المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين: - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌ استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين:

الصحيح

(1)

أنه صلَّى على ابنِ أُبيّ وألبسَه قميصَه وتَفَلَ في فيه واستغفرَ له، ثم قال:"وماذا يُغنِي عنه ذلك من الله؟ ".

وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رَجَعَ من غزوة تبوك، ثم أنزلَ الله فيهم بعد ذلك ما أنزلَ، فلم ينفعهم ذلك

(2)

.

فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلَاّ مع الإيمان، بخلاف الأدعية المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريدَ بها رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا يُعذَّبُ أو يَدخُلُ الجنة فهذا لا يصلح. بل‌

‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

أحدهما: أن استغفاره لنفسه يُغفَر له به جميعُ الذنوب إذا كان على وجه التوبة، حتى إنّ الكفّار إذا استغفروا لأنفسهم نفعَهم ذلك، وكان سببَ نجاتِهم من عذاب الدنيا. وعذابُ الآخرة إنما يُنجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضًا من خصائص التوحيد، فإن اَلمكلَّفَ لا ينفعُه توحيدُ غيرِه عنه، ولا يُنجِيه ذلك من عذاب الله عز وجل، بل لا يُنجيه إلاّ توحيدُ نفسِه، ولا ينفعُه مع عدمِ التوحيد الاستغفارُ عنه، بل لَا ينفعُه إلا استغفارُه الذي تضمن توحيدَه وتوبتَه من الشرك. فصارَ الاستغفارُ مقرونًا بالتوحيد من بدايةٍ، لا تُقبَل النيابةُ فيه ولا يُهدَى إلى الغير إلاّ إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعَه حينئذٍ ما يريدُه

(1)

البخاري (5795) ومسلم (2140) من حديث جابر بن عبد الله.

(2)

أخرجه البخاري (4418) ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك مطوّلاً.

ص: 277

غيرُه من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تُفعَل عن الغير وتُهدَى له وإن لم يأتِ بأصلِها.

وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنبَ لازمٌ لجميع بني آدم، وإنما كمالُ المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من الذنب والاستغفار، كما قال تعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) إلى آخر السورة

(1)

. وقد أخبر تعالى أنه يُبدِّلُ سيئاتِ التائب حسناتٍ، وأنه يَفرح بتوبة العبد أشدَّ فرحٍ يُقدَّر.

فالذنوب إذا كانت مغمورةً بالحسنات لم يُعاقَب صاحبُها بالنار، لكن يكون تأثيرها في تفاوتِ الدرجات، فأعلَى الخلقِ منزلةً العبدُ الذي غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبلَه

(2)

الذي دلَّ عليه والطالبون للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيعَ الخلائق، لأنه لما غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر لم يبقَ يَحتاجُ إلى أن يَشفع لنفسِه ويَستغفر، فأمكنَه أن يَشفعَ لغيرِه، بخلافِ من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجًا إلى الشفاعة حينئذٍ لنفسِه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بُدَّ أن يَغفِر جميع هذه الذنوب وما هو أعظمُ منها، لكن يتأخَّرُ ذلك عن مقامِ الشفاعة، بخلافِ الذي غُفِر له ما

(1)

سورة الأحزاب: 72.

(2)

هو عيسى عليه السلام، كما في حديث الشفاعة المشهور الذي أخرجه البخاري (7410، 7440) ومسلم (193/ 324) عن أنس بن مالك.

ص: 278

تقدمَ من ذنبه وما تأخرَ قبلَ هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا قال اَلخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعةُ يومئذٍ-:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)

(1)

، فالمغفرة التي رجاها تكون يومَ الدين، وهي واقعةٌ بعد شفاعة سيّد ولد آدمِ، فإنه قبل ذلك يقول

(2)

: إنّ ربّي قد غَضِبَ اليومَ غضبًا لم يَغضبْ قبله مثلَه ولن يغضبَ بعدَه مثلَه، ويذكُر خطيئتَه: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى.

وهذا كلُّه مما يؤكَدُ أمرَ الاستغفار ويُبيِّن أنه نهايةُ الأمر، وأنّ السائرَ فيه هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يُوجبه غيرُه. والله أعلمُ.

(1)

سورة الشعراء: 82.

