ويُشكر، فمنهم من يقول: قد وُجدَ ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجودَ المأمور به.

والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله:(وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)

(2)

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ)

(3)

لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة

(1)

سورة البقرة: 207.

(2)

سورة هود: 119.

(3)

سورة الأعراف: 179.

ص: 60

الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. وليس كلُّ ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ما شاء يكون.

وقد رُوينا في كتاب القدر

(1)

عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرًا والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أيْ رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن تُطاعَ لأطِعْتَ، ولو تشاء أن لاتُعصَى لما عُصِيْتَ، وأنت تُحِبُّ أن تُطَاعَ، وأنت مع ذلك تُعصى؟ فاوحى الله إليهم:"إنّ هذا سِرّي، فلا تسألوني عن سِرّي".

وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحيُّ أن يفعله، بل قد يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارضٍ راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض راجح، ولا نَقْصَ في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تُستحبُّ لنا، كما قال الله تعالى:(وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)

(2)

. وقال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)

(3)

.

(1)

من الإبانة لابن بطة (2/ 314). وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 260)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 200): فيه أبو يحيى القتات وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه. وبقية رجاله رجال الصحيح.

(2)

سورة البقرة: 253.

(3)

سورة إبراهيم: 27.

ص: 61

وأيضًا فإن الله يُحِبُّ هذه الأعيان والأفعالَ والصفاتِ بتقدير وجودها، كما يسمع المسموعاتِ ويُبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يُوجَد منها وقد عُلِمَ أنه لا يُوجد، فلا يقال: إنه يُحِبُّ العدمَ المحض والنفيَ الصرف، كما لم يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغايةُ المحبوبة منهم التي بها يَكمُلُون ويصلحون وينالون الكرامةَ ويحبُّهم الحقُّ أن يعبدوه، فإذا لم يَبلُغوا هذه الغايةَ لم يبلغوا سعادتَهم، ولا محبوبَ الحقِّ منهم. ثم إن منهم من شاء كونَ العبادة أمنه، فأعانَه، ومنهم من لم يشأكونَ ذلك منه فلم يُعِنْه، ولكنه من ذَرْئه لجهنم.

السؤال الثاني: أيُ مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيّا عن العالمين؟ وهو أحدٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلاً، فيكون قبله ناقصاً، أو يكون قبل العبادة وبعدها سواء، فسِيَّانِ عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلاً.

وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل وردّ الأصول إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غِناه عن العالمين لا يَمنع أن يحبَّ ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة التائب

(1)

، لأن هذه الأشياء

(1)

في الأصل: "الساب".

ص: 62

إذا وُجدَتْ فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقرٌ إلى غيره بوجه مَن الوجوه.

وأما تجدُّد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدُّد المسموعات والمرئيات في كونه يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه.

كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يَحصُلُ له إدراكٌ لم يكن، أو لم يَحصُلْ؟ فإذا لم يَحصُلْ فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك ناقصًا، ولزِمَ حلولُ الحوادث به.

فإذا أُجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أنَّ المتجدِّد هوَ أمر عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا.

وإن قيل: الكمال أن يكون بحيثُ يَسمع ويُبصِر كلَّ ما يحدث من مسموع ومرئي.

قيل: والكمال أن يكون يحبّ ويفرح بكل ما يحدث من محبوبٍ ومرضيّ ومفروح به.

وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي تستلزم حدوثَه وإمكانَه.

قيل: وليس

(1)

ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة

(1)

في الأصل: "وليست".

ص: 63

والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه وإمكانه.

وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدَّدُ من الأشخاص التي تندرج فيها.

قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها.

فما كان جوابًا عن أحد البابين، وهو ما أُثْبِتَ من الصفات كالسمع والبصر والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك. وإنما يتخيَّلُ الفرقُ لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقِها بالصفات التي بها صدرتِ الأفعالُ ودلَّت الأفعالُ عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين والبحاثين في هذا.

وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دَعَوا إلى عبادة الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى وخاصته.

فإن قيل: هذا يقتضي وصفَه باللذة، ومَن وصفَه بها وصفَه بالألم، وذلك يقتضي حدوثه أو إمكانه.

