المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة

النجس، وصلاةُ العريان والصلاةُ إلى غير القبلة وكذلك بسُتْرةٍ جمعًا خير من صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائمًا مع الجمع خيرٌ من الصلاة وحدَه مع التفريق.

ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاةِ الرجلِ وحدَه في بيته، وما ذاك إلا لأجل الجماعة، فعُلِمَ أن الجماعة في وقتِ إحداهما خيرٌ من كلِّ صلاة في الوقت المختصّ مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادَى في الوقت. بل صلاةُ الخوف في جماعة كما مضتْ به السنة، مع مفارقة بحضهم الإمامَ قبلَ السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى العدو، مع استدبارهم القبلةَ، ومع اقتداء المفترض بالمتنفِّل، ومع الصلاة أربعًا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنةُ= خيرٌ من صلاة كلّ منهم وحده. فالشارعُ يأمرُ بالجماعة ويَحُضُّ عليها، ويحتمل لأجلها تَرْكَ واجباتٍ وفِعْلَ محظوراتٍ.

والوقت أوكدُ من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلِّي جماعةً إلا بعد الوقت صلَّى منفردًا في الوقت باتفاق العلماء.

و‌

‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

. والصلاة بالماء جمعًا خيرٌ من الصلاة بالتيمم مفرقًا.

فمن عَلِمَ أنه لا يجد الماءَ إلا في وقتِ العصر كان صلاتُه الظهرَ والعصر بالماء جمعًا وقتَ العصر خيرًا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك مَن وجدَه وقتَ الظهر وعَلِمَ أنه لا يجده إلا وقتَ المغرب كان جَمْعُه بالماء أفضلَ، كما تكون صلاتُه في آخر الوقت المختصّ بالماء أفضلَ من

ص: 361

صلاته في أوله بالتيمم.

فإن قيل: إنما جمعَ لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاتُه في أحد الوقتين جمعًا بالوضوء خيرٌ من صلاته مفرقةً بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن صلاتها بالاغتسال جمعًا خيرٌ من صلاتها بالوضوء في الوقت المختصّ، والواقف بعرفةَ صلاتُه العصرَ جمعًا مع الظهر لإتمام الوقوف خيرٌ من فعلها في وقتها مع نقصه. وهذا الذي فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم بعرفةَ أصل عظيم في هذا الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجةٍ ولا تحصيلِ واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل لتحصيل مستحبّ، وهو كمالُ الوقوف، فدلَّ على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة الشرعية معه أكملَ من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع الجمع أكملَ في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقفَ يُريد أن يُفِيضَ بعد الغروب إلى مزدلفةَ كان كما رُوي عنه أنه كان إذا ارتحلَ بعد أن تَزِيْغَ الشمسُ قدَّمَ العصرَ إلى الظهر، فصلَاّهما جمعًا.

قيل: إن كان جمعُه كذلك دلَّ على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمعُ لمواصلة السَّيْر فالجمعُ لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعُه لمجرد السفر، فإنه لم يَجْمَعْ في حجته إلا بعرفةَ والمزدلفة، وقد كان يصلِّي قصرًا بلا جَمْع، ولم يقل أحد قَطُّ أنه جمعَ بمنًى ولا صلَّى أربعًا، بل كلُّهم متفقون على أنَّه قَصَرَ ولم

ص: 362

يَجْمَع، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسَّيْر، كما قال ابن عمر وغيرُه: كانَ إذا جدَّ به السَّيْرُ فَعَلَ ذلك، مع أن النزول ممكنٌ ليس فيه إلا تفويتُ الإسراع الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزلَ وصلَّى العصرَ ثم ركِبَ وأتمَّ الوقوفَ كان ممكنًا، لكن يفوت بذلك كمالُ مقصود الوقوف والإفاضة. فعُلِمَ أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة دنيوية.

وإذا كان قد جمعَ لتحصيلِ عبادةٍ هي أفضلُ من التفريق من غير أن يكون ذلك واجبًا ولا ضررَ فيه= عُلِمَ أن الجمعَ يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. وقد نصَّ أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسَّره القاضي بما يُبيح تركَ الجمعة والجماعة. ونصَّ على جَمْعِ المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة.

ومما يُبيِّن ذلك أن الجمع لو كان معلَّقًا بسبب محدودٍ يدور معه وجودًا وعدمًا كالقَصر والفطر، لكان الشارعُ يُعلِّقه به، كما علَّقَ الفطرَ بالمرض والسفر بقوله:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ)

(1)

، وكما علَّق القصر بالسفر دون المرض بقوله:"إنَّ الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشَطْر الصلاة"

(2)

.

وأما الجمع فإنما وقعَ من النبي صلى الله عليه وسلم بافعالٍ فَعَلَها في أول الوقت، وتارةً يُؤخِّرها، وكان التأخير أحبَّ إليه إلا إذا شَقَّ عليه، فإذا اجتمعوا

(1)

سورة البقرة: 184.

