المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ومزدلفة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌ أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ومزدلفة

ولمَّا فتحَ مكةَ كان يُصلّي ركعتين، وأقام بها تسعةَ عشرَ يومًا يُصلّي بها ركعتين، وقال لأهل مكة: يا أهل مكةَ أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سَفرٌ

(1)

.

وأما في حجة الوداع فكان يُصلّي بعرفةَ ومزدلفةَ ومِنى ركعتين، ويُصلِّي وراءَه الحجَّاج من أهلِ مكة وغيرِهم، ولم يقل لهم: أَتِمُّوا صلاتكم فإنَّا قومٌ سفرٌ، ولا روى ذلك أحدٌ من أهل الحديث، ولكن ذكرَ ذلك بعضُ المصنِّفين في الرَّأي، واشتبَه عليه قولُه لهم بمكة في غزوة الفتح، فظنَّ أنه قال في سفرِه بهم إلى عرفةَ ومزدلفة ومنى.

وكذلك ذكر بعضُهم أن عمر بن الخطّاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأٌ رواه بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيرُه أن عمر إنما قال ذلك بمكة

(2)

.

ولهذا كان أصحّ أقوال العلماء أن‌

‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

، كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالكٍ وغيرِه وقولُ طائفةٍ من أصحابِ أحمد كأبي الخطاب في "العبادات الخمس".

وقيل: يجمعون ولا يَقصُرون، كقولِ أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب بأنهم لا يقصرون، ولم يَنْهَهم عن الجمع. ولهذا جَزَمَ أبو محمد وغيره من أصحابِ أحمد أنهم يجمعون، وخَطَّأَ

(1)

أخرجه أحمد (4/ 432) وأبو داود (1229) من حديث عمران بن حصين. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه غير واحدٍ من الأئمة.

(2)

الموطأ (1/ 149).

ص: 323

من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي.

والقول الثالث: إنهم لا يَقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي وبعض أصحابِ أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالِفة للسنة المعلومة من وجهين.

والذين قالوا: يَقصُرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثيرٌ من السلف والخلف، وهو قول بعض أصحابِ أحمد، وهو أصحُّ الأقوال.

وكذلك جَمْعُهم، فإنّ من العلماء من قال: جمعُهم لأجلِ النسك، كما يقولُه أبو حنيفة وغيرُه فلم يُجوز الجمع إلا بعرفةَ ومزدلفة خاصةً. والجمهور قالوا: بل الجمعُ كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء منهم من قال: الجمعُ كان لأجل السفر، ومن قال: الجمعُ يجوز لأهل مكة، [ومن] قال: يجوز الجمعُ في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمعُ إلا في الطويل. وهما وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد.

والصواب أن كلَّ واحدٍ من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصرُ لأجل السفر فقط، وأما الجمعُ فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن القصر يدور مع السفر وجودًا وعدمًا، والقصر معلقٌ به بالنصّ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضعَ عن المسافر الصومَ وشطْرَ الصلاة". وهو حديث حسن ثابتٌ من رواية أنس بن

ص: 324

مالك الكعبي

(1)

، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب:"صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمامٌ غير قصر على لسانِ نبيكم صلى الله عليه وسلم "

(2)

. وكذلك قال ابن عمر: "صلاة السفر ركعتان، من خالفَ السنةَ كفر" رواه مسلم وغيره

(3)

. ومعناه: من اعتقد أن الركعتين لا تُجزِئ فقد كفرَ، لأنه خالفَ السنة المعلومة، كما لو قال: إنّ الفجر لا تُجزئ فيه ركعتانِ، وإن الجمعة والعيد لا تُجزِئ فيه ركعتان. وهذا يُحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهرَ القرآن وإن خالفَتْه السنةُ المتواترة. وهؤلاء ضالُون في فهمهم للقرآن وضالُّون في مخالفة السنة.

وقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

(4)

لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاةَ المسافر ركعتين تمامًا غيرَ قصرٍ. وهذا قاله عمر بعد سؤالِ النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبتَ في الصحيح

(5)

عن يعلى بن أمية سأل عمرَ عن هذه الآية (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه". فكأنّ المتعجب ظنَّ أن القصر

(1)

أخرجه أحمد (3/ 347، 5/ 29) وأبو داود (2408) والترمذي (715) وابن ماجه (1667، 3299) والنسائي (4/ 190).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ عبد بن حميد في مسنده (829) ولم يخرج في صحيح مسلم.

