المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الصلاة الوسطى هي العصر - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

فصل في الصلاة الوسطى

قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن‌

‌ الصلاة الوسطى هي العصر

، كما صرّح به في حديث عليّ المتفق على صحته

(1)

، وحديث ابن مسعود:"الصلاة الوسطى هي العصر"

(2)

. والعصر ثبتَ لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح

(3)

: "من تركَ صلاة العصر حَبطَ عملُه"، وكذلك في الصحيح

(4)

: "الذي تفوتُه صلاةُ العصر كأنما وُترَ أهله وماله"، وقوله

(5)

: "إن هذه الصلاة عُرِضتْ على من كان قبلكم فضيَّعُوها، فمن حافظ عليها كان له الأجرُ مرَّتين، ولا صلاةَ بعدها حتى يَطلعَ الشاهدُ". والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شُغِلَ عنها سليمانُ حتى توارتْ بالحجاب

(6)

. وقال صلى الله عليه وسلم: "تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، تلك صلاةُ المنافق، يَرقُبُ الشمسَ حتى إذا اصفرَّتْ وكانت بين قَرنَيْ شيطانٍ، قامَ فنقَر أربعًا لا يذكرُ الله فيها إلا قليلا"

(7)

. وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن:

(1)

البخاري (2931) ومسلم (627).

(2)

أخرجه مسلم (628).

(3)

أخرجه البخاري (553، 594) من حديث بريدة.

(4)

أخرجه البخاري (552) ومسلم (626) من حديث ابن عمر.

(5)

أخرجه مسلم (830) من حديث أبي بصرة الغفاري.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 505) والطبري في تفسيره (5/ 170).

(7)

أخرجه مسلم (622) من حديث أنس.

ص: 301

(تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ)

(1)

. وقد ثبتَ في الصحيح

(2)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم يومَ القيامة، ولا يُزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: رجلٌ حَلَفَ على سِلْعَة بعد العصر كاذبًا لقد أُعطِيَ بها أكثر مما أعطي. ورجل على فَضْلِ ماءٍ يمنعُه من ابن السبيل، فيقول الله له: اليومَ أَمْنَعُك فَضْلِي كما مَنَعتَ فَضْلَ ما لم تَعملْ يداك. ورجل بايعَ إمامًا لا يُبايعُه إلا للدنيا، إن أعطاه رَضِي، وإن مَنَعَه سَخِط". فذكر اليمين الفاجرةَ بعد العصر.

ويُقال: إنّ وقتَها وقمت تُعظمُه الأممُ كلُّها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة تُوجبُ تعظيمَه وحِفْظَ وقتِها حتى لا يُضيعَ حتى يخرج الوقت، وليسَ في مواقيت الصلوات ما لا يتميَّز أولُه بفصلٍ يُحَسُّ إلا وقت العصر، فإن الفجر يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر يتميزُ أولُ وقتها بالزوالِ، وآخرُ وقتِها وإن لم يكن متميزًا فيجوز تأخيرُها إلى وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغربُ يتميزُ أولُ وقتِها وآخرُه بغروب الشمسِ وغروب الشفَق. وعشاءُ الآخرة يتميزُ أولُ وقتِها بمغيب الشفق، وآخرُ وقتهَا وإن لم يتميَّزْ تميُّزًا في الحسّ لكنّه يُمَدُّ للعذَر إلى طلوع الفجر كالظهر. والصلاة التي يُمكِن تأخيرُها إلى ما بعد الوقت الخاصّ للعذر، لا يُخاف من فوتها ما يُخاف من فوتِ الصلاة التي لا يُمكن تأخيرها،

(1)

سورة المائدة: 106.

(2)

البخاري (2358) ومسلم (106) عن أبي ذر.

ص: 302

فالظهر والعشاء يجوز تأخيرُهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديمُ العشاء، بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرُها عن وقتِها بحالٍ من الأحوال، وأولُ وقتها ليس يميز، مع أنه أقصرُ من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقتِ صلاةٍ أَشْغَلَ منهم في وقتها، وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقِصَرِه ووجودِ الشغل فيه.

ولهذا لم يشتغل نبيُّنا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نَسِيَها إلا صلاة العصر يومَ الخندق، كما أنه لم يَنمْ عن صلاةٍ إلا عن صلاة الفجر، وقال

(1)

: "من نامَ عن صلاة أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إذا ذكرَها، لا كفَّارةَ لها إلا ذلك"، وهو صلى الله عليه وسلم نام عن الصلاة مرةً ونَسِيَها أخرى. ولهذا قال لأصحابه:"لا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر [إلا] في بني قُريظةَ"، فأدركَتْهم العصرُ في الطريق، فمنهم من صلَّى في الوقت، ومنهمِ من أخَّرها حتَّى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يُعنِّفْ واحدةَ من الطائفتين

(2)

.

ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدَّةِ الخوف تأخيرُ الصلاةِ عن وقتها أو يَجبُ فعلُها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.

(1)

أخرجه البخاري (597) ومسلم (684) عن أنس بن مالك.

(2)

أخرجه البخاري (946، 4119) من حديث ابن عمر.

ص: 303

إحداهما: أنه يُخيَّر بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرِها، كما أن الصحابة منهم من صلَّى في الوقت ومنهم من صلَّى بعد الوقت، لكن أولئك صَلَّوا صلاةً كاملةً، لكونهم لم يمنعوا عن ذلك.

والثاني: أنه يجب فعلُها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخًا بقوله بعد ذلك:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)

(1)

، فأمرهم بالمحافظة التي هي فِعلُها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة والجهاد بحسب حاله، وإتيانُه بالواجبين أولَى من تفويتِ أحدهما، ووقتُ الصلاة أعظمُ فروضها، ولا تَسقُط بحالٍ، ولهذا تُفعَل على أيِّ حالٍ أمكنَ في الوقت، ولا تُؤخَّر صلاةُ النهار إلى الليل، ولا صلاةُ الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط ولا غير ذلك.

وأما الجمع بين الصلاتين فهو فِعل لها في وقتهما، إذ الوقتُ ينقسم إلى وقتِ اختيار ووقتِ اضطرار، ولهذا قلنا في المُحْرِم إذا خاف إن صلَّى العشاء أن يفوتَه الوقوفُ بعرفةَ، وإن بادرَ إلى إدراكِ الوقوف قبل صلاةِ الفجر فاتته العشاءُ= إنه يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيُصلي بحسب حالِه ويُدرك الوقوف. وهذا القول خيرٌ من قولِ من قدَّم الصلاةَ وفوَّتَ الحج، أوَ قدَّمَ الحج وفوَّتَ الصلاةَ، إذ كلٌّ من الوقوِف والصلاة له وقتٌ لا يجوز تأخيرُه عنه. وبعد هذا القوِل قول من سَوغَّ تأخيرَ الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيهٌ بقولِ من سَوغَّ تأخير

(1)

سورة البقرة: 238.

ص: 304

الصلاة لأجلِ الجهاد. وأما من أمرَ بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا يَخرُج عن الإحرام بذلك، بل ينتقلُ عن الحج إلى العمرة. وهذا ضعيفٌ، فإنّ ذلك لا يجوز مع القدرة بحالٍ.

ومن العلماء مَن جَعَلَ فِعلَ الصلاةِ يوم بني قُريظةَ من الصحابة فِعْلَ اجتهادٍ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُسوِّغ الفعلينِ جميعًا حتى جَعَلَهم مُخيَّرين، ولكن لما اجتهدوا أقرَّ كلاًّ منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلاً في تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنتُ قد ذكرتُه في بعض كلامي قبلَ هذا ففيه نظرٌ، لأن المجتهدين إنما يُقَرُّون إذا عُدِمَتِ النصوصُ، فلو كان هذا من باب الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دونَ الآخر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُصَوِّبُ فِعْلَ إحدى الطائفتين ويَعذُر الأخرى، لا يُسَويّ بين الطائفتين التي اختصَّتْ إحداهما بالإصابة في مواردِ الاجتهاد.

والمقصود الكلامُ على "الوُسطَى"، وأنها مما قد يشتغلُ عنها الأنبياء والصالحون، كما نَسِيَها النبي صلى الله عليه وسلم ومن نَسِيَها من أصحابه يومَ الخندق، وكما نَسِيَها سليمانُ يومَ عُرِضتْ عليه الخيلُ. فتخصيصها بالأمر بالمحافظة عليها مناسبٌ، كما هو قول أهل الحديث والسلف.

ويليه قولُ من قال: إنها الفجر، فإنه أيضًا قولُ طائفةٍ من الصحابة والعلماء المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما من الاشتراك الذي اختصَّا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

(1)

: "لَن يَلِجَ النارَ

(1)

مسلم (634) عن عمارة بن رُوَيبة الثقفي.