(2)

سبق تخريجه من حديث أنس بن مالك الكعبي.

ص: 363

قدَّمَها لمشقة التأخير عليهم، فتقديمُ الصلاة في أول الوقت وإن كان هو الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحةٌ راجحة كان أفضلَ، كالإبراد بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رَجَا المتيمم الماءَ في آخر الوقت، أو رَجَا أن يُصلّي مستورَ العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعةِ ونحو ذلك، وهكذا الجمع. فالأصل وجوبُ كلّ صلاةِ في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يُستحبُّ فِعْلُها في الوقت المشترك لدفع الحرج.

وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث المستحاضة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ لها أن تجمعَ بين صلاتَي النهار بغُسلِ وبين صلاتَي الليل بغُسل، وكان هذا أحبَّ إليه من أن تصلِّي في الوقت المختصّ بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمعُ بوضوءِ أو غُسلِ أفضلُ من التفريق عُريانًا، والجمعُ إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحدَه.

ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كلِّ واحد وحدَه في بيتِه، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاتُه مع الجماعة جمعًا أفضلُ من صلاتِه في الوقتين. ولهذا لو كان مقيمًا في المسجد لكان جمعُه معهم على الصحيح أفضلَ من صلاتِه وحدَه في الوقتين.

وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكَن فِعلُه في الجمع فهو

ص: 364

أفضلُ من تركِه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزًا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة قد صلَّى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فِعلُها فيه كاملةً، فلا يجوز له تفويتُ الوقت المختصّ بلا مُوجب. فأما إذا كان فِعلُها في الوقتين فيه نقصٌ عُفِيَ عنه للحاجة وأمكن فِعلُها في المشترك بلا نقصٍ كان أفضل.

والقرآن والسنة دلاّ على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون ثلاثةً في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر الجمعُ بين الصلاتين إلا من عذرٍ. وقد أباحَ أحمد الجمعَ إذا كان له شغلٌ. قال القاضي أبو يعلى: المراد العذرُ الذي يُبيح تركَ الجمعة والجماعة، فالعذر الذي يُبيح تركَ ذاك يُبيح الجمعَ. وهذا بيِّنٌ، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدِها والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعةً أفضلُ من فعلها في الوقت المختصّ فرادَى.

فإذا سقطتِ الجماعةُ بالعذر فاختصاصُ الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع. من ذلك

(1)

أن الجمعة والجماعة آكدُ من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يُمكِنُ أن يفعل مع الانفراد مما لا يجوز إلا لعذرٍ، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف.

وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثةً في حق المعذور مما

(1)

كذا في النسختين، وفي العبارة غموض.

ص: 365

ثبتَ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفةَ ومزدلفةَ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسعُ قولاً به من غيرِه، وأما تفويتُ الصلاة فلا يجوز بحالٍ في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قولٌ بجواز التفويت في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما أبو حنيفة فيوجب التفويتَ في مواضعَ، ولا يُجوِّز الجمعَ إلا بعرفة ومزدلفة. وقولُ الأكثرين الذين يُسوِّغون الجمعَ بين الصلاتين ويمنعون التفويتَ مطلقًا هو الصحيح، كما دلَّ على ذلك الكتابُ والسنة، فإن الله تعالى قال:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)

(1)

، وثبتَ في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تركَ صلاةَ العصر فقد حَبط عمله"

(2)

، وقال:"من فاتته صلاةُ العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله"

(3)

. فالتفويتُ لا يجوز بحالٍ، وتفويتُ الخندق منسوخٌ.

وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابتٌ بالسنة في مواضع متعددة، وبعضها مما أجمعَ عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تُبيِّن أن الوقت المشترك وقتٌ في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمعُ بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. فدلَّ على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طَهُرَتْ في آخر النهار: إنها تُصلِّي الظهر والعصر،

(1)

سورة البقرة: 238.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 366

وفيمن طَهُرَتْ في آخر الليل: إنها تُصلِّي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة مالك والشافعي وأحمد.

وأما التفويت فلا يجوز بحالٍ، فمن جوَّز التفويتَ في بعض الصُّوَر فقوله ضعيفٌ وإن جوَّز الجمع. وأما من أوجبَ التفويتَ ومَنَعَ الجمعَ فقد جمعَ في قوله بين أصلَينِ ضعيفينِ: بينَ إباحةِ ما حرَّمَ الله ورسوله وتحريمِ ما شرعَه الله ورسولُه، فإنه قد ثبتَ أن الجمعَ خيرٌ من التفويت.

