الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به فِعلُه وقبولُ المحترق، فإن عُنِيَ به فِعلُ الفاعلِ فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقتُه فلم يَحترِقْ، وعلَّمتُه فلم يتعلَّم، وكسرتُه فلم ينكسر، وإن عُنِي به فعلُ الفاعل وقبولُ القابل فهما أمرانِ مركَبانِ.
وهذا طردُ قولنا:
ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى
، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين.
التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة غائية، ويُسمّي الفقهاءُ الفاعلةَ السبب والموجب، ويُسمُّون الغائيةَ الحكمة والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب كالخاتم مثلاً مركّبٌ من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالَبُ
(1)
، وتسمية هذا عللاً ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو اصطلاحٌ لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان مغايرًا للمعلول، فالإنسان بعقلٍ يفعل فعلاً لمقصودٍ، فهو الفاعل له، والمقصود هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية، فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعلَ الفاعلُ، وهي [أوّلٌ] في القصد آخرٌ في الوجوِد والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5))، فإن الله سبحانه هو
(1)
في الأصل: "البالف".
الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الربُّ المُعِين عليها، فله الدعاءُ وحدَه لا شريكَ له دعاء العبادةِ والتألُه لألوهيتِه، ودعاء السؤالِ والطلب لربوبيتِه الداخلة في ألوهيته. وهو ربُّ العالمين وخالق كل شيء، وَلهذا قال:(فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)
(1)
، وقال:(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10))
(2)
، وقال:(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30))
(3)
.
إذا عُرِف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يُرادُ بها الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: مِلك النصاب سببٌ لوجوب الزكاة، والزنا سببٌ لوجوب الحدّ، والقتل العمد سببٌ لوجوب القَوَد. وقد يُراد بها الحكمةُ المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرِعَت العقوباتُ للكفِّ عن المحظورات، وشُرِعَت الضماناتُ لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشُرِعَت العباداتُ لأن يُعبَد الله وحدَه لا شريك له، وشُرِع الجهادُ لتكون كلمةُ الله هي العليا ويكون الدين كلُّه لله.
وهذه الحِكَم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادةً للشارع الَامِر وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدونِ قصدِه، كما يَحصُل ثوابُ كثيرِ من الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاعَ الله ورسوله في أَفعالٍ كثيرة، وإن كان لم يعلم ذلك فضلاً عن أن
(1)
سورة هود: 123.
(2)
سورة هود: 88، سورة الشورى:10.
(3)
سورة الرعد: 30.
يَقصِدَه.
وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليلُ الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا وغيرِهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز أن يكون العدمُ جزءاً من العلة أو شرطًا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع الجزءَ دون الشروط. وفصَّل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب، فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليلٌ على العلة وإن لم يُذكَر نفس العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودًا وعدمًا، سواء كان المدلول وجودًا أو عدمًا. ومن جعلَ عِللَ الشرعِ كلَّها أماراتٍ ومُعرِّفاتٍ من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف.
وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلاً للوجود، وهذا معلومٌ ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسنادُ الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود.
لكن هل يكون العدم شرطًا أو جزءًا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا عُنِيَ بها الموجبة التامَّة لم يمتنع أن يكون العدم جزءاً منها، وإن عُنِيَ بها المقتضي لم يمتنع أن يكون العدمُ شرطا في تأثيرِها، فإن تأثير السبب المقتضي لأثرِه قد يَقِفُ على انتفاءِ الضدّ المعارض. ثم إنه كثيرًا ما يكون قد انعقدَ سببُ الشيء، وإنما تخلف الحكمُ لمانعٍ [أو] لمعارضٍ، فإذا انتفَى ذلك المانعُ أضِيف الحكمُ إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء العلة أو شرطها، ويُجعَل علةً في اللفظ عند النزاع،
لأن الجزء الآخر قد عُلِمَ وجودُه واتُّفِق عليه، مثل أن يقال: يُباحُ دَمُه لأنه ليس بمسلمٍ ولا مُعاهَد، أو تجب عليه الزكاةُ لأنه ليس بمَدِيْن، أو يُعزَّر لأنه ليس بمُحْصَن، ونحو ذلك.
وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى أن يكون مقصودُ الفاعل ومرادُه العدمَ، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها، وبَيَّنا أن العدم لا يكون مقصودًا لنا ومرادًا ابتداءً، لأنه ليس فيه لنا فائدة ولا مناسبة، وإنما نَقصِدُه ونُرِيدُه إذا كان في الوجود ضررٌ، فنُريد زوال الضرر وعدمَه، فيكون [عدم] الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار.