ص: 305

أحدٌ صلَّى قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها" يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث الصحيح

(1)

: "من صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ". وقال

(2)

: "إنكم سَتَرَون ربّكم كما ترون القمرَ ليلةَ البدر، فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها فافعلوا"، ثم قرأ:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)

(3)

. وقال في الحديث الصحيح

(4)

: "من أدرك [ركعةً] من الفجر قبلَ أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تغربَ الشمسُ فقد أدرك".

وذلك أن الله أمرَ بالصلاة قبلَ طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين الصلاتين قطعًا، وإن كانت صلاةُ الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)

(5)

، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ)

(6)

و (بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)

(7)

، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعًا، والظهر وإن دخلَتْ في ذلك فوقتُها وقتُ العصر حينَ العُذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حالَ العذر فوقتُ هاتين الصلاتين واحد من وجهٍ.

ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلاًّ منهما لا يجوز تأخيرها عن

(1)

البخاري (574) ومسلم (635) عن عبد الله بن قيس.

(2)

أخرجه البخاري (554) ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله.

(3)

سورة طه: 130.

(4)

البخاري (579) ومسلم (608) من حديث أبي هريرة.

(5)

سورة غافر: 55.

(6)

سورة هود: 114.

(7)

سورة الأعراف: 205، سورة الرعد: 15، سورة النور:36.

ص: 306

وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخَّر الظهرُ [إلى العصر]، والمغربُ إلى العشاء للعذر، ولهذا خصَّهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"من أدرك ركعةً من الفجر قبل أن تطلع الشمسُ فقد أدرك، ومن أدرك ركعةً من العصر قبلَ أن تَغْرُب الشمسُ فقد أدرك"، إذْ سائر الصلوات لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه صلاة النهار لا تؤخَّر إلى الليل، وتلك صلاة ليلٍ من بعض الوجوه لأجل الجهر فيها، وصلاة نهارٍ من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودةً من صلوات النهار كما قد نصَّ عليه أحمد وغيرُه، لكن فيها شَبَهٌ من صلاة الليل. وذلك أن لفظ "الليل""والنهار" فيهما اشتراكٌ، فقد يُراد في الشريعة بالنهار ما أولُه طلوع الفجر، كقوله:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ)

(1)

الطرف الأول فيه صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهارَ ونقوم الليلَ، فصيامُ النهار أولُه طلوع الفجر، وقيامُ الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد يُراد بالنهار ما أولُه طلوع الشمس، كما يجيئ في الحديث: فعلَ كذا نصفَ النهار، ولما انتصفَ النهار، وقبلَ نصفِ النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله طلوع الشمس، إذ زوالُ الشمس مُنتصَفُ هذا النهار، لا مُنتصَف النهار الذي أوله طلوع الفجر.

فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراكٌ بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر معدودةً من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسُّطِها، قالوا: لأنها بين صلاتَي الليل وصلاتَيْ نهار، وهو معنًى مناسبٌ، لكن العصر أحقُّ بالتوسُّط كما دلَّ عليه الأحاديث، وكما قال من قال من

(1)

سورة هود: 114.

ص: 307

السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخِنْصر وقال: هذه الفجر، وأشار إلى البنْصِر وقال: هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال: هذه العَصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السبَّاحة، ولأنها وتْرٌ، والسبَّاحة تُشِير بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أوَّل الصلوات هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقلَ النفسُ منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها، ولهذا قدَّمَها في الترتيب بعض المصنِّفين، وذلك أحسنُ ممن قدَّم الظهر، فإن الذين قدَّموا الظهرَ اتَّبعُوا ما فعلَه جبريلُ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حينَ أمَّه وأقامَ له مواقيتَ الصلوات. والذين قدَّموا الفجرَ تَبِعُوا فيها الأحاديث الثابتة الصحيحة، مثل حديث بُرَيدة

(1)

وأبي موسى

(2)

وحديث ابن عمرو

(3)

وأبي هريرة

(4)

-إن ثبتَ-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فيها بالفجر في قوله وفعلِه.

وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنةٍ عنه عليه السلام، وإنما هو قول بعض السلف، كما في الصحيح

(5)

عن أبي بَرْزَة أنه قال:

(1)

أخرجه مسلم (612)

(2)

أخرجه مسلم (614).

(3)

أخرجه مسلم (612).

(4)

أخرجه الترمذي (151) من طريق محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. قال الترمذي: سمعت محمدا (أي البخاري) يقول: حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصحُّ من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمد بن فضيل خطأ، أخطأ فيه محمد بن الفضيل.

(5)

البخاري (547) ومسلم (647).

ص: 308

"كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدعُونها الأولى". فجعلَ دعاءَها بهذا الاسم من قول المخاطَبين، لا من قول الشارع، كما قال:"وكان يُصلِّي العشاءَ التي تَدعُونها العَتَمَة"، مع أنّ تسمية هذه الصلاة بالعَتَمة وإن وردَ النهيُ عن ذلك

(1)

لئلَاّ يَغْلِب عليه، فقد وردَ فيه أحاديثُ صحيحةٌ لم يَرِدْ مثلُها في تسمية الظهر بالأولى.

وأما فعلُ جبريل فعنه جوابان:

أحدهما: أن ذلك كان ليلةَ المعراج حينَ فُرِضت الصلواتُ الخمسُ، ولم يكن المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلعَ النهارُ، فلما طلعَ أقامَ لهم الصلوات، فكان ابتدأ حينئذ بالظهر.

والثاني: أن ذلك كان متقدمًا قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت الصلاة ركعتينِ ركعتينِ، ثمَّ إنّ الله بعد ذلك أكملَ عددَ الصلوات، وإنما أُخِذَ بالآخر من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال:"المغربُ وِتْرُ النهار، فأوتروا صلاةَ الليل"، رواه أحمد

(2)

. ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن الفجرُ داخلةً لا في وتر الليل ولا في وتر النهار.

وأيضًا فمعلوم أن أول النهار طلوعُ الفجر، فصلاةُ ذلك الوقت تكون أول الصلوات، والإنسان حينئذٍ يكون كالميت. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظَ يقول

(3)

: "الحمد لله الذي أحيانَا بعدَ ما أماتَنا، وإليه

(1)

أخرجه مسلم (644) من حديث ابن عمر.

(2)

في المسند (2/ 30، 32، 41، 82، 154) عن ابن عمر.

(3)

أخرجه البخاري (6312) عن حذيفة، ومسلم (2711) عن البراء.

ص: 309

النُّشُور". فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولَها كانت العصر أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولَى من غيرهما، لأن وقتهما ليس بالطويل الممتدّ كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان توكيد المحافظة عليهما متعيِّنًا، فإنّ المحافظة تتعلق بالوقت.

والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلةً، كما قال تعالى:(إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78))

(1)

. وفي السنن

(2)

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار"، وفي روايةٍ:"يَشهدُه الله وملائكتُه". ومن خصائصها أنها لا تُجمَع إلى غيرِها.

ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهار، كما في الصحيح

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيَعْرُج الذين باتوا فيكم، فيَسألُهم -وهو أعلمُ منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلُّون، وتركناهم وهم يُصلُّون". ومن خصائصهما تركُ الصلاةِ بعدهما، كما في حديث ابن عباس

(4)

وأبي سعيد

(5)

وغيرهما من النهي عن ذلك. والله سبحانَه أعلم.

(1)

سورة الإسراء: 78.

(2)

الترمذي (3134)، وقال: حسن صحيح.

(3)

البخاري (555) ومسلم (632) من حديث أبي هريرة.

(4)

أخرجه البخاري (581).

(5)

أخرجه البخاري (586) ومسلم (827).

ص: 310

فصل يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد

وذلك أنَّ الله أمرَ بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فِعلُها في أول وقتها. والوقتُ وقتانِ: وقت يتقدَّرُ بالزمان، فلا يجوز تأخُّرُها عنه بحالٍ، والوقت الثاني يتقدَّرُ بالفعل، وذلك نوعانِ: أحدهما أنه إذا أُقيمتِ الصلاةُ فلا صلاةَ إلا التي أقِيمتْ، لأن الإقامة مختصَّة بها بعينها، فصار ذلك الوقتُ وقتَها المقدر لا يَسَعُ لغيرها، فلا يُفعَلُ فيه غيرُها لا تطوُّعٌ ولا غيرُه. ولهذا تنازع العلماءُ فيما إذا ذكرَ العبدُ فائتةً بعد أن أقيمت الحاضرةُ، لأنَّ كلاهما واجبٌ، وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها فليُصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتُها، لا وقتَ لها إلا ذلك"

(1)

. فأوجبَ فِعْلَها وقضاءَها على الفور، وهذا مما يُحتجُّ به على الترتيب في قضاء الفوائت، كما هو مذهبُ أكثرِ الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهبُ بعضهم في الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضِيق الوقتِ المقدَّر بالزمن، هل يُقدم الفائتةَ لتقدُّمِ وجوبها، أو يُقدمُ الحاضرةَ خوفَ فواتِها وخروجها عن وقتها فتصير فائتتين، أو يُصلي الحاضرةَ مرتين، فيفعلُها مرةً لأنه وقتها، ثمَّ يُصليها بعد أن يُصلِّيَ الفائتة لأجلِ مراعاةِ الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلاً خرجَ من المسجد بعد النداء فقال: "أما هذا فقد عَصَى أبا

(1)

سبق تخريجه.