فبهذا الأصل ينتظم كثيرٌ من مسائل المواقيت. وتفويتُ العصر إلى حين الاصفرار وتفويتُ العشاء إلى النصف الثاني أيضًا لا يجوز إلا لضرورةٍ، والجمعُ بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خيرٌ من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نصَّ على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد الماء إلا فيه فإنه يُصلِّي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يُصلِّيها حينَ الاصفرار بالوضوء. والله أعلم.

ص: 367

مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟

ص: 369

مسألة

في رجل فقيرٍ وعليه دَين، وله أخٌ لأبويه وهو غنيٌّ، هل للغنيّ دَفْعُ الزكاةِ لأخيه الفقير دونَ الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيلُ الزكاةِ له سنة أو سنتين؟

جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية

نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاتِه ما يَستحقُّه مثلُه من الزكاة، وهو أولى من أجنبيّ ليس مثلَه في الحاجة، ويجوز تعجيلُ الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب والسنة تتناول القريبَ والبعيدَ في الإعطاء من الزكاة، وامتازَ إعطاءُ القريب بما فيه من الصلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"صدقتك على المسكين صدقةٌ، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصِلَةٌ"

(1)

. والصدقة في الصلة أفضلُ من الصدقة المجردة.

والذين منعوا من إعطاءِ الزكاة له قالوا: نفقتُه واجبةٌ على الأخ، فيكون مستغنيًا بها، فلا يُعطيه ما يقوم مقامَ النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف لوجوهٍ:

أحدها: أنه قد لا تكون النفقةُ واجبةً عليه، بأن لا يكون للمزكّي فضلٌ يُنفِقُه على أخيه، وهذا حالُ كثير من الناس. فإذا حُرِمَ الصدقةَ مع النفقة كان هذا ضدَّ مقصودِ الشارع.

(1)

أخرجه أحمد (4/ 17، 18) والترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) من حديث سلمان بن عامر. قال الترمذي: حديث حسن.

ص: 371

الثاني: أن يقال: هَبْ أن نفقتَه واجبةٌ عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون قادرًا على الكَسْب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنًا من أخذ الزكاة واختار ذلك لم تجب النفقةُ في هذا الحال. كما لو اختارَ أخذَ الزكاةِ من أجنبي، فإن النفقة لا تجب في هذا الحال إجماعًا. وليس أن يُمنَع من الزكاة لأجل وجوب النفقة بأولَى من أن يُمنَع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقةَ مالٌ أباحَه الله له ولأمثالِه، فإذا كان قادرًا عليه لم يكن به حاجةٌ إلى النفقة، والنفقة إنما وجبتْ عند العجز عن الاكتساب، وأخذُ الزكاة من جملة وجوهِ الاكتساب.

وكما أن الصدقة لا تَحِلُّ لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ، فهو أيضًا لا يستحقُّ النفقةَ.

الوجه الثالث: لو وجبتْ نفقتُه على غيره، وامتنعَ ذلك الغير من إعطائها، كان له أخذُ الزكاةِ بالاتفاق. فهذا القريبُ لو قُدِّرَ امتناعُه من الإنفاق لم يَحرُمْ على هذا أخذُ زكاتِه. ولا يقال: الزكاةُ لم تَسقُط عن ذلك، بل غايةُ ما يُقال: إنه عاصٍ بتَرْكِ النفقة.

الرابع: أن يقال: لا ريبَ أنه يجبُ إغناءُ هذا الفقير، فإمَّا أن يُغْنِيَه قريبُه من مالِه وإمَّا من الزكاة، فالواجب إمّا الإنفاق عينًا وإمّا الزكاةُ عينًا وإمَّا أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينًا مع تمكُّنِ المحتاج من أخذِ الزكاة ومع اختيارِه لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينًا مع اختيار ربِّ المالِ أن يَصِلَ رَحِمَه من ماله فلا يقول به أحدٌ، فمتى اختار الفقيرُ أخذَ الزكاةِ فله ذلك، ومتى اختار الغنيُّ صلتَه من مالِه فله ذلك إذا اختارَ الفقيرَ، ولو أرادَ الفقيرُ أن لا يَقبل الصلةَ وقال: لا آخذُ إلا من

ص: 372

الزكاة فله ذلك. وإن أرادَ المطالبةَ بالنفقةِ وقال: لا أريدُ إلا النفقةَ دونَ الزكاةِ، فهذا فيه نظرٌ ونزاعٌ، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائزٌ أيضًا. كما لو كان الغنيُّ يُعطِيه من صدقةٍ موقوفةٍ، أو من صدقةٍ هو وكيلٌ فيها أو ولي عليها.

فإن قيل: إذا أعطاه وَقَى بها مالَه، وقد ذكر الإمامُ أحمد عن سفيان ابن عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يَقِيْ بها مالَه، ولا يُحَابي بها قريبًا، ولا يَدفَعُ بها مَذمَّةً.

قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عيالِه، فيُعطِيه ما يَستَغْنِي به عن النفقةِ المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يُجزِئُه على الصحيح، وهو المنقول عن ابن عباس وغيرِه، أَفتَوا بأنه إذا كان من عياله لم يُعطِه ما يَدفَعُ به الإنفاقَ عليه. حتى لو كان متبرّعًا باِلإنفاقِ على رجلٍ لم يكن له أن يُعطِيَه ما يقِي به مالَه، لأنه هنا دَفعَ عن نفسِه بالزكاة، فأخرجها لغَرَضِه لا للهِ، والزكاة عليه أن يُخرِجَها لله، وإن لم يكن هذا واجبًا بالشرع، لكن العادات لازمةٌ لأصحابها. والمحاباةُ أن يُعطِيَ القريبَ وهناك من هو أحقُّ منه، وأما إذا استويا في الحاجة وأعطاهُ لم يكن هذا محاباةً. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادتُه الإنفاقَ على الأخ، فإن وجوبَ الإنفاق عليه مشروطٌ بعدمِ قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ذلك، فمتى كان قادرًا على الأخذِ مريدًا له لم يستحق في هذه الحال نفقةً. كما لو حَصَلَ ذلك مع غنى أجنبيّ، فإنه إذا اختارَ الأخذَ من زكاته لم يجب على أخيه في هذه الحال الإنفاقُ عليه.

ص: 373

الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطَى الزكاةَ للإمام، فأعطَى الإمامُ أخاه من ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يَقْسِمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك إذا قَسَمَها هو. وسببُ ذلك أن الزكاةَ يجبُ صَرْفُها إلى الله تعالى، الذي يثيبُ صاحبَها، والفقراءُ يأخذونها من الله، لا يَستحقُّ أربابُ الأموال عليهم معاوضةً. فهو كما أعطَى الإمامُ من بيت المال، وناظرُ الوقفِ من الوقف، وإذا كان كذلك فأخْذُه من زكاةِ قريبِه وغيرِه سواءٌ، كأخذه من مالٍ يَنظُر عليه قريبُه، سواء كان سلطانيًّا أو وقفًا أو نذرًا.

يدل على ذلك أن أبا طلحةَ لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحَاء، وإنها صدقةٌ لله أرجو بِرَّها وذُخْرَها عند الله، فضَعْها يا رسولَ الله حيثُ شئتَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إني أرى أن تجعلَها في الأقربين"

(1)

. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرَ بجعْلِها في الأقربين بعد أن جَعَلَها لله وخَرَجَ عنها. والله سبحانَه أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (1461) ومسلم (998) من حديث أنس.

ص: 374

مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد

ص: 375

مسألة

في التسمية على ذَكاةِ الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمسَ رواياتٍ، ذكرها أبو الخطاب في "رؤوس مسائله ". قال أبو الخطاب: متروكُ التسمية لا يَحِلُّ أكلُه، سواء تركَ التسميةَ عامدًا أو ناسيًا. وعنه إن تَركَها عامدًا لم يحلَّ، وإن تركها ناسيًا حلَّتْ. وهو قولُ أبي حنيفةَ والثوري ومالك. وعنه إن سَها على الذبيحة حَلَّ، فأما على الصيد فلا.

(قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر أصحابه، كالخرَقي والقاضي وأكثرِ أصحابه والشيخ الموفق.

قال: وعنه إن سَهَا على السَّهم حَلَّ، وأما على الكلب والفهد فلا.

وقال الشافعي: يَحِلُّ أكلُه سواء تركَها عامدًا أو ساهيًا، وعن أحمد بنحوه.

ونَصرَ أبو الخطاب التحريمَ مطلقًا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب، فإني تدبَّرتُ نصوصَ الكتاب والسنة فوجدتُها متظاهرةً على إيجاب التسمية واشتراطِها في الحلِّ، وتحريمِ ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه، وكلُّ نصٍّ منها يوافق الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجدْ شيئًا يَصلُح أن يُقارِبَ معارضةَ هذه النصوص، فضلاً عن أن يُكافِئَها أو يرجحَ عليها. ولو لم يكن إلا نصّ سالم عن المعارِض المقاومِ لَوجبَ العملُ به، فكيف مع كثرتها وقوةِ دلالتها وعدمِ معارضِها.

ص: 377

قال الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121))

(1)

. فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وعلَّق ذلك بالإيمان، وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يُذكر اسمُ الله عليه، وقال:(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) كما قال فيما أُهِلَّ به لغير الله في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)

(2)

. فقد ذكر تحريم ما أُهِلَّ لغيرِ الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير.

وقال تعالى فيما ذمَّ به المشركين: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)

(3)

. وقال تعالى في المائدة

(4)

: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إلى قوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) إلى قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا

(1)

سورة الأنعام: 118 - 121.

(2)

سورة الأنعام: 145.

(3)

سورة الأنعام: 138.

(4)

الآيتان: 3، 4.

ص: 378

أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).

فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديثُ عدي بن حاتم الذي اتفق العلماء على صحته، وتلقَّتْه بالقبول تصديقًا وعملاً به، ففي الصحيحين

(1)

عن إبراهيم النخعي عن همّام بن الحارث عن عَدِيّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إني أُرسِل الكِلابَ المعلَّمةَ فَيُمسِكْن عليَّ وأذكُر اسمَ الله، فقال:"إذا أرسلتَ كلبك المعلَّمَ وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ ما أمسكَ عليك "، قلت: وإن قتلنَ؟، قال:"وإن قَتلنَ، ما لم يشركها كلبٌ ليس منها". قلتُ: فإني أَرمِي بالمِعراضِ الصيدَ فأُصيبُ، فقال:"إذا رميتَ بالمِعراضِ فخَرَقَ فكُلْهُ، وإن أصابَه بعَرْضِه فلا تأكُلْه".

وفي الصحيحين

(2)

عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعتُ عديَّ بن حاتم قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن المِعراضِ، فقال:"إذا أصابَ بحدِّه فكُلْ، وإذا أصاب بعَرْضه فقتلَ فإنه وَقِيذٌ فلا تأكل "، قال: قلتُ: إني أُرسِلُ كلبي، قال:"إذا أَرسلتَ كلبك وذكرتَ اسمَ اللهِ فكُلْ "، قال: قلتُ: فإن أكلَ منه؟ قال: "فلا تأكُلْ، فإنما أمسكَ على نفسِه ولم يُمسِك عليك ". قال: قلت: أُرسِلُ كلبي وأجدُ معه كلبًا آخر، قال:"لا تأكُل، فإنما سمَّيتَ على كلبِك ولم تُسَمِّ على الآخر".

(1)

البخاري (7397) ومسلم (1929).

(2)

البخاري (5486) ومسلم (1929/ 3).

ص: 379

وفي الصحيحين

(1)

أيضًا عن عديّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكُر اسمَ الله عليه، فإن أمسكَ عليك فأدركتَه حيًّا فاذبَحْه، وإن أدركتَه قد قتلَ ولم يأكل منه فكُلْ، فإن وجدتَ مع كلبك كلبًا غيرَه وقد قتل فلا تأكلْه، فإنك لا تَدري أيّهما قَتَلَه. وإن رميتَ بسَهْمِك فاذكر اسمَ الله، فإن غابَ عنك يومًا فلم تَجدْ فيه إلا أثرَ سَهْمك فكُلْ إن شِئتَ، وإن وجدتَه غريقًا في الماء فلا تأكُلْه".

وفي لفظ البخاري

(2)

: قلت: يا رسولَ الله، أُرسلُ كلبي وأُسمِّي، فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أَدري أيُّهما أخذَ، قالَ:"لا تأكلْ، إنما سمَّيتَ على كلبك، ولم تُسَمِّ على الآخر".

قوله: "فأدركتَه حيّا فاذبَحْه" من أفراد مسلم، وزادَ غيرُه بإسنادِه الصحيح:"فإن أدركتَه ولم يقتلْ فاذبَحْ واذكُر اسمَ الله".

فهذا فيه الدلالة من وجوهٍ عديدةٍ:

أحدُها: قول عديّ أولاً: "إني أُرسلُ كِلابي المعلَّمةَ فيُمسكنَ عليَّ وأذكُر اسمَ الله"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أرسلتَ كلبكَ المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله عليه"، وقوله:"إنما سمَّيتَ على كلبك" دليلٌ على أن عديا فهمَ من قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)

(3)

أنه أمرٌ من الله بذكرِ اسمِه

(1)

البخاري (5486) ومسلم (1929/ 6).

(2)

البخاري (5486).

(3)

سورة المائدة: 4.

ص: 380

على الصيد، لم يُرِد به مجردَ ذكرِ اسمِه عند الأكل، كما ظن ذلك بعضُ الناس.

(ثم قال:) فيقال: حديثُ عدي بن حاتم سؤالُه وجوابُ النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التسمية عليه على الصيد حينَ الاصطياد، وإن كانت التسمية عند الأكلِ مأمورًا بها أيضًا وجوبًا أو استحبابًا، على قولين معروفين لأصحابنا وغيرهم. لكن التسمية حينَ الاصطياد مأمورٌ بها في الآية قطعًا، كما دلىَّ عليه حديثُ عديّ، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضًا، وهذه من أدلة القرآن، فإن الضمير في قوله:(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ضميرٌ عائد على "ما" في قوله: (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي: واذكُروا اسمَ الله على ما أمسكن. وذِكرُ اسمِ الله على ما أمسكنَ هو ذِكرُه على الصيد حينَ الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة أي حينَ الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث:"فإنك إنما سميتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على غيره ". وأما إذا سمَّى على الكلبِ وأرسلَه، فعند إرسال الكلب له يكون صاحبُه بعيدًا عنه، وقد لا يراه، فلا يُؤمَر حينئذ بالتسمية. ولم يَقُلْ أحدٌ من أهل العلم أن ذِكْرَ اسمِ الله على ما أمسكن هو مخصوصٌ بهذه الحال.

