الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو أكثرُ، قال: فاتخذِي ثوبًا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجُّ ثَجًّا، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"سَآمُرُكِ بأمرين أيَّهما صنعتِ أجزأَ عنكِ، فإن قَوِيْتِ عليهما فأنت أعلمُ"، فقال:"إنما هي ركضةٌ من الشيطان، فتَحيضِي ستةَ أيام أو سبعةَ أيامٍ في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيتِ أنكِ قد طَهُرتِ واستنقَأتِ فصلّي أربعًا وعشرين ليلةً أو ثلاثًا وعشرين ليلةً وأيامَها، وصُومي وصَلِّي، فإن ذلك يُجزِئكِ، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساءُ وكما يَطهُرن لميقاتِ حيضِهنَّ وطهرِهنَّ، فإن قَوِيتِ على أن تُؤَخِّرين الظهر وتُعجلين العصرَ ثمَّ تغتسلي حتى تَطْهُرِين، فتُصلين الظهر والعصر جميعًا، ثمَّ تُؤخِّرينَ المغربَ وتُعجلينَ العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين بغُسْلٍ، وتغتسلين مع الصبح وتُصلين، فكذلك فافعلي وصُومِي إن قَدرتِ على ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو أعجبُ الأمرينِ إليَّ".
وعن عائشة رضي الله عنها أن سَهْلة بنت سُهَيل استُحِيْضَتْ، فأتتِ النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرَها أن تَغتسلَ عند كل صلاةٍ، فلما جَهَدَها ذلك أمرَها أن تجمعَ بين الظهر والعصرِ بغُسلٍ، والمغرب والعشاء بغُسلٍ، وأن تغتسل للصبح. رواه أحمد والنسائي وأبو داود
(1)
، وهذا لفظه.
وأصلُ هذا الباب أن تعلمَ أن
وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر
. فالوقت في حال الرفاهية خمسةُ أوقاتٍ، كما ثبتَ في صحيح مسلم
(2)
عن عبد الله بن عمرو عن النبي
(1)
أحمد (6/ 119، 139) والنسائي (1/ 184) وأبو داود (295).
(2)
برقم (612).
- صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وقتُ الظهر ما لم يَصِرْ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَه، ووقتُ العصرِ ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ، ووقتُ المغرب ما لم يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ، ووقتُ العشاءِ إلى نصفِ الليل، ووقتُ الفجر ما لم تَطلُع الشمسُ".
وقد رُوِيَ هذا الحديث من حديث أبي هريرةَ في السنن
(1)
، ولم يُروَ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثٌ في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائرُ ما رُوِيَ فِعْل منه، والأحاديثُ الصحيحةُ المتأخرة من فعلِه تُوافقُ هذا الحديث.
ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحُّهما.
والنزاعُ بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأوّلِ وقتِ العصر وآخرِه، وآخرِ وقتِ المغرب، وآخرِ وقتِ العشاء، وآخرِ وقتِ الفجر.
فالجماهيرُ من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقتُ الظهر عندهم من الزوالِ إلى أن يصيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مثله سوى الفيْء الذي زالت عليه الشمسُ. وهذا مذهب مالك والشافعي وأَحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن يَصِيرَ ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيْه. ثم يدخلُ وقتُ العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخلُ إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَيْه. ونُقِلَ عنه أنَّ ما بين المثلِ إلى المثلَيْن ليس وقتًا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخرُ هذا أَو بينهما قَدْرُ أربع ركعاتِ مشترك؟ فيه نزاعٌ، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظلُّ كلّ شيء مثلَيْه خرجَ وقتُ العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلافٍ في
(1)
الترمذي (151).
مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتدٌّ بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية الثانية عن أحمد، كما نطقَ به حديث عبد الله بن عمرو
(1)
بما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد عملِه بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن. فلم يكن للعصر وقتٌ متفقٌ عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت به السننُ واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظلُّ] كل شيء مثله، وليس مع القول الآخر نقلٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا صحيحٌ ولا ضعيفٌ، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخِّرون الصلاة لمَّا اعتادوا تأخيرَ الصلاة [و] اشتهر ذلك صار يظنُّ من ظنَّ أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب للمسلمين وأهل الكتاب
(2)
، ولا حجةَ فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطولُ من وقت العصر الذي أولُه إذا صار ظلُّ كل شيء مثلَه.
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر- واسع فيهما من وجهين:
أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدَّمها النبي صلى الله عليه وسلم يومِ عرفة، وكما كان يُقدِّمها في سفَرةِ تبوك إذا ارتحلَ قبلَ أن تَزِيغ الشمسُ، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمعُ تقديم.
والثاني: جمعُ تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله صلى الله عليه وسلم في
(1)
أخرجه مسلم (612).
(2)
أخرجه البخاري (558، 2271) من حديث أبي موسى الأشعري.
الحديث الصحيح
(1)
: "مَن أدركَ ركعةً من الفجر قبلَ أن تَطْلُعَ الشمسُ فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تَغرُبَ الشمسُ فقد أدركَ العصرَ". هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
(2)
: "وقتُ العصر ما لم تَصْفَرَّ الشمسُ". وأنه لم يُؤخر الصلاةَ قَط إلى الاصفرار، ويومَ الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب، وهو منسوخٌ في أشهرِ قولي العلماء بقوله تعالى:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)
(3)
.
وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يُخيَّر حالَ القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، ففي الحديث الصحيح
(4)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا كانت بينَ قَرْنَي الشيطان قامَ، فنَقَرَ أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلاً". فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنَّقْر، فدلَّ على المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهذا عُلِمَ أن الوقتَ وقتانِ، فمن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك مطلقًا، وليس له أن يُؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبلَه، بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبلَ ذلك، كالحائض إذا طَهُرَتْ، والمجنون يُفيق، والنائم يستيقظ، والناسي يذكر. فدلَّ تقديمُه للعصر يومَ عرفةَ على أنها تُفعَل في موضعٍ مع الظهر عقيب
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سورة البقرة: 238.
(4)
سبق تخريجه.
الزوال، ودلَّ هذا الحديث على أنها يُدرَك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب، مع أنه جائز
(1)
بقوله وفعله أن وقتَها إذا صارَ ظِل كل شيء مثلَه ما لم تَصْفرَّ الشمسُ، فدلَّ على أنَّ هذا الوقت المختصَّ بها وقتٌ مع التمكن والرفاهية، ليس لأحد أن يؤخِّرها عنه ولا يُقدِّمها عليه.
وقد عُرِف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طَهُرتْ قبلَ غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، وإذا طَهُرتْ قبل طلوع الشمس
(2)
صلَّت المغرب والعشاء. ولم يُعرَف عن صحابي خلافُ ذلَك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدلُّ على أنه كان الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر، والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب، كما دلَّ على ذلك السنة، والقرآن يدلُّ على ذلك، قال الله تعالى:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)
(3)
، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر من النهار، كما قد نصّ على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار، وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلَّى بالليل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"صلاةُ الليل مَثْنى مَثْنى، فإذا خفتَ الصبحَ فأوترْ بركعة"
(4)
. فليس لأحد أن يتعمَّد تأخير
(1)
كذا في الأصل.
(2)
كذا في الأصل، ولعل الصواب:"الفجر". وانظر هذه الآثار في "شرح العمدة"(كتاب الصلاة) للمؤلف (ص 230).
(3)
سورة هود: 114.
(4)
أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر.
الوقت إلى ما بعد طلوعِ الفجر عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه.
وإذا قيل: "نصف النهار" فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس، فهذا في هذا الموضع، ولفظ "النهار" يُراد به من طلوعِ الفجر، ويُراد به من طلوع الشمس، لكن قوله (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة، بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمسُ. وهل تُستحبّ الصلاة لوقت الضحى أو لا تُستحبّ إلا لأمرِ عارضِ؟ فيه نزاعٌ ليس هذا موضعه.
فعُلِم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال:(وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) وهي ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى:(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78))
(1)
. فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دَلَكَتْ وهي الشمسُ إذا زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمتُه. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولاً واحدًا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال:(وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ) وهي صلاة مفردة لا تُجمَعُ ولا تُقْصَر.
(1)
سورة الإسراء: 78.
وقال تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ)
(1)
. فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت.
وقد دلَّ على المواقيت في آياتٍ أخرى، كقوله:(فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18))
(2)
، فبيَّن أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حينَ الصباحِ وحينَ المساءِ وعشيًّا وحينَ الإظهار، فالمساء يتناول المغربَ والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
وقال تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)
(3)
، وفي الآية الأخرى:(قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40))
(4)
.
فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته
(5)
من حديث
(1)
سورة النور: 58.
(2)
سورة الروم: 17، 18.
(3)
سورة طه: 130.
(4)
سورة ق: 39 - 40.
(5)
البخاري (554) ومسلم (633).
جرير بن عبد الله قال: كنّا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلةَ البدر، فقال:"إنكم سترون ربَّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ قوله:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)
(1)
. و"من آناء الليل" مطلقٌ في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء.
والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقتٌ يخصُّها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجبَ مطلقَ الذكر في قوله:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15))
(2)
، فلا مُوجبَ لخصوص التكبير عندهم، بل مطلق الذكر.
