المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئا - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئا

بشيء لا يكون سببَا فاعليَّا ولا غاليًّا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا ظاهر.

وأيضًا ف‌

‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

، بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن يفعل لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مَكَّارٌ مخادع يُظهِرُ قصدَ شيء وغرضُه غيره.

وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعَى كونَه كان كاذبًا، كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القُصُود غير معتبرةٍ في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع:"إنما الأعمال بالنيات"

(1)

، وهي من أجمع الكلمات وأجلِّها وأعظمِها قدرًا.

وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، فتناقض الآدميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الآراء والاعتقادات، كثيرًا ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين.

وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا المجنى في مثل قوله:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

(2)

، وفي قوله:(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36))

(3)

،

(1)

أخرجه البخاري (1) ومسلم (1957) من حديث عمر بن الخطاب.

(2)

سورة ص: 27.

(3)

سورة القيامة: 36.

ص: 160

وقوله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)

(1)

، وقوله:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85))

(2)

.

وإن كان قوله: (بِالْحَقِّ) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يُقال: جئتُ بسبب زيد، وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك.

والحق يعمُّ الحق المقصود والحقَّ الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو نقيض الباطل الذي في قوله صلى الله عليه وسلم:"كل لَهْو يَلْهُو به الرجل فهو باطل، إلا رَمْيَه بقوسه، وملاعبتَه امرأته، وتأديبَه فرسَه، فإنهن من الحق"

(3)

. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.

ويتبين أن النظر والاعتبار قد يُعلَم به المعاد، كما يُعلَم به مبدأُ العباد، كما عُلِمَ بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم

(1)

سورة الدخان: 38، 39.

(2)

سورة الحجر: 85.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 144، 148) والدارمي (3415) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 161

الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضةَ القدرية الذين أوجبوا المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل.

والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليًّا بآرائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا.

ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع لهم، ثم إنهم مع ذلك عَمُوا- أو من عَمِيَ منهم- عمَّا في الشريعة من مصالح العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدَتْ ذلك أيضا للعامة.

لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلَّون به في الباطن من أخبار الرسل وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدَّعون أنهم أجلّ من ذلك، وهذا لما بَهَرَهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عَمُوا مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا وبدَّلوا وحرَّفوا واعتدَوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، عُلِمَ أنَّ ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أنَّ ما وُجِدَ ثم عُدِمَ من غير أن يترتب على وجوده

ص: 162

مقصودٌ آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا يكون مقصودَا، وعِلْمُ القاصدِ بأن هذا يُعدَم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حالَ عدمِه لا يكون فيه ما يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضَا عبثٌ وسَفَهٌ، فكما أنه لا يقصد بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد عدمه كحاله بعد وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصدُه فائدةَ، وإنما يقصد ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصودٌ يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودَا بالقصد الثاني، والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم.

وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غايةَ مقصودِ العامل ومنتهى مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها.

ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهايةَ المقصود، لما فيها من شَغْلِ النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن أَلَمِ التركِ وغير ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يَحُور، فهم يجعلون المنصرفات نهايةَ مقصودهم،

ص: 163

وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16))

(1)

، وقال تعالى:(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30))

(2)

، فهذا حال من لم يُحقِّق الإيمانَ بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه والعمل لمعاده، كما قال تعالى:(وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28))

(3)

، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا.

وقد يُقال هذا معنى الأول والآخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل شيء، والآخر ليس بعده شى، أي إليه يَصير العبادُ وتنتهي الحركاتُ، كما قال:(وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42))

(4)

، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء تُعدَم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت واليه تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية.

فالآخر قد يُعنَى به في الوجود، وقد يُعنَى به في الغايات المقصودة، فإذا عُنِي به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ، مع أن قوله "الآخر" يعمُّ

(1)

سورة هود: 15، 16.

(2)

سورة النجم: 29، 30.

(3)

سورة الكهف: 28.

(4)

سورة النجم: 42.