وأيضًا فإنه لم يتقدَّم اسمٌ يَصلُح أن يعودَ الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما الأكلُ فلم يتقدم اسمُه، وإنما تقدم قولُه:(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ). وقد يعود الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله:(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ)

(1)

،

(1)

سورة آل عمران: 180.

ص: 381

لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعودُ الضمير إليه إلا ما دلَّ عليه الفعل من الاسم لعدمِ اللبس، وأما إذا كان الاسمُ هو القريب إلى الضمير فهذا يترجَّحُ عودُه إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلاً؟

وأيضًا فالقرآن حيث أُمِرَ فيه بذكر اسمِ الله على ما ذُكِّي فإنما هو حين التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذمَّ مَن تركَ ذِكْرَ اسمِه عليها حينئذٍ، كما قال:(وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا)

(1)

، فالذي ذَمَّ به المشركين على تركِه أمرَ المؤمنين بفعلِه. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث عديّ قرَّرها وطابَقها.

الثاني: أنه قال في بعض طُرقه: "إذا أرسلتَ كلبَك فاذكر اسم الله عليه"، فأمرَ بذلك، وأمرُه للوجوب.

الثالث: أنه قال أيضًا: "إذا رَميتَ بقوسك فاذكر اسمَ الله".

الرابع: أنه قال: "إن أدركتَه ولم يُقتَل فاذبَحْه واذكُر اسمَ الله".

الخامس: أنه قال: "إذا أرسلتَ كلبك المعلَّم وذكرتَ اسم الله فكُلْ ما أمسك عليك". فشَرَطَ في الأكل أن يذكر اسمَ الله، كما اشترطَ أن يكون الكلبُ معلَّمًا، وأن يُمسِكَ عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن.

السادس: أنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أُرسِل كلبي وأسمِّي،

(1)

سورة الأنعام: 138.

ص: 382

فأجدُ معه على الصيد كلبًا آخر لم أُسمِّ عليه، ولا أدري أيُّهما أخذ.

قال: "لا تأكلْ، فإنك إنما سميتَ على كلبك، ولم تُسَمَ على الآخر".

فنهاه عن أكلِ ما شكَّ في تذكيته، وعلَّلَ ذلك بأنك إنما سمَّيتَ على كلبك ولم تُسَمِّ على الآخر، فجعلَ المانعَ من حِلِّ صَيدِ الكلب الآخر تركَ التسمية، كما جَعلَ فِعلَ التسمية علةً لحِل صيدِ كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جَعْلِه وجودَ التسمية شرطًا في الحِلِّ، وعدمَ التسميةِ مانِعًا من الحِلِّ، ولم يُفرِّقْ بين أن يتركَها ناسِيًا أو غيرَ ناسِ، مع أن حالَ الاصطياد حال قد يدهَشُ الإنسانُ ويَذْهَلُ عن التسَميةِ فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بتركِ التسمية فأن لا يَعذرَه بذلك في حالِ الذبح وهو أحضرُ عقلاً= أولى وأحرى.

السابع: أنه كرَّر علية ذِكرَ التسمية حينَ إرسالِه الكلبَ، وحينَ إرسالِه السهمَ، وعند منعِه من أكلِ ما خالطَ كلبَه كلب لم يُسَمِّ عليه، وعند ذبحِه. وهذا كلُّه يدلُّ على اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بالتسمية على الذكاة بالذبح والسَّهم والجارح، وأنه لا بدَّ منها في الحلّ، وأن انتفاءَها يُوجبُ انتفاءَ الحلِّ. وهذا في غاية البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ليس عليه إلا البلاغ المبين، وبدون هذا يَحصُلُ البيان الذي تقومُ به الحجَّةُ على الناس.

وأيضًا حديث أبي ثعلبةَ الخُشَني

(1)

- وهو في الصحاح والسنن

(1)

أخرجه البخاري (5478، 5488، 5496) ومسلم (1930) وأحمد (4/ 195) وأبو داود (2855) والترمذي (1560) والنسائي (7/ 181) وابن ماجه (3207).

