الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما
العبد له حظانِ: حظ من المخلوق
(1)
، وحظٌّ من الخالق
، وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فتركَ أدنى الحظين واللذتين لينال أعلاهما، وما عملَ إلا لنفسه ولا حَطَبَ إلا في حَبْلِه، قال تعالى:(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
(2)
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذة النظر" كما تقدم.
وقال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)
(3)
، وقال:(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)
(4)
، وقال:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)
(5)
وقال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40))
(6)
. والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلُّق بالله ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع به في حياته، قال الله تعالى
(7)
: "يا عبادي إنكم لن تَبلُغوا ضُرّي فتضروني، ولن
(1)
الكلمة غير واضحة في الأصل.
(2)
سورة فصلت: 35.
(3)
سورة فصلت: 46.
(4)
سورة الإسراء: 7.
(5)
سورة البقرة: 286.
(6)
سورة النمل: 40.
(7)
في الأصل: "يقول".
تَبلُغوا نفعي فتنفعوني"
(1)
، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل للمالك، وبهذا تزول جهالاتٌ كثيرة من بعض العابدين المحبين.
قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17))
(2)
، فأخبر أنه هو الذي منَّ بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنُّون على رسوله إسلامهم، فتدبَّرْ هذا، فإن فيه معانيَ
(3)
لطيفةً، منها: أنه إنما منَّ بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه بالرسالة، وإنعامُه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا.
ومنها: أن
(4)
مَنَّهم على رسوله الإسلامَ الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك تنبيهًا على إنكارِه مَنَّهم على الله الغني الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي منَّ عليه بهدايته وإرشاده، فله الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والَاخر، وهو بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا أحبَّه
(5)
ربه،
(1)
أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.
(2)
سورة الحجرات: 17.
(3)
في الأصل: "معان".
(4)
في الأصل: "أنه".
(5)
في الأصل: "وإذا حبه".
وأحبّ عبادته ودينه
(1)
ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه.
والعبادُ أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين:
من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيومٌ لا تأخذه سِنة ولا نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه.
ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به.
وأما قول العابدة المحبة القائلة:
أحبُّك حبَّينِ: حبّ الهوى
…
وحبٌّ لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى
…
فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا
وأما الذي أنت أهلٌ له
…
فشيء
(2)
خُصِصْتَ به عن سواكا
فلكلامها وجهان:
أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية
(1)
كذا في الأصل.
(2)
في ص 13: (فحبي).
حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم متفقون على محبته لذاته، وقد قررتُ هذه المسألة في غير هذا الموضع.
الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم محبة الله، كما قال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)
(1)
أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله، ثم إن المحبين
(2)
من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم والايمان كثيرًا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء قد أُمِروا بها، لكن إذا لم يكونوا نُهُوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال المحمودة قد يَفعل مثلَ ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورًا به ولا منهيُّا عنه.
فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلاً لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيًّا عنه، حتى إن منهم من يُنهى أويُمنع كما مُنِعَ موسى عليه السلام عن النظر لما ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحًا لما سال في ابنه قيل له:(فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
(3)
،
(1)
سورة البقرة: 165.
(2)
في الأصل: "المحبون".
(3)
سورة هود: 46.
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)
(1)
. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يفعل إلا ما أمر به
(2)
من دعاء وعبادة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمرَه به ربُّه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له:(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114))
(3)
، وقيل له:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)
(4)
، وإذا كان يوم القيامة وردَّ الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى
(5)
ربه، ويخرُّ ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له:"أي محمد! ارفعْ رأسَك، وقلْ يُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع"
(6)
، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم.
وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)
(7)
، فهؤلاء المتَّبعون لأمره، المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله
(1)
سورة هود: 74 - 76.
(2)
في الأصل: "فلا يفعلون إلا ما أمروا به".
(3)
سورة طه: 114.
(4)
سورة محمد: 19.
(5)
في الأصل: "اليه" تحريف.
(6)
أخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) من حديث أنس في حديث الشفاعة المشهور.
(7)
سورة آل عمران: 31.
حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تُسمَح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي تحرك حبه أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة
(1)
الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى:(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا)
(2)
، (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)
(3)
، وقال تعالى:(وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر)
(4)
، ومنهم من يَحمِلُه حبُّ أقاربه حتى يدعو لهم بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك.
وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور خارجون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، بمنزلة خروج من خرجَ من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ببُغضِه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما الباطنة وإما
(1)
في الأصل:"عونه".
(2)
سورة المائدة: 8.
(3)
سورة المائدة: 2.
(4)
سورة النور: 2.