ص: 164

القسمين، كما أن قوله "الأول" ظاهر في كونه موجودًا أولاً، وقد تضمن أنت الأول في المقصود، كما قال:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وغيرك إنما يُقصد بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث

(1)

، لكن يُقال: الحديث أشار إليه مع المعنى الظاهر.

وأما قوله: "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، فظهورُ الآخرية في كونه الغايةَ المقصودةَ أظهرُ من ظهور الأولية في كونه أولاً في القصد والإرادة.

ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتُحمَد وتُذَمُّ ويُؤمَر بها ويُنهَى عنها باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبتُه وغايتُه أكملَ كان أعلى وأفضل عند الشارع.

ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أيُّ العملينِ كان لله أطوعَ ولصاحبه أنفعَ فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرًا، وبامر الشارع به يكون طاعة ودينًا وقُربةً، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجةً إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلاً به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.

ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان

(1)

أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة. وفيه لفظ "الأول""والآخر" ضمن الدعاء المأثور.

ص: 165

المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يُستدل على ذلك تارةً بالأدلة السمعية الدالة على كونه طاعةً أو ليس كذلك، وتارةً بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى:(سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))

(1)

، فأخبر أنه سيُرِي الآيات الأفقية والنفسية التي بيَّن فيها أن القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يُحدِثه الله من نصر المؤمنين وجَعْلِ العاقبة لهم وعقوبةِ الكافرين، فجعل سبحانه ما يُشهَد ويُرَى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبيَّن به الحقُّ من الباطل.

ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53))،وهو شهادته بذلك في كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى:(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37))

(2)

، وقال:(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46))

(3)

، وكما أنه يُستدَل بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فُيستدَل بها أيضًا على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في اجتهاده

(1)

سورة فصلت: 53.

(2)

سورة ق: 36، 37.

(3)

سورة الحج: 46.

ص: 166

والمخطئ، والفاضل والمفضول.

كما يُستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه الله في الآفاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين بَيّن واضح.

وكما يُستدل على [أنّ] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر مصلحة ولا مامورًا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيُستدل على ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المُوضِع

(1)

، وأنه ليس في الشريعة أمرٌ بذلك، كما فيها أمرٌ بقتال الخوارج

(2)

وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر بالقتال ابتداءً، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمرَ بالإصلاح، ثم أمرَ عند ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ما وِرد من أن عمّارًا تقتله الفئة الباغية

(3)

، فأما أن يكون قبل القتال من بَغى يُقاتل ابتداءً فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف

(1)

أخرجه البخاري (3601) ومسلم (2886) من حديث أبي هريرة.

(2)

بياض في الأصل بقدر كلمتين.

(3)

أخرجه البخاري (447، 2812) ومسلم (2915) من حديث أبي قتادة.

ص: 167

الإجماع.

والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: كان مأمورًا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحالَ عَصَتِ الطائفة العراقية فنَكَلَتْ عن القتال، فحالَ القتالِ لم يكن أمر، وحالَ الأمر لم تكن طاعةُ الأمر، وذلك يُستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تُبيِّن ما كان منها محمودًا وأحمدَ، فمن وُفِّق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله يقول:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53))

(1)

، وهذا يستقيم لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في الأنفس والَافاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباعَ الهوى بغير هدًى من الله ضلال عمّا ينفع العبد، وسُمِّي ضلالاً لأن متبع هواه إنما يقصد لذته بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، إلا أن يكون بهُدًى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.

والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذُكِر في القرآن من ذم اتباع

(1)

سورة الزمر: 53.

ص: 168

الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضًا يتناول القسم الثاني، كما قال الله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

)

(1)

.

وإذا تبين ذلك عُلِمَ أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصودٌ لذاته، خارج عن اللذة المنقضية، إذ اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودةً لذاتها، كما لا يجوز أن يكون القصد الحادث حادثًا بذاته، كما تقدم من أن ما يُعقِبُه عدمٌ لا يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يُقصَد لنفسه أو لغيره، وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، فذلك الغير إما أن يكون مقصودًا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون مقصودًا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا لأجل هذا، وهذا مقصودًا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون لذلك المقصود مقصودٌ، ولذلك المقصود مقصودٌ، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان وقصده مقصودٌ لا يتناهى في آنٍ واحد.

وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم

(1)

سورة ص: 26.

ص: 169

اجتماعُ معلولاتٍ لا تتناهى في آن واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا تتناهى.

ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود لنفسه- وهو المعبود- ضروريًّا

(1)

في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قَسْرِي، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابعٌ للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعًا للغير وفرعًا عليه ومستلزمةً له، فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل.

وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدمٌ من اللذات الموجودات لا يجوز أن يكون مقصودًا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيًا أبديًّا، كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديمًا أزليًّا. كما قال الخليل عليه السلام:(لَاَ أُحِبّ اَلأَفِليِنَ)

(2)

.

ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربًّا خالقًا، يمتنع أن يكون إلهًا معبودًا من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضًا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن تكون ذاته هي الغاية المقصودة له.

(1)

الأصل "ضروري".

(2)

سورة الأنعام: 76.

ص: 170

أما أولاً فلأن ذاته ليست فعلَه ولا نتيجة فعلِه، فيمتنع أن تكون هي الغاية المقصودة بفعله.

وأما ثانيًا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علةً معلولاً، فاعلاً مفعولاً، وقاصدًا ومقصودَا كما تقدم بيان ذلك.

وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببًا لفعله، فيمتنع أن تكون نفسُ لذته غايةً مقصودةَ لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدًا لغيره، إذ الشهوة واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوةً لغيره ولذةً له وقصدًا له وغايةً، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود.

ويمكن أيضًا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودًا بقصد لأمرٍ آخر، كما هو الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تُحَبُّ لأمرٍ آخر لا يصلح أن تكون هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقًا جعله غايةَ المطلوب المراد، فهذا هو الفساد الذي بينته.

كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضًا، ولكن كما أنه يكون مُحدَثًا بفاعل غيره خلقه، كذلك يكون مقصودًا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله.

وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فإنه مقصود لغيره، وهو صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على

ص: 171

المقصود لذاته.

ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما طلب عوض من غير ذلك الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرّقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن يقصد به التقرب إلى الله.

والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية، لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرمٌ إلا إرادة وجه الله، فإن لم يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودًا لذلك، كان من الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم.

ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلاً مستقلاًّ لا لنفسه ولا لغيره ولا لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان يستحق أن يكون محبوبًا لذاته مرادًا لذاته لكانت ذاتُه أحقَّ بأن تكون هي المحبة المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهنَ امتناعُ ذلك فيه كان في غيره أعظمَ امتناعًا.

وقد تبين لنا أيضًا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون

ص: 172

مطلوبًا لذاته، فالحادث مطلقًا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلاً لأجلها، والعلة يجب تقديمها على المفعول.

فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت في الوجود تتأخر عن الفعل.

قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان يحب المحبوب مثلاً، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها، فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على الفعل، وأما المقصود منها كلذة المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثةً بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان حادثًا لم يجب أن تكون هي حادثة.

يُبيِّن هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تُراد، فعُلِم أنه لا بد من ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يُفعَل الفعلُ لأجلها، وتكون مرادة لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل.

ص: 173

فقد تبين أن مَن عبدَ المخلوقات عبادةَ العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في تحصيل ماَربه، أو عبادتَه لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ذلك موجبًا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضًا بذلك لزم أيضًا فساده، بمنزلة من جعل المعدوم مقصودًا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادًا يكون به صلاح المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه يَستعقبه ألمًا وضررًا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلاً وكان فيه حلاوة، وكان سمًّا، فإنه يهلكه ويقتله.

فقد تبين بالقياس العقلي امتناعُ أن يكون معبودٌ إلا الله، كما امتنع أن يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)

(1)

قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لَفَسَدَتَا) وهذا يتضمنُ نَفْيَ رب غيره.

