الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يُعظَّم ويُعبَد من دون الله حتى لا يفعل أحد مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. وأمثال هذا مما يطول عدُّه. وما من عاقل إلا ويعرف ذلك.
ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعًا إلا بشرع يستلزمونه ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاونْ وتتناصرْ فإنها تتهاون تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يُعِنْ هذا هذا، ولا هذا هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يُمَكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، ولم يُمكِّن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء تارة، لزم فساد كل فريق إذا غُلبوا، بل وإذا غَلبوا أيضًا، إذا لم يكن لهم شرع يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك.
وبهذا وأمثاله يتبين أن
الدين والشرع ضروري لبني آدم
، لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرعِ غايته نوع من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرعٍ فيه صَلاح
الدنيا والآخرة، ولا يتصوَّر شرعٌ فيه صلاح الآخرة دون الدنيا، فإن الآخرة لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول لفضولها.
وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان فعله ما يهواه يستلزم وقوعَ ما يضره وخلافَ ما يهواه، كان وجود هذا مستلزمًا لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودًا، لما فيه من الضرر والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودًا ينافي كونه مقصودًا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصلَ المحبوب، فإذا كان حصول هذا المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوعَ المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة مستلزمًا نقيضَ هذه الغاية وضدَّها، وما استلزم وجودُه عدمَه ووجودَ ضدِّه امتنع أن يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك.
كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له.
ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه إذا جعل لها فاعلاً، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحًا.