الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنُهِيَ عن ذلك.
وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة
(1)
:
وراقٍ ليَرقَى في حِرَاءٍ وَنَازلِ
والمقصود هنا بيان ما دلّ عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن
إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى
.
وفي الحديث حكاية بلغَتْنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر أخلصتُ أربعين صباحًا، فلم أجد شيئًا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال لي: يابُنيَّ، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصتَ للحكمة.
فإن هذا المعنى حق، وهو أن
الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول
، ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك.
وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة والعبادة لأمور أخرى تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في
(1)
في سيرة ابن هشام (1/ 272). وصدر البيت:
وثور ومن أرسى ثَبِيْرًا مكانَه
أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث يُراد لذاته فيُحَبُّ لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبًا لذاته، وهذا هو المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم، ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وُعِدُوا به في الجنة، وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليفَ إنما تُفعَلُ لتحصيل هذه الغاية المطلوبة.
وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الآخرة بالنظر إليه، بل قد ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا يمكن أن ينكرها من وجدها.
وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضَحَّى به خالد بن عبد الله القَسْري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال:"أيها الناس ضَحُّوا تقبَّلَ الله ضحاياكم، فإني مُضَح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا". ثم نزل من المنبر فذبحه
(1)
.
فإنكار حقيقة الخُلَّة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن
(1)
أخرج هذه القصة البخاري في "خلق أفعال العباد"(ص 7) وغيره.
يُحِبَّ وأن يُحَبَّ، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو يريد الإحسان إلى عبده.
وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر -إن صحت الرؤيةُ- التمتعُّ
(1)
بها، كما ذكر ذلك أبو المعالي في "الرسالة النظامية"، وذكر أنه من أسرار التوحيد، وزعم أن المحدَث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذةً بشيءآخر.
وكذلك قال ابن عَقِيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، فقال: ويحك! هب أن له وجهًا، أتتلذذ بالنظر إليه؟
ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك غيره- فيما أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما
(2)
، وفيه:"اللهم بعلمك الغيبَ، وقدرتك على الخلق، أَحْينى ما كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني ما كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسَألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصدَ في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لاينفد، وقرةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ".
(1)
في الأصل:"نصحت الرؤية تمتع".
(2)
هو في المسند (4/ 264) وسنن النسائي (3/ 54) من حديث عمار بن ياسر، وأخرجه أحمد في المسند (5/ 191) والطبراني في المعجم الكبير (4932) والحاكم في المستدرك (1/ 516) من حديث زيد بن ثابت.
وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضًا فقط، إذ رؤيته عندهم بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرًا زائدًا على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يُمَوِّهون بالتعبير على المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا يُجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي.
ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك، اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تُدرِك المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تُدرِك الكليات، لا سيما بعد المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها.
وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جَهْم، لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه
(1)
أن المشاهدة ما التذَّ بها
(1)
فى الفتوحات المكية (1/ 610).
عارف قط.
وأما أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه:(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125))
(1)
، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، المحبوب المطلوب لذاته.
يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع
(2)
الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئًا ما حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبةَ الله وقصدَه لذاته؟ فيجاب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريًّا، إنما قاله طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ضرورية.
والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يُفسِدها، فيحيلنا إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي
(1)
سورة النساء: 125.
(2)
في الأصل:"قربه".