(2)

كما في حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري (4712) ومسلم (194) عن أبي هريرة.

ص: 279

مسائل في الصلاة

ص: 281

ذكرٌ

(1)

إلا في فعلٍ من أفعالها، وليس فيها فعلٌ خالٍ من ذكرٍ إلاّ جلسة الاستراحة حيث تُفعل، فإنها فعلٌ لا ذِكرَ فيه لقِصَرِه، ومثل تكبيراتِ الانتقال، فإنها ليست في فعلٍ مستقرّ.

وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبانِ تَبطُل الصلاةُ بتعمُّدِ مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلافٌ مشهورٌ في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح سنة. ومن السنن الراتبة المتفقِ عليها: المخافتةُ بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنةُ المخافتة بها عند الجمهور، وقيل: يتعوَّذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يُخيَّر بين الأمرين. وكذلك التأمين سنتُه الجهرُ به عند أحمد والشافعي، وأصحّ قوليه للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون الإمام تبعًا لقراءته.

والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين

(2)

عن أبي هريرة قال: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم بَاعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب

" إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن

(1)

من هنا تبدأ القطعة الموجودة من الأصل.

(2)

البخاري (744) ومسلم (598).

ص: 283

يجهر بالاستعاذة أيضًا، لقوله "بين القراءة والتكبير". وكذلك سائر الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة

(1)

وأنس

(2)

وأبي هريرة

(3)

وغيرها، تدكُ على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب، قال سحمرة: حفظتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتينِ، وهو في السنن

(4)

.

وأما لعارضٍ فقد ثبت في الصحيح

(5)

أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مراتٍ كثيرةٍ، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير وغيره. وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها بمكة، ورُوِيَ في جهرِه بها بالمدينة أحاديثُ ضعيفةٌ ضعَّفها أهل الحديث

(6)

. وثبتَ في الصحيح

(7)

عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمِعُهم الآية أحيانًا من صلاةِ الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري

(8)

أن ابن عباس جهرَ بالقراءة على الجنازة بفاتحة

(1)

أخرجه مسلم (498).

(2)

أخرجه البخاري (743) ومسلم (399).

(3)

أخرجه أحمد (2/ 299، 321) وأبو داود (1405) والترمذي (2891) وابن ماجه (3786). وانظر "نصب الراية"(1/ 334، 335).

(4)

أخرجه أبو داود (779، 780) والترمذي (251) وابن ماجه (844) وأحمد (5/ 7، 11، 15، 21، 23، 20، 22).

(5)

مسلم (399).

(6)

انظرها مع الكلام عليها في نصب الراية (1/ 341 - 356).

(7)

البخاري (759) ومسلم (451).

(8)

برقم (1335) من حديث طلحة بن عبيد الله. أخرجه أيضًا النسائي (4/=

ص: 284

الكتاب وقال: لِتَعلموا أنها السنة.

فمثلُ هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يَحسُنُ، ولو كان لمصلحةٍ أخرى فهو حسنٌ أيضًا، فإنه قد يكون الجهرُ أعونَ على القراءة، كما قال عمر: أُوقِظُ الوسنانَ وأُرضِي الرحمن وأَطرُد الشيطان

(1)

. فقد يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلبَ به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في [كل] وقت، كما يداوم على قراءة الفاتحة وعلى الركوع.

ومما يدلُّ على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانًا ما في الصحيح

(2)

عن أنس أن رجلاً جاء إلى الصلاة وقد حَفَزَه النَّفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طبياً مباركًا فيه مُباركًا عليه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتَه قال:"أيُّكم المتكلِّمُ بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثْنَي عشرَ ملكًا يبتدرونَها أيُّهم يَرفعُها". فهذا مأمومٌ جهرَ بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، وهذا دليلٌ على جواز الجهر أحيانًا في المواضع التي يُخافَتُ فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنًا وإن لم يُؤمَر به. وهذا موافقٌ لجهر عمر بالاستفتاح.

=74، 75) والحاكم في المستدرك (1/ 358) من طريق سعيد بن أبي سعيد.

(1)

أخرجه أبو داود (1329) والترمذي (447) من حديث أبي قتادة.

(2)

مسلم (600).