ص: 383

والمساند أيضًا، وعلى حديثه وحديثِ عديّ يدورُ بابُ الصَّيد، وعليهما اعتمدَ الفقهاءُ كلُّهم- قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: إنّا بأرضِ قوم من أهلِ الكتاب نأكلُ في آنيتهم، وأرضِ صيدٍ، أَصِيدُ بقَوسِي، أصيدُ بكَلبي المعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم، فأخبرني ما الذي يَحلُّ لنا من ذلك؟ فقال:"أما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ قومٍ من أهلِ الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غيرَ آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدَوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرتَ أنكم بأرضِ صيدٍ، فما أصبتَ بقوسِك فاذكر اسمَ الله ثم كُلْ، وما أصبتَ بكلبك المعلَّم فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما أصبتَ بكلبك الذي ليس بمعلَّم وأدركتَ ذكاتَه فكُل ". وفي لفظ البخاري: "ما صِدْتَ بقوسِك وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبك المعلَّم وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ".

فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحلُّ من ذلك؟ فلم يُحِلَّ له إلا ما ذكَر اسمَ الله عليه في الاصطياد بقوسهِ وفي الاصطياد بكلبه، ولم يَستَثن حالة نسيانٍ ولا غيرها، وهذا من أَبْينِ الدلالةِ على أنه لا يحلُ له إلا ذلك، إذ لو كان يَحِلُّ ما ترك التسمية عليه خطأً أو عمدًا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان الجواب إذَنْ إحلالَ ذلك كله أو إحْلالَ ما سُمِّي عليه وما نسي التسمية عليه، كما أن المستفتي لمن يُحِلُّ هذا من الفقهاء يُجيبُه بجواب يُخالِف جوابَ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ثعلبة، وهذا دليلٌ على خطأ ذلك الجوًاب.

وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجبَ التسميةَ على الصيد دون الذبيحة في حالِ الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص

ص: 384

صريحةٌ في اشتراطِ ذلك، ولم يَردْ مثلُ ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية الذبيحة تذكية اختيار، فلم تَحتَجْ إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها تذكيةٌ ضرورية وقعتْ رخصةً، فلا بُدَّ أن تكملَ بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق والَّلبَّة. وبهذا فرَّق من اشترطَها في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يَحصُل بفعل الَادمي، بخلاف التذكية بالجارح، فإنها تَحصُل بفعلِ الجارح، فكانت أضعف.

لكن ما ذكروه يُعارِضه أنكم تُوجبونَها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسيَ بعذرِ النسيان، والصائد أولىَ بالعذر من الذابح، لما يَحصُل له من العذر والدَّهَش الذي يُوجِب له النسيانَ.

(ثم قال:) وذكاةُ السهم والكلب ذكاةٌ تامَّةٌ يَحصلُ بها الحِلُّ التامُّ، كما أن صلاةَ الخائف والمريض تَبْرَأُ بها ذِمّتُه، فإن الله إنما أوجبَ على الناس ما يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكنُ تذكيتُه إلا على هذا الوجه لم يُوجِب الله ما يَعجزون عنه.

ولهذا كانت ذكاةُ الجنين عندنا ذكاةَ أمِّه كما مضتْ به السنة، وإن لم يكن في ذلك سَفْح دَمِه، إذ لا يمكن تذكيتُه إلا على هذا الوجه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وُسْعَها. ولهذا قلنا: إذا أدركَ الصيدَ مجروحًا ولم يتسع الزمانُ لتذكيتِه أُبِيحَ، ونظائرُ ذلك.

وأيضًا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خَدِيْج

(1)

قال:

(1)

أخرجه البخاري (5543) ومسلم (1968) وأحمد (3/ 463، 464، 4/=

ص: 385

كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحُلَيفة من تِهامةَ، فأصاب القومَ جِوع، فأصابوا إبلاً وغنمًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أُخرياتِ القوم، فعجَّلوا وذبَحُوا ونَصَبُوا القدور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقُدورِ فأكفِئَتْ، ثمّ قَسَمَ فَعَدَلَ عشرةً من الغنم ببعيرٍ، فنَدَّ منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجلٌ منهم بسهمٍ، فحبَسَه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لهذه البهائم أَوَابِدَ كأوًابِدِ الوحشِ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا". قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنا لَاقُو العدوّ غدًا وليستْ معنا مُدًى، أفنذْبحُ بالقَصَب؟ قال:"ما أَنْهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلُوه، ليسَ السِّنَّ والظفًر. وسأحدِّثكم عن ذلك، أما السِّنُّ فعَظْم، وأما الظفُر فمُدَى الحبشةِ".

وهذا الحديث أيضًا تلقَّا [هُ]، العلماءُ بالقبول، وقد علّق الحلّ فيه بشرطين: بإنْهار الدَّمِ وذِكْرِ اسمِ الله على المذكَّى. فكما أن إنْهارَ الدم شرط فكذلك ذِكرُ اسمٍ الله عليه، وكما أن الذكاةَ بما لا يُنْهِرُ الدمَ لا يُباحُ بحالٍ، بل قد يُعفى عما لا يمكنُ إنْهارُ دمِه، كالجنين في بطنِ أمّه، فيكون ذكاتُه ذكاةَ أمِّه التي أُنْهِرَ دَمُها، وأما ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه فلم يُعفَ عنه.