والمتكلمون قَصَّروا في معنى الآية من وجهين:

أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدُّدِ الأرباب فقط، كما أقاموا هم الدليل على ذلك.

والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وُجد، ثم الاشتراك في الفعل يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أَخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد يكون عن الإرادات الفاسدة،

(1)

سورة الأنبياء: 22.

ص: 174

وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى عن الفساد في غير آية.

قال الله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205))

(1)

، وقالت الملائكة:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)

(2)

، وقال تعالى:(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)

(3)

، وقال:(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4))

(4)

، وقال:(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)

(5)

،وقال:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)

(6)

، وقال (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27))

(7)

، وقال:(وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77))

(8)

.

(1)

سورة البقرة: 205.

(2)

سورة البقرة: 30.

(3)

سورة المائدة: 32.

(4)

سورة القصص: 4.

(5)

سورة الإسراء: 4.

(6)

سورة البقرة: 11، 12.

(7)

سورة البقرة: 27.

(8)

سورة القصص: 77.

ص: 175

فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشئ من أن يكون فيهما آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، بمنزلة من لا يتقوَّتُ إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزُّعَاق، أو لا يدفع البردَ في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوَّه عنة من القتال إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يُقصَد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة يتضمن هذا كلَّه وأضعافَه، ولهذا قيل:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13))

(1)

.

فصل

وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد [لا] يكون من فاعلين مستقلينِ، ولا يكون مقدور واحد من قادرينِ على ذلك المقدور حالَ الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد والقصد الواحد لا يكون لمقصودينِ مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد بالعين لا يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا.

وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث

(1)

سورة لقمان: 13.

ص: 176

الصحيح

(1)

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا أغنَى الشركاءِ عن الشرك، من عَمِلَ عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك " أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته، قال الله تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22))

(2)

، وقال تعالى:(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)

(3)

، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل القرآن.

والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبدَ الله ولا عَمِلَ له عملاً، كما أن ما تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قُدّر أن معه شريكًا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جُعِلَ له شريك في القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل، وإنما يتقبل ما كان خالصًا لوجهه.

يُوضِّح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قُدِّر في الذهن أن معه شريكًا في الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع

(1)

مسلم (2985).

(2)

سورة سبأ: 22.

(3)

سورة الزمر: 29.

ص: 177

ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئًا، فإذا كان على هذا التقدير هو أيضًا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يَصِرْ هو معبودًا بذلك العمل، وما عمل لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادةً ولا عملاً صالحًا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لِمَ لا أخذَ نصيبه منه؟ لأنه مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقلَّ بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر كثيرة في الشرعيات والحسيّات إذا خُلِط بالنافع الضارُّ أفسده، كما يُخلَط الماء بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن هذا لا يضر.

يُبيِّن هذا أنه لو سأل الله شيئًا فقال: اللهم افعلْ كذا أنتَ وغيرُك، أو دعا الله وغيرَه فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبًا ممتنعًا

(1)

، فإن غيره لا يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلاً له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع أن يكون هو أيضًا فاعلاً، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بسَعْدٍ وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال:"أَحِّدْ أَحِّدْ"

(2)

.

(1)

في الأصل: "طلب ممتنع".

(2)

أخرجه أبو داود (1499) والنسائي (3/ 38) من حديث سعد بن أبي وقاص. وإسناده صحيح. وأخرجه الترمذي (3552) والنسائي (3/ 38) من=

ص: 178

ولهذا سنَّ الإشارة بالسبَّاحة في الدعاء.

وكذلك إذا كان قد تبيَّن أن الشيئين لا يكون كل منهما للَاخر علة فاعلية، فكذلك ألا يكون، كل منهما للَاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء الواحد لا يكون علةً لنفسه، ولا معلولاً لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن يكون موجودًا معدومًا إذا قُدّر فاعلاً، وإذا قُدِّر مفعولاً، فيلزم اجتماع النقيضين مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متأخرًا عن وجود نفسه ومتقدمًا على وجود نفسه، فيلزم أيضًا اجتماع النقيضين مرتين.