ص: 285

وكذلك ما رواه البخاري

(1)

من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلِّي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجلٌ وراءه: ربنا لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما قضى صلاتَه قال:"مَن المتكلِّمُ؟ رأيتُ بضعَةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها". فهذا أيضًا جهرٌ من المأمومَ بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه من جنس المأمور به، فإن النبي لم يُنقَل عنه مثله.

وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلَّوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا ما كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجودهِ واعتداله، مثل حديث جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي فقال:"الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثِه". رواه أهل السنن

(2)

، وهو حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يُخبِره به بعد الصلاة، ولو أخبره كما أخبر أبا هريرة لبيَّن ذلك، ولأنه لم يكن ليُخبِره من غير استخبارٍ عن الاستفتاح وحدَه دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا مُوجِبَ للتخصيص.

وكذلك حديث حذيفة

(3)

أنه صلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه:"سبحانَ ربي العظيم"، وفي سجوده:"سبحانَ ربي الأعلى"،

(1)

برقم (799).

(2)

أخرجه أبو داود (764) وابن ماجه (807) وأحمد (4/ 80، 85).

(3)

أخرجه مسلم (772).

ص: 286

وما أتَى على آيةِ رحمةٍ إلا سألَ، ولا على آيةِ عذاب إلا تعوَّذ، وهذا كان في قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين:"ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفرْ لي"

(1)

، وهذا بيِّنٌ أنه كان يُسمَع منه ما قاله في ركوعه وسجودِه وبين السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر بذلك.

وكذلك حديث ابن أبي أوفى

(2)

أنه كان إذا رفع ظَهرَه من الركوع قال: "سمعَ الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرض ومِلْءَ ما شِئتَ من شيء بعدُ"، وفي حديث أبي سعيد

(3)

: "أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد" إلى آخره. وهذا يدلُّ ظاهرُه على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة من غيرِ إخبارٍ منه لهم.

وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح

(4)

أنه كان يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجودِه: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآن. وقولها في الصحيح

(5)

: كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قدوسٌ ربّ الملائكة والروح". وأصرحُ من ذلك ما رواه

(1)

أخرجه أحمد (5/ 398) وأبو داود (874) والنسائي (2/ 231) وابن ماجه (897) من حديث حذيفة. وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه مسلم (476).

(3)

أخرجه مسلم (477).

(4)

البخاري (817) ومسلم (484).

(5)

مسلم (487).

ص: 287

مسلم

(1)

عنها قالت: فَقدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً على الفِراش، فالتمستُه، فوقَعتْ يدي على بطنِ قدميه وهو في السجود وهما منصوبتانِ، وهو يقول:"اللهمَّ إني أعوذ برِضاكَ من سَخَطِكَ" إلى آخره. فهذا صريحٌ في أنه جَهَرَ بهذا الدعاء في سجودِه، حتى سمعت ذلك عائشة.

فإن كان الإمام ضعيفًا أو صوتُه لا يَبلُغ المأمومين جاز أن يُبلِّغ بعضُهم بعضًا بالتكبير، كما كان أبو بكر يُبلِّغ عن النبي صلى الله عليه وسلم التكبير في مرضِه لما خَرَج وأبو بكر يُصَلِّي بالناس، وبنى على صلاةِ أبي بكر.

وأما الإمام فالسنة في حقه الجهرُ بالتكبير باتفاق العلماء، وفي حديث أبي هريرة الصحيح

(2)

: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا قام [إلى] الصلاة يُكبّرُ حينَ يقوم وحينَ يركع، ثم يقول:"سمعَ الله لمن حمده" حين يرفعُ صُلْبَه من الركعة، ثم يقول وهو قائم:"ربَّنا ولكَ الحمدُ"، ثم يكبّر حين يَهوِيْ وحين يرفعُ رأسَه، ثمّ يكبِّر حين يسجد، ثمّ يكبّر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو حُميد الساعدي

(3)

. وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم

(4)

يبين هذا: "إذا صليتمِ فأقيموا صفوفكم، ثُمَّ ليؤمَّكم أحدُكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: (وَلا الضَّالِّينَ) فقولوا "آمين" يُجِبْكم الله، فإذا كبَّر وركعَ فكبِّروا واركعوا، فإذا قال

(1)

برقم (486).

(2)

أخرجه البخاري (789) ومسلم (392).

