الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنور الذي هو كمال الحياة.
وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحيي ويميت)
(1)
، ذكر الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياءُ والنور الذي يُعِيش الناس، فذكر الحياة والنور.
فهذه المعاني في
التمثيل بالماء والنار
، وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله:(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59))
(2)
، وقوله:(أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64))
(3)
، فذكر النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال:(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24))
(4)
الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل من الماء والنار، فقال:(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68))
(5)
، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71))
(6)
.
وأيضا فالتمثيل بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة،
(1)
سورة البقرة: 258.
(2)
سورة الواقعة: 58، 59.
(3)
سورة الواقعة: 63، 64.
(4)
سورة عبس: 24.
(5)
سورة الواقعة: 68.
(6)
سورة الواقعة: 71.
والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينَّا تلازم العلم والعمل، وذلك أنها مثل الحياة.
وأيضًا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا.
فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى:(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)
(1)
، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد.
وقال تعالى: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)
(2)
فعلق الهداية بالإنابة، وقال:(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ)
(3)
، وقال تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68))
(4)
.
(1)
سورة العنكبوت: 69.
(2)
سورة الشورى: 13.
(3)
سورة المائدة: 16.
(4)
سورة النساء: 66 - 68. في الأصل بياض بعد "لآتيناهم".
وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضررَه الحرارةُ التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء رَوِيَ، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبًا، فإذا أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، رَوِيَ بذلك، ووجد له اللذة، وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم يشرب، فإنه يكون عذابًا له، كالذي يَصْلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله:"لا نكاح إلا بولي"
(1)
، "ولا بيعَ فيما لا يملك"
(2)
، ونحو ذلك.
وهو لم يمت أيضًا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول خطبته
(3)
: "الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيَوْه، وكم من ضال
(1)
أخرجه أحمد (4/ 394، 413، 418) وأبو داود (2085) والترمذي (1101) وابن ماجه (8181) من حديث أبي موسى الأشعري. وصححه الترمذي وغيره.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 402، 434) وأبو داود (3503) والترمذي (1232، 1233، 1235) والنسائي (7/ 289) وابن ماجة (2187) من حديث حكيم بن حزام. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3)
في كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية".
تائهٍ قد هَدَوه ".
وقد قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)
(1)
، فسمَّاه روحًا ونورًا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى:(أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
(2)
،ولهذا قالت الملائكة: حيَّاك الله وبيَّاك
(3)
، أي أضحكك، والضحك إنما يكون عند السرور.
(1)
سورة الشورى: 52.
(2)
سورة آل عمران: 169، 170.
(3)
أخرجه الطبري في تفسيره (8/ 325) في أثرٍ لسالم بن أبي الجعد.
فصل في التوحيد