وأيضًا فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبتَ عنه أنه قال للجنّ: "لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسمُ الله عليه، تجدونَه أوفرَ ما يكون لحمًا، وكلُّ بَعَرَةٍ عَلَف لِدَوَابِّكم"

(1)

،

=140، 142) والترمذي (1491، 1492، 1600) والنسائي (7/ 221، 226، 228) وابن ماجه (3137).

(1)

أخرجه مسلم (450) عن ابن مسعود.

ص: 386

[و]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَستنتجوا بهما، فإنهما زادُ إخوانكم من الجن "

(1)

. فماذا كان لم يُبَحْ للجنّ المؤمنين من الطعام الذي يَصلُح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعامُ الذي ذُكِرَ اسمُ الله عليه، فكيف بالإنس الذين هم أكملُ وأعقلُ، وهم الذين يتولّون تذكيةَ الحيوانِ، كيف يُباحُ لهم ما لم يُذكَر اسمُ الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نَهَى عن الاستنجاء بطعامِ الجنّ وعَلَفِ دَوَابِّهم، كان النهيُ عن الاستنجاء بطعامِ الإنس وعَلفِ دَوَابِّهم أولى وأحرى.

وأيضًا ففي صحيح البخاري

(2)

وغيره عن عائشة أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتونا باللحم، لا نَدريْ أَذُكِرَ اسمُ الله عليه أم لا، فقال:"سَمُّوا عليه اسمَ الله وكُلُوا". قال: وكانوا حديثي عهد بكفر.

وهذا يدلُّ على أنه كان قد استقرَّ عند المسلمين أنه لا بُدَّ من ذِكر اسمِ الله على الذبح، كما بيَّنَ الله ذلك لهم هو ورسولُه في غير موضع، فلما كان هؤلاء حديثي عهدٍ بالكفرِ خافوا أن لا يكونوا سَمَّوا، فاستفًتَوا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأمرَهم أن يُسَمُّوا هُم ويأكلوا. وذلك لأنَّ من أباحَ الله ذبيحتَه من مسلم وكتابيّ لا يُشتَرط في حِلِّ ذبيحتِه أن أعلم أنه بعينه قد سَمَّى، إذ العلمُ بهذ الشرطِ متعذِّرٌ في غالبِ الأمر، ولو كان هذا العلمُ شرطًا لما أكلَ اللحمَ غالبُ الناسِ، فأجريت أعمالُ الناسِ على الصحة، كما أن من اشتريتَ منه الطعامَ حملتَ أمرَه على الصحة، وأنه إنما باعَ ما لَه بيعُهُ بملكٍ أو ولاية أو وكاله، مع أن كثيرًا من الناس

(1)

أخرجه الترمذي (18) من حديث ابن مسعود.

(2)

برقم (5507) و (7398).

ص: 387

يبيعون ما لا يجوز لهم بيعُه.

(ثم قال:) ولو لم تكن التسميةُ شرطًا لكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: سواء سَمَّوا أو لم يُسَمُّوا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعلَّ أحدَهم نسيَ التسميةَ. فلما أعرضَ عن هذا كلِّه عُلِمَ أنَّ أحدًا لا يُعذَرُ بتركِ التسمية، وإنما يُعذَرُ من لم يعلمِ حالَ المذكِّي، والفرق بينهما ظاهر جدًّا، كما أن المذكّي عليه أن لا يُذكّي إلا في الحَلْقِ واللَّبَّةِ، ومن لم يعلم حالَه له أن يأكلَ ما ذُكِّي حملا لفعلِه على الصحة والسلامة.

ثمّ إن وجوبَ تذكية المقدور عليه في الحلق واللَّبَّةِ مما يقول به عامةُ العلماء، وليس في إيجاب ذلك نصٌّ مشهورٌ صريحٌ، بل فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جُعِلَ شرطًا على كل قادر، لا يَسقُط إلا بالعجز، فالتسميةُ التي دلَّ على وجوبها النصوصُ الصحيحةُ الصريحةُ أولَى بالإيجاب والاشتراطِ، فإن التذكيةَ في غير الحلقِ واللَّبَّةِ يَحصلُ بها إنهارُ الدم، لكن هو عدولٌ عن أحسنِ القِتْلَتَيْنِ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتلَةَ، وإذا ذَبحتم فأحسِنُوا الذِّبحةَ، ولْيُحِدَّ أحدُكم شَفْرتَه ولْيُرِحْ ذبيحتَه "

(1)

. فإذا كان بتَركِ أولى الذِّبحتينِ تَحرُمُ الذبيحةُ، فتَركُ ذِكْرِ اسمِ الله أولى بذلك، لأنَّ هذا هو الفرق بين ذكاةِ أهلِ الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسمَ الله على الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسمَ الله.

(1)

أخرجه مسلم (1955) من حديث شداد بن أوس.

ص: 388