قيل: العبارات المجملة لا نُطلِقُها إذا لم يجيء بها الشرعُ إلا مفسَّرةً، فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحكْ والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يُؤذى ويصبر على الأذى، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ

ص: 64

ورسوله)

(1)

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أحدٌ أصبرَ على أذًى يسمعُه من الله"

(2)

. وقال الله تعالى: "يُؤذيني ابنُ آدمَ يَسُبُّ الدهرَ وأنا الدهرُ، بيدي الأمرُ أقلِّبُ الليلَ والنهارَ"

(3)

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للباصقِ في القبلة:"إنك قد آذيتَ الله ورسوله"

(4)

، وقال:"مَنْ لكعب بن الأشرفِ، فإنه قد آذى الله ورسوله"

(5)

.

فهذه الصفات حقّ نطقَ بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلفُ الأمة وعامة أهل العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودلَّ العقل القياسي والعقل الإيماني على صحتها، فلا خروجَ عن هذه الأدلةِ والسنةِ والجماعة وزمرةِ الأولياء والأنبياء.

وأما إطلاق لفظ "اللذة" فقد أطلقه قومٌ من أتباع الأوائل ومن هذه الأمةِ المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ "العشق"، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما إيجابًا وإما استحبابًا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب.

(1)

سورة الأحزاب: 57.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

(4)

أخرجه أحمد (4/ 56) وأبو داود (481) من حديث أبي سهلة.

(5)

أخرجه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر.

ص: 65

وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسيرٍ ممنوع منه، لما فيه من إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقًا بنفسه فقط، فيقولون: هو عاشق ومحبّ لنفسه، ويلتذُّ ويبتهج بها، [و] الذي جاءت به الكتب والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم، وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب.

والقراَن والإيمان يفرِّقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويودُّه ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عُبَّاد لغير ذلك من العلويات والسفليات إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))

(1)

.

وأما كون ذلك مستلزمًا للحدث أو الإمكان فلا دليلَ عليه البتة، بل عامة الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبتَ شيئًا من الصفات مثل إرادة قائمة، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقًا وآمرًا بالدين، يُورَدُ عليه مثلُ ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن اَدم، الذي كان معدومًا ثم وُجِدَ، ولا وجودَ له

(1)

سورة البقرة: 62.

ص: 66

من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا يجوز ضربُ المثلِ له من مخلوقاته.

وإذا تبيّن أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدًا والعبد مرادًا إرادةَ تكوين وربوبية، ولذلك قد يكون مريدًا، والثانية يكون الربُّ بها مريدًا إرادةَ حبّ ورضًى وإلهيةٍ، والعبد أيضًا مريدًا إرادةَ عبادةٍ وديانةٍ وإنابةٍ وإرادةٍ وقصدٍ، وقد يكون بها مرادًا إرادةَ ربوبيةٍ إذا حصل ذلك.

تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد لله وحده.

ص: 67

فصل في صفات المنافقين

ص: 69

(وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول).

فصل

ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفاتٍ كقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20))

(1)

.

وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا، وأبصروا ثم عَمُوا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى الذي كان عنده، وإن كان قد يُقال: إن مثل هذا قد يُقال للقادر على الأمرين، إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال:(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) إلى آخر الآية، فمثَّلَهم بالذي جعل لنفسه نارًا يُنتفع بضوئها، فلما أضاءت

(1)

سورة البقرة: 16 - 20.

ص: 71

ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور.

وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يُسمَع، وبرْق يرى، وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الَافة في سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية.

وهذه تُشبِه حالَ من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى حال من ارتد عن الهدى بالكلية.

وقد قال أيضًا في سورة المنافقين

(1)

: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)) فأخبر أنهم آمنوا ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول المؤمنين،

(1)

الآيات 1 - 3.

ص: 72

ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محقِّقِين القولَ الأول لم يأتوا بما يناقضه.

وليسوا أيضًا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فُسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي آمنوا ظاهرًا ثم كفروا باطنًا.

فالقراَن يدلّ على أنهم أولاً حصلَ لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا خلاف ما يُبطِنون، وهذه حال طوائف من العباد، يُقِرون بالحق من بعض الوجوه، ولم يقروا به إقرارًا تامًّا، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى:(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا)

(1)

، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا عملوا فيه عملاً صالحًا لم يُنقَصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقةُ الإيمان إلى قلوبهم، فكثير من الناس يُقِر بالحق ابتداءً، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيبٌ به أو بغضٌ له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره.

وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيضُ ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره، فإن الأول قام بقلبه كفرٌ وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر

(1)

سورة الحجرات: 41.

