الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كمالِ بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأوّل لازمةً للثاني كالبطن الأول مع الثاني.
وليس في الأدلة الشرعية ما يُوجب أن الإجارة لا تصحُّ إلا في منفعةٍ تمنعُ انفساخَ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئرِ للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع، مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل يُؤتَى بطفلٍ آخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تَلِفَت العين المؤجرةُ كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة.
ف
الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة
، مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ فقد خالف النصّ والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصحُّ إجارة الإقطاع نقلٌ عن أحدٍ من العلماء الذين يُفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا غيرهم، فكيف يَسُوغ لأحدٍ أن يقول قولاً لم يُستق إليه؟ سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في العارية بتقديرِ تسليمه ليست علتُه كونَه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن المستعير لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يُعاوضَ عليها، كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تُملَك إلا بالقبض عند من قال ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمُقطَع
بالمستأجر والموقوفِ عليه أشبهُ منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقَّه وعِوَضَ عمله.
فإن قلت: كيف يُدَّعى الإجماعُ وفي أصل الإجارة نزاع؟
قلتُ: النزاع المحكيُّ فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظِّئْر والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالفَ في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوقٌ بالإجماع المستند إلى النصّ. والله أعلم.
مسألة في ضمان البساتين والأرض
مسألة
في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجرُ أو النخيلُ قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه، هل يجوز ضمانُه السنةَ والسنتين أم لا؟
جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية
هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناءً على أن هذا داخلٌ فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمر قبلَ أن يَبدُوَ صلاحُه
(1)
، فاعتقد من قال ذلك أن هذا بيعُ الثمر قبل أن يبدو صلاحُه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير الضمان، مثل أن يشتريَ ثمرةً مجردةً بعد ظهورها وقبلَ بُدُوِّ صلاحِها، بحيثُ يكون على البائع مَؤُونةُ سَقْيِها وخدمتِها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصِّه. ومذهبُ أبي حنيفة في ذلك أشدُّ منعًا.
وتنازع أصحابُ هذا القول: هل يجوزُ الاحتيال على ذلك بأن يُؤجر الأرضَ ويُساقِي على الشجر بجزء يسيرٍ؟ على قولين، فالمَنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل" أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب الشافعي.
(وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوهٍ، ثم قال:) فمن
(1)
أخرجه البخاري (2194) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
فعلَ ذلك وجبَ على وُلاةِ الأمرِ الحجرُ عليه، فضلاً عن إمضاء فعلِه والحكمِ بصحتِه.
(ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة.
(ثم قال بعد استدلال وتنفيرٍ عن هذا الفعل وتقبيحه:)
القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجرُ تبعٌ، جاز أن يُؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجرُ تَبعًا. وهذا مذهب مالك، وهو يقدر التابع بقدر الثلث.
وصاحب هذا القول يُجوِّز من بيع الثمر قبلَ بدوِّ الصلاح ما يدخلُ ضمنًا وتبعًا، كما جاز إذا ابتاع نخلةً بعد أن تُؤَبَّر أن يشترطَ المبتاعُ ثمرتَها، كما ثبتَ ذلك في الصحيحين
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمبتاعُ هنا قد اشترى الثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه لكن تبعًا للأصل، وهذا جائزٌ باتفاق العلماء، فيقيس ما كان تبعًا في الإجارة على ما كان تبعًا في البيع.
والقول الثالث: إنه يجوز ضمانُ الأرض والشجر جميعًا، وإن كان الشجر أكثر. وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه قبَّل حديقةَ أُسَيد بن حُضير ثلاثَ سنين، وأخذَ القبالةَ فوفَى بها دَيْنَه. روى ذلك حَرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله" المشهورة عن أحمد، ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة يَغلِبُ عليها الشجرُ.
(1)
البخاري (2204، 2716 ومواضع أخرى) ومسلم (1543) عن ابن عمر.
قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن أُسَيد بن حُضَير توفي وعليه ستة آلاف درهم دَين، فدعا عمر بن الخطاب غُرَماءَه، فقبَّلَهم أرضَه سنين، وفيها الشجرُ والنخلُ.