فصل في الإسلام وضدّه
فصل في الإسلام وضدّه
قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضعَ أن الإسلام هو الاستسلامُ لله وحدَه، فهو يجمعُ معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال تعالى:(وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ)
(1)
أي خالصًا له، ليس لأحدٍ فيه شيء. وإنه يُستعمل لازمًا ومتعديًا، فالأول كقوله:(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131))
(2)
، وقوله:(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66))
(3)
، وقوله:(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) إلى قوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)
(4)
. وهو هذا الإسلام الذي هو الاستسلام لرب العالمين.
وقد يُستعمل متعديًا في مثل قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)
(5)
، وفي قوله:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)
(6)
. فهنا لما كان مقيَّدًا بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، فلا بدَّ مع ذلك من الإحسان، ليكون
(1)
سورة الزمر: 29.
(2)
سورة البقرة: 131.
(3)
سورة غافر: 66.
(4)
سورة آل عمران: 83 - 85.
(5)
سورة النساء: 125.
(6)
سورة البقرة: 112.
عملُه صالحًا خالصًا لله.
وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله -إذْ إسلام الوجه لله وهو محسنٌ يستلزمُ أصلَ الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبُه منافقًا محضًا، فإن المنافق المحض لا يكون مسلما لربّ العالمين ولا مسلمًا وجهَه لله، لكن قد شارك أصحابَه في الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحبّ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في المسند
(1)
: "الإسلام علانيةٌ، والإيمان في القلب ". وكذلك حديث جبريل
(2)
. فصاحبه قد يكون معه أصلُه لا كمالُه. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبةً أو رهبةً من الخلق ولم يُسلِم لله، وهذا قد يكون منافقًا محضًا.
وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يُظهر صاحبُه أنه أسلم لله، قال تعالى:(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) الآية
(3)
، وكذلك قال في قصة لوط:(فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
(4)
. وكذلك حديث سعد بن أبي وقاص الصحيح
(5)
: لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يُعطِ رجالاً كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لكَ
(1)
3/ 134 من حديث أنس.
(2)
أخرجه البخاري (50) ومسلم (9) عن أبي هريرة.
(3)
سورة الحجرات: 14.
(4)
سورة الذاريات: 35 - 36.
(5)
البخاري (27) ومسلم (150).
عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنًا، فقال:"أو مسلمًا" مرتين أو ثلاثًا، ثم قال:"إني لأعطِي الرجلَ وأَدعُ من هو أحبُّ إليَّ منه، أُعطِيه لما في قلبه من الهلَع والجزَع" أو كما قال.
فامرأة لوط كانت منافقةَ كافرةً في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع زوجها، ولهذا عُذِّبت بعذاب قومِها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مستسلمين له فيَ الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. والأعراب قد نَفى الله عنهم الإيمان بقوله (لَمْ تُؤْمِنُوا)، وأمرهم أن يقولوا: أسلمنا، ثم قال:(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ). و"لمَّا" يُنفَى بها ما يفوت وجودُه ويُنتظَر وجودُه، فيكون دخولُ الإيمان في قلوبهم منتظَرًا مَرجُوا، وقد قال لهم:(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) وظاهره أنهم إذا أطاعوه في هذه الحال أُثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15))
(1)
.
وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم يَصِلْ إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:" يَخرجُ من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرةً، أو من كان في قلبه مثقال ذرّةٍ من إيمان "
(2)
. فسَلْبُ الإيمان عنهم لا يقتضي سلبَ هذا المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ولا يَصِلُ بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع
(1)
سورة الحجرات: 15.
(2)
أخرجه البخاري (44) ومسلم (193) من حديث أنس.
آجزاء الإيمان كان كافرًا.
وقد رُوِي عن حذيفة قال
(1)
: "القلوب أربعة: قلبٌ أغلف، فذاك قلب الكافر؟ وقلبٌ مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ وقلب فيه نفاق وإيمان، فَمثَلُ الإيمان فيه كمثلِ شجرةٍ يَمُدُّها ماءٌ طيب، ومَثَلُ النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدُّها قَيْحٌ ودمٌ ". وفي روايةٍ: "فأيُّ المادَّيْنِ غَلَبَ كان الحكمُ له ". وفي رواية: "وقلبٌ فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك قومٌ خلطوا عملاً صالحًا وآخرَ سيئًا".
وهذا -والله أعلم- معنى كلامٍ قاله بعضُ السلف والأئمة في الزاني والسارق والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثلَ الظلَّةِ. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق المحض، لأن الكلام فيمن هو مُقِرٌّ في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب هذه الكبائر، فعُلِمَ أنه يَخرجُ إلى الإسلام الذي يكون معه أصلُ الإيمان وبعضُه، ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويُشبِه أن يكون إسلامُ الأعراب من هذا الباب، فإن الإنسان قد يُسلم للهِ حقيقةً فينقادُ ويَستسلم، ومع هذا لا يكون في قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورودَ الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق، ومثل هذا قد يكون عن علمٍ ويقين وحبّ، وقد يكون
(1)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1439) وأبو نعيم في الحلية (1/ 376) عنه.