(3)

أخرجه البخاري (828).

(4)

برقم (404).

ص: 288

"سمع الله لمن حمده" فقولوا "ربنا ولك الحمد" يسمع الله لكم". ففي هذه الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه.

فصل

وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة المغرب أن قراءتها أقصرُ من قراءة غيرِها، كما اتفقوا على أنّ سنتها التعجيلُ من أول الوقت، وإن كان تأخيرُها إلى وقتِ العشاءِ جائزًا، كما دلَّت على ذلك الأحاديث الصحيحة في إمامةِ جبريلَ النبيَّ صلى الله عليهما وسلم، ويُكرَه تأخيرُها عن أوَّلِ وقتِها من غيرِ عُذْرٍ، بخلافِ غيرِها من الصلوات. وقد روى الإمام أحمد

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل". فإذا كانت وِتْرَ صلاة النهار كان تعجيلُها مع عمل النهار هو السنة، ومع هذا فقد ثبتَ في الصحيح

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها بطُولَى الطُولَيَيْنِ، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها بالمرسلات

(3)

وبالطور

(4)

.

وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفقَ عليها العلماءُ إطالةُ القراءةِ فيها زيادة على غيرِها، حتى قيل: إنها إنما جُعِلتْ ركعتين لأجلِ طولِ القراءة فيها. وفي

(1)

في المسند 2/ 30، 32، 41، 82، 154 من حديث ابن عمر.

(2)

أخرجه البخاري (764) من حديث زيد بن ثابت.

(3)

كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري (763) ومسلم (462).

(4)

كما في حديث جبير بن مطعم الذي أخرجه البخاري (765) ومسلم (463).

ص: 289

الصحيح

(1)

من حديث أبي بَرْزَة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها ما بينَ الستّين إلى المئة، وتارةً بقاف، وهو في الصحيح أيضًا عن جابر بن سمرة

(2)

. وتارةً بالمؤمنين

(3)

، وتارةً بغيرها. وفي مسند أحمد

(4)

أنه قرأ فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويَؤُمُّهم بالصَّافّات. فالتخفيف الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافّات. وقرأ فيها في السفر بـ (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلق) و (قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، كما رواه أهل السنن

(5)

عن عقبة بن عامر قال: كنتُ أقودُ برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقتَه في السفر، فقال لي:"يا عُقْبة، إلا أُعلِّمك خيرَ سورتين قُرِئتَا؟ "، فعلَّمني "قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"، فلما نزلَ إلى صلاة الصبح صلِّى بهما. والسفر قد وُضِعَ فيه عن المسافر شَطْرُ الصلاة، فكذلك يُوضع عنه إطالةُ القراءةِ فيه في الفجر.

وكان يخفف الصلاة لأمرٍ عارض كبكاء الصبي

(6)

، فإن تخفيف الصلاة لئلاّ يشقّ على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة

(7)

أنه كان يصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعةً، وفي حديث ابن

(1)

البخاري (771) ومسلم (461).

(2)

أخرجه مسلم (458).

(3)

أخرجه مسلم (455) عن عبد الله بن السائب.

(4)

3/ 471 و 5/ 368، وأخرجه أيضًا النسائي (2/ 156) كلاهما من طريق شبيب أبي روح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا.

(5)

أخرجه أبو داود (1462) والنسائي (2/ 158).

(6)

أخرجه البخاري (759، 715) ومسلم (470) عن أنس.

(7)

أخرجه البخاري (1147) ومسلم (738).

ص: 290

عباس

(1)

: ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين

(2)

، فلعلَّ هذه هي محلّ الاختلاف، وكان يصلِّي بعد وترِه سجدتين وهو جالسٌ.

قال: وقد أطلق بعضُ العلماء أن التطوُّعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع.

قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيامُ الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح

(3)

عنه أنه سُئِل أيُّ الصلاة أفضلُ بعد المكتوبة؟ فقال: "صلاة الليل". وأفضل الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرًا، بل كان في السفر يُوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام عنهما، حينَ نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قَفَلَ عن خيبر، وقال عنهما:"لا تَدَعُوهما ولو طَرَدَتْكم الخيلُ "

(4)

. وقد كان مالك لا يسمِّي سنة إلا هما خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحدٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئًا من الرواتب في السفر، وكان يُصلِّي صلاةَ الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه كان يصلّي المغرب والعشاء ولا يصلِّي معهما شيئًا، وأنه لم يكن في السفر يزيد على ركعتين. وأقصى ما في

(1)

أخرجه البخاري (183 ومواضع أخرى) ومسلم (763).