ص: 73

وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8))

(1)

فأخبر أنهم في الحقيقة لم يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضًا، والمرض يكون ريبًا وشكًّا. وأخبر أنه إذا قيل لهم:(آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ)

(2)

، وأخبر أنهم يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم

(3)

بما يقتضي ردتهم عن هُدًى حصل لهم، فهذا- والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين.

والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبَّر حالَ كثير من أئمة الضلال- من المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شُعَبٌ من ذلك من الجهمية والرافضة ونحوهم- وجدَهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه، ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين، وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلمًا، ثم يتفلسف وينافق شيئًا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولاً فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من

(1)

سورة البقرة: 8.

(2)

سورة البقرة: 13.

(3)

في الأصل: "انهم".

ص: 74

الشيعة مثلاً، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولاً، وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصمّ، ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب، وإن كانوا قد تركوا أيضًا الكفر الوَجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخلَ العالم ولا خارجَه.

ولا ريب أن في هؤلاء طوائفَ فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم.

فصل

ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. والثاني: الصيّب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما في سورة الرعد، بقوله تعالى:(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ)

(1)

، فإنه ذكر أيضًا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أوَ مَن كاَنَ مَيْتًا

(1)

سورة الرعد: 17.

ص: 75

فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)

(1)

، وقال:(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ)

(2)

.

والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به الإحساس الذي لا بدَّ فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، والإرادة التي لا بدَّ فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون

(3)

، ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والآيتين اللتين بهما يكمل الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))

(4)

، فذكر الخلق والهداية عموماً وخصوصاً، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في هذا الطور يصير حيّا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يُجمَع خَلْقُ أحدِكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع

(1)

سورة الأنعام: 122.

(2)

سورة فاطر: 19 - 22.

(3)

هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.

(4)

سورة العلق: 1 - 5.

ص: 76

كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح "

(1)

.

فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يُظَنُّ أن الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خُلِقَ من علق، فإنه يعلم أن المخلوق منها هو المضغة، التي يُنفخ فيها الروح.

وأيضًا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضًا فمن يصير علقة يُخلَق فيُميَّز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الآية الأخرى:(ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)

(2)

، قال من فسّر ذلك من السلف: المخلَّقة ما تمَّ خلقها، وغير المخلَّقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبداً خلقهم، وأنهم خُلِقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تُلقِيه المرأة، مما يثبت به حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا كان مضغة مخلَّقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلَّقة أو علقة ففيه نزاع، فلما قال: خلق من علق، دلَّ بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء كان من نفس العلقة، وهذا أخصّ من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته وتصويرها قبل التفصيل.

وأيضًا فالعَلَق أول الاستحالات التي يُخلَق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا

(1)

أخرجه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود.

(2)

سورة الحج: 5.

ص: 77

نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن.

وأيضًا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم قائم بنفسه وأنه صورة- مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضًا، وهي العلق. فبان بهذا أن الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع.

والفلاسفة يفرقون أيضًا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان المحل مستغنيًا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان المحل محتاجًا إليه، فهو الهيولى، والحالّ فيه هو الصورة، ومجموعهما هو الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض.

والجواهر عندهم خمسة

(1)

: المادة، والصورة، والجسم،

(1)

في الأصل: "أربعة".

ص: 78

والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة له، كما قد بُيِّن في موضعه.

والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حيّ، فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقًا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينًا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على نبيه، وكذلك قال:(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3))

(1)

، فذكر أيضًا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون:(الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50))

(2)

.

وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا.

منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية.

ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبَر.

ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدلّ بطريق التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرًا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة.

(1)

سورة الأعلى: 1 - 3.

(2)

سورة طه: 50.

ص: 79

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق غير العبد، يُستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، فبين سبحانه أنه خَلَقَ وعلَّم، وخلق فسوىَ، وقدَّر فهدَى، فإنه إذا كان هو المعلم الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى:(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ)

(1)

، وذكر الكلب المعلَّم، والفرق بينه وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء.

ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3))

(2)

فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به وكتابته له، فدلَّ ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضًا، فدلَّ ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى:(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))

(3)

، والكتابة بالقلم تتضمن القول، والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى

(1)

سورة المائدة: 4.

(2)

سورة الأعلى: 3.

(3)

سورة العلق: 4، 5.

ص: 80