(4)

سورة النساء: 101.

(5)

مسلم (686).

ص: 325

قصر العدد [و] أنه معلَّقٌ بالسفر مع الخوف، كما ظنَّ بعضهم أن الجُنُب لا يتيمَّمُ، وظنَّ عمّارٌ أنه يتيمَّم عن الجنابة بالتمرُّغ في التراب كما تتمرَّغُ الدابة، وظنَّ عمارٌ وغيره من الصحابة أن التيمُّم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم أنه يُجزِئ المسحُ إلى الكُوعَيْنِ وأن الجنب يتيمَّم كذلك

(1)

، وكان ما ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم موافقًا لما دلَّ عليه القرآن، لا يخالفُه لا لباطنِه ولا لظاهرِه، ولكن كلّ أحدٍ منهم يفهم ما دلَّ عليه القرآن، فقد يظهر له معنًى يظنُّ أن ظاهر القرآن دلَّ عليه، ويكون من نَقْصِ فهمِه لا من نقصِ دلالةِ القرآن.

كمن ظنَّ أن قوله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)

(2)

يَمنَع الفسخَ الذي أمر [به] النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه، والنبي صلى الله عليه وسلم أطوعُ الخلق لربِّه وأتبعُهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتمُّوا الحج والعمرة لله؟ والذي لا يتم هو الذي يَحِلُّ بعمرةٍ لا يتمتع بها أو بلا عمرةٍ، وهذا لا يجوز بالإجماع.

وأما من أحلَّ بعمرةٍ وتَمتَعَّ بها فعمرتُه جزءٌ من الحج، وهو ......

(3)

بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ)

(4)

، وعمرتُه قد دخلتْ في حجته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"دخلَتِ العمرةُ في الحج إلى يوم القيامة"

(5)

، كما دخلَ الوضوء في الغسلِ غُسلِ الجنابة وغُسل

(1)

أخرجه البخاري (338) ومسلم (368).

(2)

سورة البقرة: 196.

(3)

هنا كلمات غير واضحة في الأصل.

(4)

سورة البقرة: 196.

(5)

أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده (1/ 236، 253، 259، 341) من حديث ابن عباس، وأخرجه أيضًا مسلم (1241).

ص: 326

الميت، وتحلُّلُه في أثناء الإحرام تحلُّلُ مَن يَقصِدُ أنه يَحِلُّ ثمَّ يُحرِمُ بالحج بعد ذلك، لا يجوز له التحلُّلُ بدونِ ذلك، فدخلَ الحِلَّ رحمةً من الله. والحاجُّ يتحلَّلُ التحلُّلَ الأول وقد بقيَ عليه الطواف والرمي، وإن فعلَ ذلك بلا إحرام فهو من الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبقَ عليه بعضُ الحج، بل المتمتع يتحلل أولاً حلاًّ تامًّا، ثم عليه أن يُحرِم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم عليه الطوافُ والرميُ وهما من الحج.

وكذلك من ظَنَّ أن ظاهر القرآن يُخالِفُه قوله للمبتوتة: "لا نفقةَ لكِ ولا سُكنى"

(1)

، والقرآن لا يدلُّ على إيجاب نفقة وسُكنى للمبتوتَةِ أصلاً، وإنما المطلَّقة المذكورة في قوله:(إِذَا طَلَّقْتُمُ)

(2)

هي الرجعية كما يدلُّ عليه سياقُ الكلام، والإنفاقُ على ذواتِ الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصحّ قولَي العلماء أن النفقةَ للحمل نفقةُ والدٍ على ولدِه، لا نفقةُ زوج على زوجته، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابُه، وهو أحدُ قولَي الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقةَ للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله متناقضٌ غير معقول، والقرآنُ علَّق النفقةَ بالحمل والإرضاع، والمعلَّق بالإرضاع نفقةُ والد على ولدِه باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علَّقَها بالزوجيةِ فهو مخالفٌ

(1)

أخرجه مسلم (1480) عن فاطمة بنت قيس.

(2)

سورة الطلاق: 1.

ص: 327

للكتاب والسنة.

