الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية.
وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين:
أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده.
والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه.
فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلاً، وهي أعمال الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدًا.
ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم يترتب عليه أثره شرعًا
(1)
. ولهم في الفرق بين الباطل والفاسد كلام ليس هذا موضعه.
ف
وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها
، فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقادُ من اعتقد أنه خالق فعله بالنسبة إلى الفاعل، ووجودُ هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عملُه لهذه الغاية الفاسدة المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية
(1)
في الأصل بعده: "ولهذا قال".
الصحيحة غير هذه، وإن ضلَّ هو في قصد هذه والعمل لها.
وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، عُلِمَ بهذا أنه لا يصلح أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه وتقصده.
كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثًا عن مجرد النفس، فكما أن مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من غاية تكون معِبوده، كما أنه لاِ بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاهُ مطلقًا، لكن يفعل لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده.
وكما أن الإنسان ليس مُحدِثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المُباِع له ولمبادئه المستقل به، ولكن هو المُحدِث لفعله بمعنى أنه فعَله بقدرته ومشيئته واعتقاده، وذلك أنه كله مخلوق لله، فربُّه هو الربّ الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه.
وكون الرب خالقًا وربًّا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلاً كاسبًا
له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة والصلاح والخير واللذة.
فتدبَّر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحقّ المحبّ المريد لما يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلاً حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه.
ويتبين لك أن قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)
(1)
، وقوله:(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40))
(2)
، وقوله:(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)
(3)
ونحو ذلك لا يُنافِي قولَه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
(4)
، وقولَه:(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50))
(5)
، وقولَ النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"أتدري ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئًا"
(6)
.
(1)
سورة البقرة: 286.
(2)
سورة النمل: 40.
(3)
سورة الإسراء: 7.
(4)
سورة الذاريات: 56.
(5)
سورة الكهف: 50.
(6)
سبق تخريجه.
وتبيَّن لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك.
كما تبيَّن لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن العباد فاعلون، لا تُنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد، فإن كثيرًا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تَاهَ كثير من الناس في الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا، لأن في كون ذلك مقصودًا معبودًا صلاحه وانتفاعه.
فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلَاّ
(1)
غاية الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها.
وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة ورضًى وفرحًا، بل لا غاية له إلا ما يعود على العبد.
كما أنهم كذلك يتنازعون
(2)
في السبب الفاعل ما بين قدريَّةٍ مجوس وجَبْرِيَّةٍ نُفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفيُ ما في العبد من سبب وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من
(1)
في الأصل: "الأحاديث"، وهو تحريف.
(2)
في الأصل: "لا يتنازعون"، وهو خطأ.
المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفيُ ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته وإلهيته.
وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنَّه أصلٌ عظيم.
وهذا المعنى يستقرُّ في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبًا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبًا لما هو أحب منها، ودفعًا لما هو أضرّ من تركها، ويقولون: فِعْلُ ما تهوى يمنعك ما تهوى، وأمثال هذا الكلام.
وإنكارُ من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار السبب الفاعل. والفطرة والشريعة تَرُدُّ على الطائفتين، أولئك منعوا غايات الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلاً الفرقُ بين فعل وفعل، ويجب عقلاً كون هذا الفعل مقتضيًا للمنفعة والصلاح، وهو حُسْنُه، وكون هذا الفعل مقتضيًا للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة، وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقًا هو الملائم النافع المحبوب