وأيضًا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصوَّرًا مقصودًا له، ويكون تصوره وقصده له بعد تصوره وقصده، لأنه يتصور أولاً ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضًا في التصور والقصد مرتين، وقد تقدم هذا.

وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه معلولاً له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضًا أن يكون جزء علة أو شرط علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضًا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات العلة، فيلزم ما تقدم من الدور

=طريق أبي صالح عن أبي هريرة بنحوه، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

ص: 179

الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كلّ منهما شرطًا للآخر، وتكون العلة أمرًا غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطًا بالآخر، وهو الدور المعي. ولا يجوز أن يكون شرطًا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي.

فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل [كل] واحد لما يفعله مشروطًا بالآخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها الواحد في الَادميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد المتعاونين مستفيدًا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا كان كل منهما محتاجًا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولاً لذلك، فإنه إذا قدر أن أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالآخر على حصولها، فلو كان ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرًا عليها، فلا يعين، ولكان الأول قادرًا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يُعِين به أحدهما الآخر من الأسباب، مثل الَالات ونحوها، فذاك ليس من هذا.

وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع والتعاون، ليس أحدهما مستقلاّ بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو في بعضه.

وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات.

ص: 180

وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه الآخر ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ويمتنع كون كل من الشيئين معلولاً للَاخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين المتناكحين.

وإن فُرِض أن كلاًّ منهما يقصد إنالتَه الآخر لذَّتَه، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيلُه لذاك من اللذة وسيلةً إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات والمشاركات التي بُني عليها صلاحُ العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركينِ مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو بوجوده، ولكن يقصد ما هو للآخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجةَ العلل إلى المعلول، لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادًا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين.

ص: 181

واعلم أنه كما يُعقَل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يُعقَل امتناع الدور فيهما من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة

(1)

فيمتنع أن يكون كل من الشيئين سببًا للآخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمةً وغايةً للآخر. ولا يمتنع أن يكونا جميعًا عن سبب واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعًا لحكمة واحدة غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطًا للآخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها.

فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، وأن جميع المخلوقات غايته له، مُسبِّحةٌ بحمده، قانتةٌ له، وأن الحركات الموجودة في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دلّ القرآن على ذلك في غير موضع، وهذا شيء آخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقاً، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت

(1)

بياض في الأصل بقدر كلمة.

ص: 182

عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بيَّنها الله تعالى في كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم:(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ)

(1)

، وقال:(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى)

(2)

، وقال:(وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43))

(3)

.

فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودينِ كما لا يكون أحدهما فاعلاً للَاخر ولا سببا له، فلا يكون كل منهما معلولاً للآخر ومقصودًا له هو منتهى إرادته، ولا يكون كل منهما هو المقصود بالآخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحابَّ من الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى:(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)

(4)

، بل كل من الزوجين قد يكون الآخر محبوبًا له معشوقًا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب والتعاشق الذي هو محرم ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع.

قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته

(1)

سورة سبأ: 6.

(2)

سورة الرعد: 19.

(3)

سورة العنكبوت: 43.

(4)

سورة الروم: 21.

ص: 183

ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للَاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين أو بغيره.

ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا

(1)

أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة تحلل الرطوبة دائماً، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه الحكمة موجودة في الدنيا.

ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون لأهل المللَ مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا

(1)

بياض في الأصل بقدر كلمة.

ص: 184

مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست لذَّات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ليست لذة وإنما هي دفع اَلام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ألم، فالأمران موجودان.

وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة.

فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا تُوجَد إلا بسبب قبلها هو الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الآخرة ومن يوجد فيها بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، والعلم بامتناعه شيء آخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه وغاياته وأسبابه مماثلاً لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس:"ليس في الدنيا شيء مما في الآخرة إلا الأسماء"

(1)

. وإنما أخبرنا منها

(1)

أخرجه هناد في الزهد (3، 8) وغيره.