ونظائرُ هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفَتْ فيه ظاهرَ الكتاب، ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقةً لظاهرِ القرآن. والمقصود هنا ذِكرُ الجمع وذِكر القصر تبعًا.

فقوله تعالى: (أَنْ تَقْصُرُوا)

(1)

مطلقٌ مجملٌ قد يُراد به قَصْر العمل والأركان، وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجلِ سفرِه أن يقصر عملَ الصلاة كما يَقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصرُ كما قال تعالى:(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) إلى قوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)

(2)

.

فالصلاة مع الأمن صلاة مُقَامَةٌ إقامةً مطلقةً وهي التامَّة، ومع الخوف مقصور، وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قَصَروا لأجل الخوف مع صلاةِ ركعتين، فإن كانت الركعتان لا تسمَّى في السفر قصرًا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما بيّن التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في العادة العامة، فأما عدمُ الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة الخوف نادر.

ودلَّ القرآن على أن مجرَّد الضرب في الأرض ليس نسخًا للقصر المذكور في القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصرَ إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصرٌ، وصلاتُه ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما

(1)

سورة النساء: 101.

(2)

سورة النساء: 102، 103.

ص: 328

المسافر ففي تسمية صلاته قصرًا نزاع وتفصيل، ومن لم يُفرَض عليه إلا ركعتان مع قدريه على الأربع وتيسُّرِ ذلك عليه لم يكن قد نقصَ مما أُمِرَ به شيئًا، كمن صلَّى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما، فإنه إنما أبيح لهما نقصُ الصلاةِ لأجل العجز عن إكمالِها، والمسافر يُباح له ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطرُ، واستُحِب له أو وجبَ عليه ذلك عند طائفة. وإن كان المسافر إنما وُضِعَ عنه الصومُ وشَطْرُ الصلاة لكون السفرِ مَظِنَّة الحاجة إلى التخفيف فهذا حكمٌ عامٌّ لكل مسافرٍ معلَّقٌ بجنس السفر، إما لكون السفرِ قطعةً من العذاب فتكون الحكمةُ عامةً، أو لكونه مظنَّةً كما يظنُّه بعض الناس، وإن تخلَّفتِ الحكمةُ في آحاد الصُّوَر. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى لا جمعةَ فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفَّين ثلاثةَ أيام ولياليهنّ والمقيم يمسح يومًا وليلةً، ونحو ذلك من الأحكام التي فرَّق الله فيها بين حكم المقيم والمسافر.

وإذا كان قَصْرُ العدد أمرًا معلَّقًا بالسفرِ يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر هو المؤثِّر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يَقْصُر قبلَ أن يُحرِم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل يَقصُر إلى أن رجعَ إلى المدينة، فقَصَرَ قبلَ إحرامِه وبعدَ تحلُّلِه، وقَصَرَ معه أهلُ مكة، كما قَصَرَ معه سائرُ من حَجَّ معه. فعُلِمَ أن ذلك كان لأجل سفرِهم من مكة إلى عرفةَ، لا لكونهم حُجَّاجًا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم القصرُ عند أحدٍ من العلماء، فعُلِمَ أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعلَ قَصْرَ النبي صلى الله عليه وسلم بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى إنما كان لأجل النسك لا السفر فقد علَّق الحكمَ

ص: 329

بوصفٍ عديمِ التأثير فيه، ولم يُعلقه بالوصف المؤثِّر فيه بالنصّ والإجماع.

ولهذا نظائرُ يَغْلَطُ فيها من يُعلِّق الحكم بالوصف الذي لم يؤثِّر فيه، دون الوصف المؤثِّر فيه، كمن علَّق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصِّغَر، وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علَّقتْ ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما عُلِّقتْ بها صفة الاستئذان فقط، وهو كونُ سكوتها إقرارَها. وكذلك من علَّق بعض الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقًا بشرط، وفرَّق بين أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا رَبْطُ الحكم بوصفٍ عديمِ التأثير في الكتاب والسنة، وإنما رَبَطَ الله الأحكامَ بمعاني الأسماء المذكورة في النص، مثل كونها طلاقًا وخلعًا وكنايةَ ويمينًا وغير ذلك، فما كان من هذا النوع علَّق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم يدخل فيه بأيّ صيغةٍ كان.

فصل

وأما الجمع بين الصلاتين فلم يُعلَّق بمجرَّد السفر في شيء من النصوص، بل النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن الناسك هو في النسك، وإنما جَمَع بعرفةَ لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمعَ بجَمْع لما كان جادًّا في السير من عرفةَ إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح

(1)

من حديث ابن عمر أنه كان إذا

(1)

البخاري (1091 ومواضع أخرى) ومسلم (703).

ص: 330

جدَّ به السيرُ أخَّرَ الظهر إلى وقت العصر، ثم نزلَ يجمع بينهما، وكذلك إذا جدَّ به السَّيرُ جمعَ بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفرِه إذا جدَّ به السير، كما فعلَ بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح

(1)

من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل قبلَ أن تَزِيغَ الشمسُ أخَّرَ الظهرَ إلى وقت العصر، ثمَّ نزلَ فصلَاّهما جميعًا. وثبتَ في الصحيح

(2)

عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلَّى بالمدينة سبعًا جميعًا وثمانيًا جميعًا، أراد بذلك أن لا يُحرِج أمته. وثبت في الصحيح

(3)

من حديث معاذ أنه جمعَ في غزوة تبوك جَمْعَ التأخير. وروى أبو داود

(4)

وغيرُه بإسنادٍ حسنٍ جَمْعَ التقديم من غير طريقٍ، فنبَّه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقًا لجمعِه بعرفةَ، وجمعُ التأخير أشهرُ، وقد رُوِيَ عنه أنه كان يجمعُ بالمدينة بالمطر، كما استدلَّ بذلك من حديث ابن عباس

(5)

.

وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم ابن عمر وغيره من الصحابة مُقرِّين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذّنوا للعيد، وأنكروا عليهم لما قدَّموا الخطبة في العيد ولمّا أخرجوا المنبر لصلاة العيد، بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير

(1)

البخاري (1111) ومسلم (704).

(2)

مسلم (705).

(3)

مسلم (706).

(4)

في سننه: باب الجمع بين الصلاتين.

(5)

أخرجه مالك في الموطأ (1/ 144) ومن طريقه مسلم (705) وأبو داود (1210) والنسائي (1/ 290). قال مالك: أرى ذلك كان في مطر.

ص: 331

ذلك، ولم ينكروا جمعَهم للمطر، فدلَّ ذلك على أنه كان من السنن الموروثة عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي السنن

(1)

أنه قال للمستحاضة: "سآمرُكِ بأمرين أيَّهما فعلتِ أجزأ عنك من الآخر"، فخيَّرها بين أن تصلِّي كلَّ صلاةٍ في وقتها بوضوءٍ، وبين أن تؤخِّر الظهرَ وتعجِّلَ العصرَ وتجمع بينهما بغُسلٍ، وتُؤخِّر المغربَ وتعجِّل العشاءَ وتجمعَ بينهما بغُسلٍ، قال:"وهذا أحبُّ الأمرين إليَّ". فاختارَ الجمعَ بين الصلاتين بغُسلٍ على التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يُستدلُّ به على أن الجمع مع إكمال الصلاةِ أولَى من التفريقِ مع نقصِها، فإنه لا سببَ هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكملُ للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسلُ مع تيقُّن الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيُستحبُّ احتياطًا، لإمكان أن يكون دمُ الحيض قد انقطعَ حينئذٍ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة.

وهذا بمنزلة الشاكّ هل أحدثَ أم لا؟ بعد تيقُّن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له، وإن استصحبَ الحالَ أجزأهُ عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضةَ أن تصلِّيَ إذا اغتسلتْ، وإن جاز أن يكون الدمُ الخارجُ بعد ذلك دمَ حيض.

ومعلوم أن كلَّ ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر

(1)

أخرجه أبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (627) وأحمد (6/ 439) من حديث حمنة بنت جحش. وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 332

فالصلاةُ معه أكملُ، كما ثبت في الصحيح

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد". وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال: إن الصحيح يتطوع مضطجعًا، وهو قولٌ لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالفٌ لما عليه سلفُ الأمة وأئمتُها وما عليه عملُ المسلمين دائمًا أن أحدًا لا يتطوع مضطجعًا مع قدرتِه على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور، وكذلك جاء مصرَّحًا به أنه خرجَ عليهم وهم يصلُّون قعودًا بسببِ مرضٍ عرضَ لهم، فذكر هذا القول.

وأما قوله: "إذا مرِضَ العبدُ أو سافرَ فإنه يُكتَب له من العمل ما كان يَعمل وهو صحيح مقيم" فهو حديث صحيح متفقٌ عليه

(2)

، لكن فيه أن العبد إذا كان عادتُه أن يعملَ عملاً وتركَه لأجل السفر أو المرض كُتِبَ له عملُه لأجل نيتِه وعادتِه، ليس فيه أن كلَّ مسافرٍ أو مريضِ يُكتَب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مَرِضَ أو سافرَ ولم يكن عادتُه أَن يقوم الليل لم يُكتَب له قيام، وإذا لم يكن عادتُه أن يُصليَ في الجماعة لم يُكتَب له صلاة الجماعة. فإن كان عادتُه [أن] يُصلِّي قائمًا وصلَّى قاعدًا لأجل المرض كُتِبَ له مثل أجر صلاةِ القائم، كما أنه لو عجزَ عن

(1)

مسلم (735) من حديث عبد الله عمرو، وليس فيه الجزء الأخير من الحديث. وأخرجه البخاري (1115) من حديث عمران بن حصين بمعناه.

(2)

أخرجه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري. ولم أجده في صحيح مسلم. ورواه أيضًا أحمد (4/ 410، 418) وأبو داود (3091).

ص: 333

الصلاةِ بالكلية كُتِبَ له مثلُ ما كان يُصلّي وإن لمِ يُوجد منه صلاة. وكما يُكتَب لمن خرجَ ليُصلِّي في جماعةٍ وإذا أدركهم سلَّموا مِثلُ أجرِ من شهِدَ الجماعة وإن كان لم يُصلِّ في جماعة. وهكذا من لم يُدرِك ركعةً من الجماعة فإنه لا يكون مدرِكًا لها إلا بركعةٍ، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصحّ أقوال العلماء الذي دلَّ عليه النصُّ وأقوالُ الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرقُ بين الجمعة وغيرها، كظاهرِ مذهب الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركًا للجمعة بتكبيرةٍ، كقول أبي حنيفة.

والذي دلَّ عليه النصُّ وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيُكتب له أجرُ من شهدَ إذا جاءَ بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدَر عليه لفَعلَه وإنما يتركُه عجزًا يُكتَبُ له مثلُ أجرِ فاعلِه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حَبَسَهم العذرُ"

(1)

.

وفي حديث كَبْشَة الأنماري الذي صححه الترمذي

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلمًا، فهو يتَّقي في ذلك المال ربَّه ويَصلُ فيهِ رَحِمَه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علمًا ولم يُؤته مالاً، فيقول: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ فيه بعَملِ فلانٍ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالاً ولم يُؤته علمًا،

(1)

أخرجه مسلم (1911) من حديث جابر.

(2)

برقم (2325). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 231).

ص: 334

فهو لا يتقي في ذلك المال ربَّه ولا يَصِل فيه رَحِمَه، فهذا بأخبثِ المنازل؛ ورجل لم يُؤته الله مالاً ولا علمًا، فيقول: لو أنّ لي مالاً لعمِلتُ مثل عملِ فلان. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوِزْرُهما سواءٌ".

فالثوابُ الذي يُكتَب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي صلى الله عليه وسلم:"صلاةُ القاعد على النصف من صلاةِ القائم، وصلاة المضطجع على النصف من صلاة القاعد" كلامٌ مطلقٌ، وقد عُلِمَ بأدلَّةٍ أخرى أن هذا لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حُصَين:"صَل قائِمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب"

(1)

. وعُلِمَ أن تطوُّع الجالس يجوز مع القدرة بدليل آخر، كما عُلِمَ أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي التطوع على راحلتِه قِبَلَ أيِّ وجهٍ توجَّهتْ، غير أنه لا يُصلِّي عليها المكتوبة، وكان يوترُ عليها.

ونظير هذا قوله: "صلاة الجماعة تَفْضُل على صلاة الرجل وحدَه بخمسٍ وعشرين درجة"

(2)

، فإنّ هذا مطلقٌ، لم يدلَّ على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل آخر، فإذا دلَّ دليلٌ آخر على أن المنفرد لا يُجزِئُه صلاتُه إلا مع العذر، كقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن سَمِعَ النداءَ ثمَّ لم يُجِبْ بغير عذرٍ فلا صلاةَ له"

(3)

، ولأن الجماعة إذا كانت واجبةً، فمن تَركَ

(1)

أخرجه البخاري (1117) عن عمران.

(2)

أخرجه البخاري (477، 647) ومسلم (649) من حديث أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (646) من حديث أبي سعيد الخدري.

(3)

أخرجه ابن ماجه (793) من حديث ابن عباس.

ص: 335

الواجبَ لم تَبْرَأْ ذِمَّتُه إلا بأدائه، كما يقول كثيرٌ من السلف والخلف من أصحاب أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذلك لمن فَهِمَه يَدُلُّه على أن ذلك كلّه جاءَ من عند الله، ولو كان من عندِ غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.

وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكملُ من الصلاة بالتيمم، والصلاةُ في الأماكن التي لم يُنه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأَعْطَانِ الإبل. والصلاة في الجماعة أكملُ من صلاة الرجل وحدَه، وفَضْلُ الفاضِل هنا على المفضول أبلغُ من فضلِ صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غُسلٍ، لأن الكمال هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شكّ في وجوبه جاز تركُه مع القدرة، وما لا يجوز تركُه مع القدرة أولَى مما يجوز تركُه مع القدرة، والمستحبُّ المحضُ دُونَ ذلك.

والنبي صلى الله عليه وسلم جَمعَ بين الصلاتين بعرفةَ في وقت الأولى، وهذا الجمع ثابتٌ بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلومٌ أنه قد كان يُمكِنُه أن يتركَ العصرَ فيُصلِّيها في وقتها المختصّ، لكن عَدَلَ عن ذلك إلى أن قدَّمَها مع الظهر لمصلحة تكميلِ الوقوف، لِعلمِه صلى الله عليه وسلم بأنّ اتّصال الوقوف إلى المغرب بغيرِ قَطْع له بصلاةِ العصر في أثنائِه أحبُّ إلى الله من أن يُصلِّي العصرَ في وقتها الخاصّ، ولو أخَّرَ مؤخِّر العصرَ وصلَاّها في الوقت الخاصّ وقَطَعَ الوقوفَ لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماءُ من غيرِ نزاع أعلمه، ولكن تَركَ ما هو أحبُّ إلى الله ورسولهِ، فإنه لو قَطَعَ الدعاءَ والذكرَ لبعض أعمالِه المباحة ووَقَفَ إلى المغرب

ص: 336

لم يَبْطُل بذلك حَجُّه، فأنْ لا يَبْطُلَ بتركِ ذلك لصلاة العصر أولَى وأحرى. ودَلَّتْ هذه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجمع يكون للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك.

وقد أخذَ جمهورُ العلماء بالسنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجمع، وأحمد أعظمُهم أخذًا بما وردَ كلّه، فإنه يُجوِّز الجمعَ للمسافر في وقت الثانية، كما ثبتَ في الصحيح. وأما الجمع للنازلِ في وقت الأولى كما رُوِي في السنن ففيه عنه روايتانِ: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنعُ كقولِ مالك. وهل المباحُ للسفر مختصٌّ للطويل؟ فيه وجهانِ في مذهب الشافعي وأحمد، ومذهبُ مالك أنه لا يختصُّ بالطويل، وهو الصحيح الذي تدلُّ عليه الأدلةُ الشرعية. "وثلاثتُهم يُجوِّزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأمّا صلاتا الظهر والعصر ففيهما نزاعٌ بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يُجوِّزانِ الجمعَ للمريض، وهو قولُ طائفة من أصحاب الشافعي.

وجوَّز أحمد الجمعَ للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حَمْنَة بنت جَحْشٍ

(1)

، قالت: كنتُ أُستحاضُ حيضةً شديدةً، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أستَفْتِيه، فقلتُ: إني أُستحاض حيضةً كثيرةً فما تأمرني فيها؟ فقد مَنَعَتْني الصيامَ والصلاةَ، قال: أَنْعَتُ لكِ الكرسُفَ، قالت:

(1)

أبو داود (287) وابن ماجه (627) والترمذي (128) ومسند أحمد (6/ 439).

ص: 337