ص: 311

القاسم"

(1)

. لأن النداء إليها عينُ وقتِها، ولهذا نُهُوا يومَ الجمعة عن البيع بعد النداء، لأن ذلك وقتُ الصلاة المعيَّن المقدَّر.

فصل

وإذا كانت الصلاةُ على ما ذُكِرَ من توسيع الوقتِ تارةً وتقديرِه أخرى، فلا تُؤخَّر عن الوقتِ الموسَّع، بل المحَافظةُ عليها في الوقت أمر واجبٌ على كل حال، كما أمر به القرآنُ فقال:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ)

(2)

، وقال:(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5))

(3)

، وقال:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)

(4)

، وقال:(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23))

(5)

، (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9))

(6)

، مستثنيًا هؤلاء ممن خلف هؤلاء، وعاد ذاكرًا لهم في "الوارثين الذين يرثون الفردوس". وكما قال:(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)

(7)

، وقال:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)

(8)

، وقال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ

(1)

أخرجه مسلم (655).

(2)

سورة البقرة: 238.

(3)

سورة الماعون: 4 - 5.

(4)

سورة مريم: 59.

(5)

سورة المعارج: 23.

(6)

سورة المؤمنون: 9.

(7)

سورة الإسراء: 78.

(8)

سورة هود: 114.

ص: 312

غُرُوبِهَا) الآية

(1)

. ومثلها في (ق)

(2)

، وقال:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49))

(3)

، وقال:(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55))

(4)

، وقال:(إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103))

(5)

. فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقًا وعمومًا، وأمر به مفصلاً وخصوصًا في الآيات التي عينتها.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكونُ عليكم أُمَرَاءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتِها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتِها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً"

(6)

.

وقال: "من نامَ عن صلاةٍ أو نَسِيَها" الحديث

(7)

. وقال: "ليس في النوم تفريطٌ، إنما التفريطُ في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقتُ التي تلِيها"

(8)

. وقال: "من فاتَتْه صلاةُ العصر فقد حَبِطَ عملُه"

(9)

، و"من فاتتْه صلاةُ العصر فكأنما وُترَ أهله وماله"

(10)

، وقال: "الوقتُ ما بين

(1)

سورة طه: 135.

(2)

سورة ق: 39.

(3)

سورة الطور: 48 - 49.

(4)

سورة غافر: 55.

(5)

سورة النساء: 103.

(6)

أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر.

(7)

سبق تخريجه.

(8)

أخرجه أحمد (5/ 305) وأبو داود (441) والترمذي (177) والنسائي (1/ 294) من حديث أبي قتادة.

(9)

سبق تخريجه.

(10)

سبق تخريجه.

ص: 313

هذين"

(1)

، إلى أمثال ذلك.

فالجهاد واجبٌ على الفور تارةً وعلى التَّراخِي أخرى، وعلى الأعيان تارةً وعلى الكفاية أخرى، وهو سَنَامُ الدين، كما أن الصلاة عمودُ الدين، والإسلام رأسه. ولهذا كانت غايةُ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها وآكدها في الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضًا قال:"اللهمَّ اشْفِ عبدَك هذا يَشْهَد صلاةً ويَنْكَأ لك عَدُوًّا"

(2)

.

وكانت السنةُ أن الإمام هو الذي يُقيم للناس الصلاةَ ويُجاهِدُ بهم العدوَّ، فأمير الحرِب والصلاة واحدٌ، كما قال تعالى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25))

(3)

، فاخبر أنه أنزل الكتابَ والميزان والحديدَ، ولهذا كان قِوامَ الدين كتابٌ يَهدِي وعدلٌ يُعملُ به وحديدٌ ينصر، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31))

(4)

.

والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من قرأ القرآن ثمَّ نَسِيَه لَقِيَ الله وهو أَجْذمُ"

(5)

، فقد قال:"من تعلَّم الرميَ ثمَّ نَسِيَه فليس منا"، وفي رواية:"فقد عصى"، وهو

(1)

أخرجه مسلم (614) عن أبي موسى الأشعري.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 172) وأبو داود (3107) عن عبد الله بن عمرو.

(3)

سورة الحديد: 25.

(4)

سورة الفرقان: 31.

(5)

أخرجه أحمد (5/ 284، 285) والدارمي (3343) من حديث سعد بن عبادة.

ص: 314

في الصحيح

(1)

. وإذا كانت الصلاة التي يُتلَى فيها الكتابُ يتعيَّنُ وقتُها بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حَذْوَهم أو حاصروا حصْنَهم لم يكن لهم الانصرافُ حتى يُقضَى الجهاد، كما قال تعالى:(إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)) الآية

(2)

. وقد أمر سبحانَه بالأمرين في حال القتال، فقال:(إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا)

(3)

، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكْره الذي هو مقصود الصلاة، كما قال ابن مسعود: ما دُمْتَ تَذكرُ الله فَأنتَ في صلاة ولو كُنتَ في السوق.

ولهذا يَقرنُ سبحانَه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة الجهَاد، كقوله:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)

(4)

، (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153))

(5)

، وقال:(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) إلى قوله: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

(6)

، وقال:(فَأصْبرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْد رَبّكَ قبْلَ طلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)

(7)

، وكذلك في (ق)

(8)

والطَورَ

(9)

(1)

مسلم (1919) عن عقبة بن عامر.

(2)

سورة الأنفال: 15.

(3)

سورة الأنفال: 45.

(4)

سورة البقرة: 45.

(5)

سورة البقرة: 153.

(6)

سورة هود: 114، 115.

(7)

سورة طه: 135.

(8)

آية: 39.

(9)

آية: 48.

ص: 315

وغافر

(1)

، وقوله:(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)) إلى قوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10))

(2)

، وقال تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا)

(3)

.

فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعلِه ووقتِه إلى مُوَسَّعٍ ومقدَّرٍ، وبحسب فعلِه إلى معيَّنٍ ومخيَّرٍ، وبحسب فاعلِه إلى واجب على الأعيان وواجبٍ على الكفاية، فهما مشتركان في أنَّ ما كان كذلكَ يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما كان وقتُه موسَّعًا يتعيَّن بالدخول فيه، وما كان واجبًا على الكفاية يتعيَّنُ على من باشرَه.

والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقتٍ واحدٍ، وله صورتان:

إحداهما: أن لا يكون مباشرًا للجهاد، بل مصابرًا للعدوّ، فهذا يُصلِّي صلاة الخوف إذ كان

(4)

له، كما صلَاّها النبي صلى الله عليه وسلم غيرَ مرة على وجوهٍ خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيَسُوغ فيها استدبارُ القبلةِ، والعملُ الكثير في نفس الصلاة، ومفارقةُ الإمام قبلَ السلام، واقتداء المفترض فيها بالمتنفل، والتخلُّف عن متابعة الإمام حتى يُصلِّي ركعة. وهذه الأمور فيها ما لا يُفعَل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما

(1)

آية: 55.

(2)

سورة المزمل: 8 - 10.

(3)

سورة الإنسان: 23 - 26.

(4)

هنا في الأصل كلمة رسمها: "مزاييا".

ص: 316

لا يُسوغ فعلَه أكثرُ العلماء.

والثاني: أن يكون محتاجًا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي قصدناه بهذا الفصل، فهذه تُسمى صلاة المسايَفَة، لأن المسايفة هي أحوال المقاتلين، وإلاّ فالمطاعنةُ والمداناة والمضاربة بالمثقَّلات من الحجارة والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقلِ أو ما يجمعهما، فيه ثلاثة أقوال:

أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبَيْنِ جميعًا، وأن تأخير الصلاة منسوخٌ بآية المحافظة.

والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يُخيَّر بينَ تقديم الصلاة وتأخيرِها، لحديث بني قريظة.

والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخّر الصلاةَ على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة من أهل الرأي وأهل الظاهر.

فصل

والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطينُ الإنس والجنّ والدوابّ، وقد وردتِ السنةُ بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبينَ دَفْع عدوه من جميع الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى:(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ

ص: 317

فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا)

(1)

. وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلّوا

(2)

.

(1)

سورة البقرة: 238 - 239.

(2)

انتهى ما في الأصل.

ص: 318

فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين

ص: 319