ص: 185

بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل:(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)

(1)

. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يقول الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر".

(2)

ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن أعقب لذةً مطلوبةً لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى:(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)

(3)

فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحابُّ الشخصان لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحبُّ كلّ منهما الآخر لنفسه.

قيل: هذا قصد فاسد، وحبّ فاسد، وإرادةٌ فاسدة، فإن كل من أحب مخلوقًا لنفسه لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده

(1)

سورة السجدة: 17.

(2)

أخرجه البخاري (3244) ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة.

(3)

سورة البقرة: 228.

ص: 186

فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه، وامتناع أن يكون لله ندٌّ يُحَبُّ كحبّ الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل منهما مرادَاً مطلوبًا للَاخر محبوبَا للآخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين علة للآخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلاً له في نفس الأمر، وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك من ظن في شيء غيرِ الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى أحبَّه وعبدَه وعَشِقَه، فهذا أيضًا جاهلٌ في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، وهو تخيُّل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفسادٍ في الإرادة، وهو المحبة المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سُكْرًا وجنونًا ونحو ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل

(1)

:

قالوا جُنِنتَ بمن تَهوى فقلتُ لهم

العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ

ولهذا سماه الله مرضًا في قوله: (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)

(2)

، ولهذا إنما يوجد كثيرًا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن

(1)

البيت لمجنون ليلى في ديوانه (ص 281) والأغاني (2/ 36) وغيرهما.

(2)

سورة الأحزاب: 32.

ص: 187

إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر والجهل كما في قوله تعالى:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)

(1)

.

وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودًا، وهو المعبود لذاته الذي يُحَبُّ غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ومن عبدَ غيرَه واتخذه إلهًا فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلهًا فأحبه لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ كان أصل قصدهم جهلاً لا علمًا.

وكون الشيء مقصودًا ومحبوبًا ومعبودًا ولذيذًا ونحو ذلك لا يثبت له في الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقاً، لأن الأبدان الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووَجْدِه إياه مُرًّا لما خالطه من المِرَّة الصفراء.

وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما حُمد من ذلك ما كان لله.

وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحابِّ في الله ما هو

(1)

سورة الحجر: 72.

ص: 188

كثير مشهور، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يَروي عن ربه تعالى:"حُقَّتْ محبتي للمتحابّين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتزاورين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتجالسين فيَّ، وحُقَّتْ محبتي للمتباذلين فيَّ "

(1)

.

وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداء، يَغْبطُهم الأنبياء والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صِفهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبهم! قال:"هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا أرحامِ تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كَراسِيَّ من نور، لا يحزنوَن إذا حزن الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله:(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))

(2)

.

وكقوله في صحيح مسلم

(3)

فيما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عبدًا زار أخًا له في الله، فأرصدَ الله على مَدْرجتِه ملكًا، قال: أين تريد؟ قال: أزور أخًا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، قال: فهل بينك وبينه رَحِم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبَّك".

وفي الترمذي

(4)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحبَّ لله، وأبغضَ لله،

(1)

أخرجه أحمد في المسند (5/ 229) من حديث عبادة بن الصامت، وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 170) ووافقه الذهبي.

(2)

أخرجه أبو داود (3527) من حديث عمر. والآية من سورة يونس: 62.

(3)

برقم (2567).

(4)

برقم (2521) من حديث معاذ الجهني. وقال الترمذي: هذا حديث منكر. وأخرجه أبو داود (4681) من حديث أبي أمامة. قال المنذري في مختصر =

ص: 189

وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ".

وفي الحديث في الترمذي

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أوثقُ عُرَى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ".

وفي الصحيحين

(2)

عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار".

فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء تبعٌ لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته.

لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه

(3)

عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من

= السنن (7/ 51): في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الشامي. وقد تكلم فيه غير واحد. وصححه الألباني في الصحيحة (380) لطرقه.

(1)

لم أجده في سننه، وقد أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 220) والأوسط (4476) والصغير (624) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في الصحيحة (1728) لطرقه.