(2)

أخرجه مسلم (767) عن عائشة.

(3)

مسلم (1163) عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه أحمد (2/ 405) وأبو داود (1258) عن أبي هريرة.

ص: 291

الأحاديث الصحيحة أن تطوع النبي صلى الله عليه وسلم مع ركعات الفرض أربع وأربعون ركعةً، وعائشة كانت أعلمَ بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل من غيرِها.

فصل

وصف الله سبحانه أنبياءَه ورُسُلَه والعلماءَ من عبادِه بأنهم إذا سمعوا آيات الله خرُّوا سُجَّدا وبُكِيُّا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم:(أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58))

(1)

. وصف جميع هؤلاء الذين هم صَفوةُ خلقِه وخيرهم بأنهم إذا سمعوا آياتِ الرحمن خَرُّوا سُجَّدا وبُكِيّا، وهذا نظير ما وصف به علماءَ أهل الكتاب بقوله:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)) إلى قوله: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109))

(2)

، أي إذا سمعوا القرآن سجدوا وبكَوا.

وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذمَّ من لم يفعل ذلك في قوله:(فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21))

(3)

.

فذمَّ من إذا قرئ عليه القرآن لا يَسجُد، كما مدح النبيين وغيرهم من المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعًا عند استماع هذه الآيات السجدات وواجبٌ عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون

(1)

سورة مريم: 58.

(2)

سورة الإسراء: 107 - 109.

(3)

سورة الانشقاق: 25 - 21.

ص: 292

المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم إذا تُلِيت عليهم خَرُّوا سُجَّدًا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذُكّروا بها خَرُّوا سُجَّدًا، وهذا يَعُمُّ الآيات التي شُرِعَ فيها سجودُ التلاوة وغيرَها، ولا يجوز حملُه على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرةٌ من حيث آيات الله عز وجل.

وكذلك ما وَصَفَ به أهلَ العلم وكذلك ما حَضَّ عليه الناسَ بقوله: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ)

(1)

، فيه من العموم والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يُوضح ذلك أنه لما أثنى على النبيين وأهل العلم وصفَهم بالسجود والبكاء، ولمّا أخبر عما لا بُدَّ منه من الإيمان وما يُذَمُّ من تركه ذكر السجود فقط، فقال:(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15))

(2)

، وقال:(وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القرآن لَا يَسْجُدُونَ (21))

(3)

. بل هذا -والله أعلم- كما شِرعَه لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) إلى أن قال: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))

(4)

، فأمره بالقراءة والسجود، وعلى ذلك بنيَتِ الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيُّما

(1)

سورة الانشقاق: 20 - 21.

(2)

سورة السجدة: 15.

(3)

سورة الانشقاق: 21.

(4)

سورة العلق: 1، 19.

ص: 293

أفضل: طولُ القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع.

فصل

والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)

(1)

، فعُلِمَ أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنَعَتَ النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة والمحافظة عليها.

ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجبَ سُجودَ التلاوة أجابَ عن ذلك من لم يُوجِبْه بأن المراد بها سجودُ الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمَّن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يُشبه هذه الآيات الثلاث قولُه في آخر النجم:(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62))

(2)

. يذمُّ تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله والعبادة له.

وهذا متضمن

(3)

للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وُضِعَت الصلاة على ذلك.

(1)

سورة مريم: 59.

(2)

سورة النجم: 59 - 62.

(3)

في الأصل: "متضمنا".

ص: 294

وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنًا بآياته إلا من يسجد عند ما يُذَكَّر بها، فقال:(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15))

(1)

. وهذه الآية يُستدلُّ بها على أن من لم يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يَقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله:(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي وجوبَ التسبيح مع السجود، والركوع يدخل في مسمَّى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوبَ التسبيح في الركوع والسجود.

وأما قوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)

(2)

فإنه داخل في حيز "الذين" أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء، وكلّما أُخِّرتْ هذه وقُدِّمتْ هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع.