فمان كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصل قَط إلا بتكبير، ولا أحدٌ من خلفائه ولا أحدٌ من أئمة المسلمين ولا آحادِهم المعروفين يُعرَف أنه صلَّى إلا بتكبير، ومع هذا فيُجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال لهم: القرآنُ مطلقٌ في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلقٌ في الأول وفي الطرف الثاني، فدلَّ على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قُدِّر أن النبي صلى الله عليه وسلم داوَمَ على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمعَ بينهما في الوقت الأول غيرَ مرَّة، وفي الوقت الثاني غيرَ مرَّة؟
وكذلك يقولون: قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)
(3)
مطلقٌ،
(1)
سورة طه: 130.
(2)
سورة الأعلى: 14، 15.
(3)
سورة الحج: 77.
فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحدٌ، فيفيد الوجوبَ دون الفريضة. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسَّر منه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعدِه لم يُصلُّوا إلا بالفاتحة، ومع قوله:"لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن"
(1)
وأن "كلَّ صلاةٍ لا يُقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ"
(2)
، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون الفريضة، وهذا خبر واحد لا يُقيَّد به مطلقُ القرآن.
ومعلومٌ أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يُوجِبُ فِعْلَ كلِّ واحدةٍ من الأربع في الوقت الخاصّ إلا فِعْله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، كقوله لما بيَّن المواقيت الخمسة:"الوقتُ ما بين هذين"
(3)
، وقوله:"ما بين هذين وقت"
(4)
، دلالتُه على وجوب الصلاة في هذا الوقت دونَ دلالةِ قوله:"لا صلاةَ إلا بأمّ القرآن" وقوله: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ".
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
(5)
: "سيكون بعدي أُمَراء
(1)
متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه البخاري (756) ومسلم (394).
(2)
أخرجه مسلم (395) من حديث أبي هريرة.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
سبق تخريجه.
يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً"، وهو الوقت الذي بيَّنه لهم. والأمراء إنما كانوا يُؤخِّرون الظهرَ إلى وقت العصر، أو العصرَ إلى آخر النهار. ودلَّ هذا على أن من فَعلَ هذا لم يُقاتَل، لأنهم سألوه عن الأمراء نُقاتِلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا"، وهذه كانت صلاتَهم. ودلَّ على أنّ هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلُها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد الغروب، فإنّ من قال: لا يُصلِّيها إلا بعد الغروب قد قُوتلَ بلا ريبٍ. وكذلك من قال: لا يُصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يُقاتَل بلا ريبٍ. وقد قال ابن مسعود وغيرُه في قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)
(1)
، قالوا: إضاعتُها تأخيرُها عن وقتها، ولو تركوها لكانوا كفارًا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقتِ المشترك أو وقتِ الاضطرار، ولم يُريدوا بذلك تأخيرَ صلاةِ النهار إلى الليل ولا صلاةِ الليل إلى صلاة النهار، فإنّ الخَلَف الذين كان ابن مسعودٍ يُسَميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن أبي معيط وغيرِه- لم يكونوا يُؤخرون صلاةَ النهار إلى الليل، ولا صلاةَ الليل إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يُسمِّيهم "خلف"، ويقول:"ما فَعلَ خَلَفُكم؟ "، فالخلف لم يكونوا يُصلُّون بغير الفاتحة، ولا بغير التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يُصلُّون في الوقت المطلق في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دلَّ الشرعُ على وجوب الصلاة في الوقت المختصّ ذُمُّوا لأجلِ تركِ هذا الواجب، مع
(1)
سورة مريم: 59.
أنّ في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما فيه من إطلاقِ قوله: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)
(1)
، وقوله:(فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)
(2)
. والسنة والآثار دلَّت على الوقت المشترك، ولم تدلَّ سنّةٌ على الصلاة بغير فاتحة، فَعُلِمَ أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تَدُلُّ على أن الأوقات في حقّ المعذور ثلاثةٌ، وأنّ ذلك لم يُعارِضْه دليل شرعيٌّ أصلاً، وما قُدِّر معارضًا له فالإيجاب به أضعفُ من الإيجاب بما دلَّ على الفاتحة والتكبير.
وقوله تعالى: (وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ)
(3)
وقوله: (وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)
(4)
كان مطلقًا، دلَّ على أن جميع الليل وقتٌ في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني وقتًا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحدٍ أن يُؤخِّر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طَهُرتْ والمجنون إذا أفاقَ والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكرَ فيُصلُّون المغرب والعشاء، كما كانوا يُصلُّون الظهرَ والعصرَ قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، وهو قول الجمهور.