(2)

البخاري (16) ومسلم (43).

(3)

البخاري (15) ومسلم (44).

ص: 190

ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين ".

وفي صحيح البخاري

(1)

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول الله! فلأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال:"لا يا عمر، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، قال:"الآن يا عمر".

ومحبتُه رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى:(قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)

(2)

.

وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يُحَبَّ لذاته، وليس هذا لغيره، وهي أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)

(3)

، وقال:(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)

(4)

.

ونحن بيَّنَّا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل من الشيئين سببًا للآخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولاً له،

(1)

برقم (6632).

(2)

سورة التوبة: 24.

(3)

سورة البقرة: 165.

(4)

سورة المائدة: 54.

ص: 191

سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد.

فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببًا سببًا، وما ليس مقصودًا مقصودًا، فهذا هو الشرك الذي ضلّ به بنو آدم من الأولين والَاخرين، حيث جعلوا بعض المخلوقات علةً تامةً لبعض، إما فاعلاً ربًّا، وإما إلهًا معبودًا. وهذا هو الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يُقصَد ويُراد فإن عمله فاسد، كمن أحبَّ الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه وتنفعه، فإنه وإن أحبَّها وقصدَها وعَمِلَ لها فهذا هو الفساد. وإذا ضُرِبَ مَثَلُ ذلك بمُحِبِّ العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراشِ للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك.

ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كلّ من الشيئين سببًا للآخر أو مقصودًا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه.

وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق

ص: 192

القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربُّها وخالقها. إذ الوجود فيه أشياء مُحدَثة، ولا بد لها من مُحدِث، وفيه حركات موجودة، ولا بد لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قَسْرية، لأنها إن كان المتحرك شاعرًا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرًا، فإن كانت بلا شعور على خلاف طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تُحرَّك أولاً عنه لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعُلِمَ أن كل حركة في العالم عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى:(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4))

(1)

، فأقسم بالمخلوقات طبقًا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم بالملائكة المقسمات أمرًا. وكذلك قوله:(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5))

(2)

.

ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي

(1)

سورة الذاريات: 1 - 4.

(2)

سورة النازعات: 1 - 5.

ص: 193

مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إلهٍ هو إلهها ومعبودها سبحانه وتعالى.

ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلاً لنفسه، ولا يكون حادثًا من غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركًا إلى نفسه، ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا يكون موجودًا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35))

(1)

، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركًا لا يجوز أن يكون متحركًا مريدًا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا.

كما أنه إذا قُدِّر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدمًا على نفسه، لكونه فاعلاً، ومتأخرًا عن نفسه، لكونه مفعولاً، فهذا الذي ذُكِرَ من

(2)

كون الإنسان يمتنع أن يكون فاعلاً مفعولا يقتضي امتناعَ كونه عابدًا معبودًا. وكذلك يقال في كل ممكن ومُحدَث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذُكِرَ أولاً هو دور بين اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يُستَدل به على إثبات الإله المعبود الخالق للممكنات والمحدثات.

(1)

سورة الطور: 35.

(2)

في الأصل: "في".

ص: 194

فصل

وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولاً لها في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل فاعله محتاجًا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن يكون علة كل فعله حادثًا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثًا بعلة فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلاً في حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر.

وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدمًا على الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقًا، لوجود قصده وعمله، ولا جزءًا من العلة، وإن كانت شرطًا في وجود المعلول الذي هو المقصود لذاته.

ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورًا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال:(أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28))

(1)

، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون

(1)

سورة الرعد: 28.

ص: 195

مقصودًا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودًا، لأن ذلك عَبَثٌ وسَفَهٌ، كما تقدم بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودًا، كما أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن [كانت] منقضيةً، فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما لم يكن مستقلاًّ بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلاًّ بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة.

ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها لامتنع أن يكون موجودًا مخلوقًا.

وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادًا وضررًا وشرّا كما تقدم، فإن الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودةً من الله بدون غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك

ص: 196