فصل

وقد وُضِعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدَّمنا- كلاهما يدخلُ في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن مُيِّزَ بينهما عند الجمع، كما في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى:(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)

(3)

، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك، ومنه قول

(1)

سورة السجدة: 15.

(2)

سورة السجدة: 16.

(3)

سورة البقرة: 58.

ص: 295

العرب: سَجَدتِ النَّخلةُ، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود:(وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)

(1)

، وإنما هو سجودٌ بالأرض، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح

(2)

أنه قال: "سَجَدَها داودُ توبة، ونحن نسجدها شكرًا"، فإن الركوع يحصل بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حدّ الأرض زيادةٌ فيه.

ويُعبَّر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله:(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)

(3)

، وقوله:(اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)

(4)

.

ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود والركوع عن سجود التلاوة، كما يُروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قولُ من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه.

وممّا يبيِّن أصلَ الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)

(5)

- هو أمرٌ بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يَقرِنُ بعض أركان الصلاةِ ببعض- كما قَرَنَ بين

(1)

سورة ص: 24.

(2)

أخرجه بهذا اللفظ النسائي في الكبرى (11374) من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (4807) بمعناه.

(3)

سورة البقرة: 43.

(4)

سورة آل عمران: 43.

(5)

سورة الحج: 77.

ص: 296

القراءة والسجود، وبين الركوِع والسجود- فإنه يَقرِن بين الصلاة وبين غيرها من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد، وقد قرن بينهما فى قوله:(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) هو الآية

(1)

، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) الآية

(2)

، وقال تعالى:(عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)

(3)

، وقال في القرآن:(وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)

(4)

.

فصل

الذي تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأحاديث الصحيحة أنه لم يكن يَقنُتُ دائمًا في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يُطِيل الفجرَ بالقراءةِ أكثرَ من غيرها، وقد ثبت في الصحيح

(5)

عن أنس أنه لم يَقنُت بعد الركوع إلا شهرًا، والعلمُ بعدم قنوتٍ راتبِ كالعلم بعدم قنوته في العشاء والمغرب دائمًا، إذ لم يَنقل عنه مسلم كلمةً تُقال في القنوتِ الراتب، وقد نقلوا عنه قنوت الوتر.

(1)

سورة الحج: 77 - 78.

(2)

سورة المائدة: 35.

(3)

سورة الفتح: 29.

(4)

سورة الفرقان: 52.

(5)

البخاري (1002) ومسلم (677).

ص: 297

وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبًا أو منسوخًا أو كان لسبب عارض ثم تركه لزوالِه؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت النوازل، كقُنوته على الذين قتلوا القراء يومَ بئر مَعُونةَ، فقنتَ شهرًا بعد الركوع يدعو عليهم، وكقُنوتِه يدعو للمستضعَفين بمكة، فكان يدعو في قنوته لقومٍ، ويدعو على قومِ من الكفار ليُنْصَر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت إذا أرَسلَ جَيْشًا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاءُ على أهل الكتاب، وهو من قنوته موقوف عليه ليس مرفوعًا. وكذلك عليٌّ قنتَ في حروبه. وقد سأل أبو ثور الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأيُّ نازلةٍ أعظمُ من نازلتنا؟ قال: فاقنُتوا إذًا، أو كما قال، يُريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين.

فإذا نزل بالمسلمين أمر عامّ قنَتُوا فيه، كما إذا ظَهرَ قوم من المبتدعة والمنافقين قنتَ المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقعُ بين المسلمين من الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفُرقة في زمنِ علي هل قنتَ الناس للجماعة والائتلاف كما قَنتَ الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتَتْ كل طائفةٍ تطلُبُ النصرَ على الأخرى؟ وفي حروب النبي صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب ونحوِه لِمَ لَمْ يَقنُت أو لِمَ لَمْ يُنقَل قنوتُه؟ فإن المأثور عنه القنوتُ حيثُ لم يُمْكِنْه النصرة بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستَضعفين الذين بمكة من المؤمنين بخلاصهم.

وكذلك عمر كان يَقنُت لجنودِه، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان والنكال، وهذا عِوَض عن مباشرتِه القتال بنفسه.

ص: 298

فصل في الصلاة الوسطى

ص: 299