وقد ذكر هذا الأثر عن عمرَ بعضُ المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه خلافُ الأجماع. وليس بشيء، بل ادّعاءُ الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعلَ ذلك بالمدينة النبوية بمشهدِ من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظِنَّة الاشتهار، ولم يُنقَل عن أحدٍ أنه أنكرها، وقد كانوا يُنكِرون ما هو دونَها وإن فعلَه عمر، كما أنكر عليه عمران بن حُصَين وغيرُه ما فعلَه في متعة الحج. وإنما هذه القضية بمنزلة توريثِ عثمان بن عفان لامرأةِ عبد الرحمن بن عوف التي بَتَّها في مرض موته، وأمثال هذه القضية.
والذي فعلَه عمر بن الخطاب هو الصواب، [و] إذا تدبر الفقيهُ أصولَ الشريعة، تبيَّن له أن مثل هذا الضمان ليس داخلاً فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يظهر بأمور:
أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يُمكنُ فيها الإجارةُ، ويُمكنُ فيها بيعُ حَبِّها قبلَ أن يشتدَّ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن بيع الحبِّ حتى يَشتدَّ
(1)
لم يكن ذلك نهيَا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصودُ
(1)
أخرجه أحمد (3/ 221، 250) وأبو داود (3371) والترمذي (1228) وابن ماجه (2217) من حديث أنس بن مالك.
المستأجر هو الحبّ فإن المستأجر هو الذي يَعمل في الأرض حتى يَحصُلَ له الحب، بخلاف المشتري، فإنه يشتري حَبًّا مجردًا، وعلى البائع تمامُ خدمتِه حتى يستحصِدَ.
وكذلك نهيُه عن بيع العنبِ حتى يَسْوَدَّ
(1)
، ليس نهيًا عن أن يأخذ الشجر، فيقوم عليها ويَسقيها حتى تُثْمِر، وإنما النهي لمن اشترى عِنَبًا مجرَّدًا، وعلى البائع خدمتُه حتى يكتملَ صلاحُه، كما يفعلُه المشترون للأعناب التي تُسمَّى الكُرُوم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونَها حتى يبدوَ صلاحُها، بخلاف التضمين.
الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائزٌ عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضًا عند ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعدٍ وغيرهم من الأئمة جائز، كما دلَّ على جواز المزارعة سنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإجماعُ الصحابة من بعدِه.
والذين نَهَوا عنها ظنُّوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارةً بعوضٍ مجهول، وذلك لا يجوز. وأبو حنيفةَ طردَ قياسَه، فلم يُجوِّزْها بحال.
وأما الشافعي فاستثنى ما تَدعُو إليه الحاجةُ، كالبياض إذا دخلَ تبعًا للشجرِ في المساقاة. وكذلك مالك، لكن رَاعَى القلةَ والكثرةَ على أصلِه.
وهؤلاء جعلوا المضاربةَ أيضًا خارجةً عن القياس، ظنًّا أنها من
(1)
ضمن الحديث السابق.
باب الإجارة بعوضٍ مجهول، وأنها جُوِّزتْ للحاجة لأن صاحب النقد لا يُمكِن إجارته.
والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجَرات، فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يُشارك بنفع بدنِه، وهذا بنفع مالِه، وما قَسَمَ اللهُ من رِبْحٍ كان بينهما كشَرِيْكي العنَاَن. ولهذا ليس العملُ فيها مقصودًا ولا معلومًا كما يُقصد ويُعلَم في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجبَ أن يكون العملُ فيها معلومًا.
لكن إذا قيل: هي جِعالة كان أشبهَ، فإن الجعالةَ لا يكونُ العملُ فيها معلومًا، وكذلك في كل عقد جائزٍ غيرِ لازمٍ، لكن هي جعالة شرطَ فيها للعامل جزءا مما يَحصلُ بعمله. كما إذا قال الأميرُ في الغزوِ: مَن دَلَّ على مالٍ للعدوِّ فله الرُّبُعُ بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز.