(1)
سورة المزمل: 8.
(2)
سورة المزمل: 20.
(3)
سورة طه: 130.
(4)
سورة هود: 114.
فصل
وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشتركٌ عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلَّى في وقتها، فهو كما لو أخّرها إلى آخر الوقت المختصّ، فلو قُدِّر أن الحائض طهرتْ والنائمَ استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختصّ فإنهم يُصلون الظهر والعصرَ في وقتِها، ولا يقال: إن الظهر صَلَّوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدَّم العصر إلى وقت الظهر، وصلَّى العشاء وقت المغرب جمعًا للمطر لم يحتج أن ينوي الجمعَ، سواء كان إمامًا أو مأمومًا أو منفردًا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة حيثُ يُجوِّز الجمعَ، وهو المعروف عن أحمد بن حنبل في أجوبته، لم يُوجب النيةَ في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيرِه، لكن الخِرقي ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي. وأما أحمد فلا أصلَ لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جمعَ بأصحابه بعرفةَ لم يكونوا يعرفون أنه يُصلِّي العصرَ بعد الظهر، ولا قال حينَ صَلَّو الظهرَ: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جَمَع بهم بالمدينة فصلَّى سبعًا جمعًا وثمانيًا جمعًا لم يقل لهم: انْوُوا الجمعَ. وكذلك لما كان يَقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يَقصُر.
ولهذا قد ثبتَ في حديث ذي اليدين
(1)
أنه لما صلَّى بهم الظهر أو
(1)
أخرجه البخاري: (482) ومسلم (573) عن أبي هريرة.
العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أَقُصِرت الصلاة يا رسولَ الله أم نسيتَ؟ وقال: "لم أنسَ ولم تُقصَر الصلاة"، قال: بل نسيتَ يا رسول الله، قال:"أَكما يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقرَّه على قوله: أقُصِرت الصلاةُ أم نسيتَ، وقال: لم أنسَ ولم تُقصَر، ولم يقل: كيف تُقصَر ولم آمُرْكم بنية القصر= دلَّ على أنه كان ممكنًا أن يَقصُر من غير أن ينوي القصر.
وأيضًا فيقال: الجامع إن كان مصلِّيًا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلُها فيه فقد جاز، سواء نوى الجمعَ أو لم يَنوِهِ، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يُبيح الصلاةَ في غيرِ وقتِها، ولهذا لو نَوى الجمعَ حيثُ لا يجوز لم تُفِدْه النيةُ شيئًا، فإذا قُدّر أن المصلّي بعرفةَ صلَّى الظهر، ولم يَخطُر بقلبه إذ ذاك أنه يُصلّي معها العصر، فمعلومٌ أن ما بعد صلاةِ الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرقَ بين أن يُصلِّيها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأيُّ تأثير للجواز إذا نَوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب للمطر فأيُّ تأثيرٍ لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟
ثم هذا الشرط يُكدِّرُ مقصودَ الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام، ولا يعرفون أنه نوى الجمعِ، فلو لم يجز الجمعُ إلا لمن نواه فاتَ كثيرًا منهم رخصةُ الجمع، أو لزِمَ أن يُوكِّلَ الإمامُ من يقول لكلّ من يدخل: انْوِ الجمعَ. وهذا مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة على ذلك المُعْلِم.
وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه
من أصحاب أحمد، وقد نصَّ أحمد على أن المسافر إذا صلَّى العشاء قبل غروب الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعًا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار للحاضر أن يؤخِّرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيبَ الشفق الأحمر عنده بلا ريب، لأن الجدران تُوارِي الحمرةَ في الحضَر دون السفر، وإن جوز أن يُصلِّي قبل مغيب الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يُصلِّيها عقيبَ المغرب جاز، فإذا أخَّرها كان أولَى بالجواز، لأنه أقربُ إلى الوقت المختص، فكيف يَسُوغ أن يقال: يصلِّي في الوقت البعيد عن وقتها المختصّ دون المشترك.
وإذا قال قائل: إن ذلك لا يُسمَّى جمعا إلا مع الاقتران.
قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين:
أحدهما: أن الشارع لم يُعلِّق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دلَّ الشرع على جوازه.
الثاني: أن الجمع سُمِّي بذلك، لأنه جمعٌ بينهما في وقت إحداهما المختصّ، لا لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمعَ في وقتِ الثانية لم يجز
(1)
الاقتران بلا رَيْب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلةَ جَمْعٍ المغربَ قبلَ إناخةِ الرحال، ثمَّ أناخوها، ثمَّ صلَّى العشاءَ بعد ذلك بفصل بينهما.
(1)
في الهامش: صوابه "لم يلزم" أو نحو ذلك.