(ومَثَّلَ بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الثمرةِ ليس للمشتري في حصوله عمل أصلاً، بل العملُ كفُه على الباَئع، فإذا استأجرَ الأرض والشجر حتى حَصَلَ له ثمرٌ وزرعٌ كان كما إذا استأجر الأرضَ حتى يَحصُل له الزرعُ.
الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجرَ لينتفعَ أهلُ الوقف بممرِها، كما يقف الأرضَ لينتفع أهلُ الوقف بغَلَّتِها.
(ثم تكلَّم كلامًا طويلاً في المعنى وضربَ أمثلةً، ثم قال:)
فإن قيل: ابنُ عقيل جوَّز إجارةَ الأرض والشجر جميعًا لأجل الحاجة، وسلك مسلكَ مالكٍ، لكنْ مالك اعتبرَ القلَّةَ في الشجر، وابنُ عقيل عَمَّم، فإن الحاجةَ داعية إلى إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذِّرٌ أو متعسِّر لما فيه من الضرر، فجوَّز دخولَها في الإجارة، كما جوَّز الشافعي دخولَ الأرض مع الشجر تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غايةَ ما في ذلك جواز بيع ثمر قبلَ بدوِّ صلاحِه تبعًا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنصّ والإجماع فيما إذا باعَ شجرًا وعليها ثمر بادٍ، كالنخل المؤبَّر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى شجرًا وثمرا قبلَ بدوِّ صلاحِه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه جائز بدون الحاجةِ حتى مع الانفراد.
قيل: هذا زيادة توكيدٍ، فإن هذه المسألة لها مأخذانِ:
أحدهما: أن يُسلَّم أن الأصل يقتضي المنعَ، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في نظائره.
والثاني: أن يُمنَع هذا، ويقال: لا نُسلِّم أن الأصل يقتضي المنعَ، بل نهى النبي فَيِ عن بيع الثمر حتى يبدوَ صلاحُها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارةٍ، فنهيُه لا يتناولُ مثلَ هذه الصورة وأمثالَها من أنواع إلاجارة، لا لفظًا ولا معنى.
أما اللفظ فإن هذا لم يبعْ ثمرةً قبلَ بدوِّ صلاحِها، ولو كان قد باعَ ثمرة لكان عليه مَؤُونةُ التوفية، كما لو باعَها بعدَ بُدوِّ صلاحِها، فإن مَؤُونَةَ التوفية عليه، وهنا المستأجرُ للبستان كالمستأجر للأرض سواء
بسواءٍ إنما يتسلَّم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتدَّ الزرعُ ويَبدُوَ صلاحُ الثمر، كما يقوم على ذلك العاملُ في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: إن هذا مشترٍ للثمر فلنَقُلْ: إن المستأجر مشترٍ للزرع، وإن العامل في المساقاة والمزارعة والمضاربة مشترٍ لما يحصلُ من النماء. فإذا كان هذا لا يدخلُ في مسمَّى البيع امتنعَ شمولُ العمومِ له لفظًا.
ويمتنعُ إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمولِ العموم المعنوي له، لأن الفرقَ بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاقَ هذه الَإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكمَ أحدِهما حُكْمَ الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكلُّ من نظرَ في هذا نظرًا صحيحًا سليمًا تبيَّنَ له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تُسمَّى الضمانات، كما تسمِّيه العامةُ ضمانًا، وكما سمّاه السلفُ قبالةً، وليس هو من باب المبايعات، وأحكامُ البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مَؤُونةِ التوفيةِ على البائع، ومثل أنه لو باع الحبَّ بعد اشتدادِه وفرَّطَ في سَقْي الحنطةِ حتى لم يكمل صلاحُها، كان ذلك من ضمانِه ولم يستحقَّ الثمنَ. ولو قَصَّر المستأجرُ للأرض في السَّقْي وغيرِه حتى لم يَنْبُتِ الزرعُ كان ذلك من ضمانِه، لا من ضمانِ المؤجر. وكذلك بائعُ الثمرة إذا لم يَقُم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحُها كان النقصُ من ضمانه. ومستأجرُ الشجر إذا قَصَّر في خدمتِها حتى لم تُثمِر، أو أثمرتْ ثمرًا ناقصًا، كان ذلك من ضمانه.